وحدة اليمن بين القانون الدولي ومخاطر الهندسة الإقليمية للانفصال

وحدة اليمن بين القانون الدولي ومخاطر الهندسة الإقليمية للانفصال
(قراءة تحليلية في بيان الخارجية السعودية، والتنسيق السعودي–الإماراتي، والتصعيد الأحادي للمجلس الانتقالي الجنوبي)
- حسن حمود الدولة
السبت 27 ديسمبر 2025
الإهداء
إلى القاضي الدكتور محمد جعفر قاسم، بما يمثّله من اجتهاد قانوني يسعى إلى توسيع أفق النقاش حول مفهوم تقرير المصير وحقوق المحافظات الجنوبية،
وإلى الوحدوي الكاتب والمحلل السياسي الأستاذ عبدالناصر المودع، بما يقدّمه من قراءة دستورية وقانونية صارمة تؤكد أن تقرير مصير الدولة لا يكون إلا بإرادة الشعب اليمني كله عبر استفتاء عام، وأن الوحدة ليست رغبات جزئية ولا وقائع قوة، بل عقد وطني جامع.
يأتي هذا المقال إهداءً إلى هذين الاتجاهين المختلفين في المقاربة والمتفقين في الحرص على النقاش القانوني، أملاً في أن يظل الخلاف بين الأفكار جسرًا للفهم لا ذريعة للتفكيك، وأن يكون القانون والدستور والإرادة الشعبية الجامعة هي الفيصل في قضايا المصير الكبرى.
———————————
لم يكن البيان الصادر عن وزارة الخارجية في المملكة العربية السعودية بشأن التصرفات الأحادية التي أقدم عليها المجلس الانتقالي الجنوبي في محافظتي حضرموت والمهرة بيانًا إجرائيًا عابرًا، بل حمل في لغته وما سكت عنه دلالات سياسية وقانونية عميقة تستوجب التوقف عندها. فعلى الرغم من إدانته الواضحة للتحركات العسكرية الأحادية، واعتباره إياها تصعيدًا غير مبرر أضر بمصالح الشعب اليمني وجهود التحالف، إلا أن البيان خلا بصورة لافتة من أي تأكيد صريح على وحدة الجمهورية اليمنية وسلامة أراضيها، وهي ثوابت لم تكن يومًا محل اجتهاد في الخطاب الدولي أو الإقليمي المتعلق باليمن، بل شكلت دائمًا مرجعية صلبة في قرارات مجلس الأمن ومواقف الأمم المتحدة.
في المقابل، شدد البيان على “عدالة القضية الجنوبية” دون تحديد إطارها الدستوري أو سقفها السياسي، ودون ربطها الواضح بمفهوم الدولة اليمنية الواحدة أو بالحل السياسي الشامل. هذا الاختلال في التوازن بين ما أُكّد عليه وما جرى تجاهله لا يمكن اعتباره مجرد سهو دبلوماسي، بل يفتح الباب أمام قراءة سياسية مقلقة، مفادها أن هناك توجهًا لإعادة تعريف القضية الجنوبية خارج الإطار الوطني الجامع، وتحويلها من مظلومية سياسية واجتماعية قابلة للمعالجة داخل الدولة، إلى كيان سياسي مستقل بذاته، بما يهيئ الأرضية لهندسة انفصال تدريجي، خصوصًا إذا ما وُضع البيان في سياق التنسيق المعلن والمستمر بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وفي ظل الدور الوظيفي الذي يلعبه المجلس الانتقالي الجنوبي على الأرض.
إن خطورة البيان لا تكمن فيما قاله فقط، بل فيما تعمّد عدم قوله. فحين يُغيب مبدأ وحدة الدولة في لحظة تصعيد عسكري تمس محافظات ذات ثقل جغرافي وسيادي واقتصادي، وحين يُعاد توصيف “القضية الجنوبية” بمعزل عن الإرادة الوطنية الجامعة، فإننا نكون أمام خطاب سياسي غامض ومريب، لا يعالج جذور الأزمة، بل يعيد إنتاجها بصيغة أكثر نعومة وأشد خطورة على المدى البعيد.
هذا الغموض يعيد تسليط الضوء على واحدة من أخطر الإشكاليات التي تواجه اليمن اليوم، وهي محاولة إعادة إنتاج مشروع التشطير تحت غطاء سياسي وحقوقي، وباستخدام انتقائي ومشوَّه لمبدأ “حق تقرير المصير”. فاستدعاء هذا المبدأ في غير سياقه التاريخي والقانوني، وتقديمه كذريعة لتفكيك دولة قائمة ومعترف بها دوليًا، لا يمثل دفاعًا عن الحقوق، بل تحريفًا متعمدًا لمفهوم قانوني استقر عليه النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
منذ إقرار مبدأ تقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، لم يكن هذا المبدأ صكًا مفتوحًا لتفكيك الدول، بل أداة تحررية موجّهة أساسًا للشعوب الواقعة تحت الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي. وقد كرّست الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الفهم في قرارها الشهير رقم (1514) لعام 1960، حين أكدت صراحة أن أي محاولة للمساس بالوحدة الوطنية أو السلامة الإقليمية لدولة قائمة تُعد مخالفة لميثاق الأمم المتحدة. كما حُددت ممارسة هذا الحق ضمن إطار ثلاثي واضح: الاستقلال التام، أو الارتباط الحر، أو الاندماج مع دولة مستقلة، دون أن يُفتح الباب، لا نصًا ولا ممارسة، أمام ما يُسمى “حق الانفصال” لأقاليم أو جماعات داخل دول ذات سيادة مكتملة الأركان.
السؤال الجوهري الذي تتجاهله الطروحات الانفصالية، ومعها بعض القراءات الفقهية المتساهلة، هو: من يملك هذا الحق أصلًا؟ فالشعب المقصود في سياق تقرير المصير، وفق الفقه الدولي الحديث، هو مجموع سكان الدولة ككل، أو سكان إقليم خاضع للاستعمار، وليس أقلية سياسية أو جغرافية داخل دولة مستقلة. ولو فُتح الباب لكل جماعة لتعريف نفسها كشعب مستقل، لتحوّل العالم إلى فسيفساء من الكيانات المتنازعة، وهو ما يجعل المجتمع الدولي حذرًا إلى أقصى حد من أي سابقة انفصالية، مهما بدت مغرية سياسيًا.
في هذا السياق، تُستحضر أحيانًا بعض الكتابات القانونية، ومنها اجتهادات القاضي الدكتور محمد جعفر قاسم حول “حق الشعوب في تقرير المصير والانفصال”، حيث يستعرض تطور المفهوم تاريخيًا ويشير إلى حالات انفصال شهدها التاريخ الدولي. غير أن هذه المعالجات، على أهميتها الأكاديمية، تبقى في إطار النقاش النظري العام، ولا تُنتج بذاتها مبررًا قانونيًا صلبًا لتطبيق الانفصال في حالة دولة مستقلة ومنسجمة قانونيًا كاليمن، إلا ضمن شروط استثنائية صارمة لم تتحقق، ولم يُجمع عليها المجتمع الدولي.
إن تصوير التشطير كخيار تاريخي أو كحق ثابت يتجاهل حقيقة موثقة في التاريخ اليمني ذاته، وهي أن تقسيم اليمن لم يكن نتاج إرادة يمنية، بل نتيجة تفاهمات استعمارية بين الدولة العثمانية والإمبراطورية البريطانية، تُوّجت باتفاقية 9 مارس 1914، التي لم يُستشر فيها اليمنيون، ولم تعبّر عن هويتهم أو تطلعاتهم، بل خدمت مصالح القوى الإمبراطورية. وقد ترسخ ذلك الواقع بفعل الاحتلال البريطاني في الجنوب، ووراثة الإمامة للحكم في الشمال بعد انسحاب العثمانيين، ما أوجد تشطيرًا مفروضًا، لا خيارًا وطنيًا.
أما وحدة 22 مايو 1990، فلم تكن صفقة سياسية عابرة، بل ثمرة نضال وطني طويل، بدأ بثورة 26 سبتمبر 1962 وثورة 14 أكتوبر 1967، وانتهى بإعادة الاعتبار لوحدة التاريخ والجغرافيا والهوية اليمنية. ولذلك، فإن أي محاولة للارتداد عن هذه الوحدة لا تمثل استعادة لحق تاريخي، بل إحياءً لوضع استعماري تجاوزته الإرادة الشعبية.
هذا المعنى يتكرس بوضوح في الدستور اليمني، الذي ينص صراحة على أن اليمن دولة واحدة، وحدة لا تتجزأ، وأن السيادة ملك للشعب اليمني كله، لا لأقاليم ولا لجماعات. كما تؤكد اتفاقية الوحدة في مادتيها (14) و(15) أن الوحدة أبدية وغير قابلة للتفاوض أو الطعن، وأن الدعوة إلى التشطير أو التحريض عليه تمثل جريمة كبرى. وهذه ليست شعارات سياسية، بل قواعد دستورية آمرة لا يمكن تعطيلها بإرادة أمر واقع، ولا باستفتاء جزئي، ولا بدعم إقليمي مهما بلغت قوته.
وفي هذا الإطار، لا يمكن فصل بيان الخارجية السعودية عن واقع التنسيق السياسي والعسكري المعلن مع دولة الإمارات العربية المتحدة. فإرسال فرق عسكرية مشتركة، وترتيب أوضاع المعسكرات، وإعادة انتشار القوات، يعكس إدارة إقليمية مباشرة للمشهد الأمني في محافظات يمنية سيادية، دون تفويض شعبي أو غطاء دستوري. وحين يُدار هذا المشهد دون تأكيد واضح على وحدة الدولة، فإن الخطر لا يقتصر على احتواء تصعيد آني، بل يمتد إلى فتح مسار تفكيك طويل الأمد، يجري تقديمه بوصفه “حلًا واقعيًا” بينما يفتقر إلى أي أساس قانوني أو وطني.
إن ما يُطرح اليوم من دعوات انفصالية، مهما تنوعت شعاراته ومسمياته، لا يمثل امتدادًا للجمهورية، بل نكوصًا إلى منطق ما قبل الدولة. والتاريخ والقانون والدستور وتجارب الشعوب تؤكد جميعها أن الدولة الوطنية، رغم ما تعانيه من اختلالات، تظل الإطار الأقدر على حماية التنوع وضمان الحد الأدنى من الأمن والاستقرار. أما المشاريع التي تُدار تحت عناوين “الحقوق” دون سند قانوني جامع، فلا تُنتج إلا خرائط ممزقة وصراعات مفتوحة.
واليمن، الذي دُفع ثمن تقسيمه ذات يوم دون إرادته، لا يملك اليوم ترف السماح بإعادة التجربة، مهما تغيّرت اللغة، أو تبدّلت الرايات، أو أُحكمت هندسة الخطاب.
اقرأ أيضا: أحمد عبده ناشر العريقي: المثقف والرأسمالي الثائر المنسي في الكتابة التاريخية ( ١-٢ )



