مرثية الفكر والوجدان: في رحيل الرفيق ناجي الجوفي

مرثية الفكر والوجدان: في رحيل الرفيق ناجي الجوفي
- الدكتور أمين الجبر
مرثية الفكر والوجدان: في رحيل الرفيق ناجي الجوفي عضو اللجنة المركزية.
السكرتير الأول لمنظمة الحزب الاشتراكي اليمني. مديرية جبل الشرق..محافظة ذمار
الخميس5يونيو2025_
ما أقسى أن يُختزل الإنسان في غياب، وأن يتحول الصوت إلى صمت، والحركة إلى ذكرى. كيف لنا أن نستوعب أن الموت يخطف الأرواح بلا استئذان، ويترك للأحياء جرحاً لا يندمل إلا بنداء الإيمان: إنا لله وإنا إليه راجعون؟
إن الفاجعة لا تكمن في الرحيل وحده، بل في ذلك الانزياح المفاجئ الذي يخلقه الموت في نسيج الوجود، حيث يصبح العزيز غائباً عن العين، لكنه حاضرٌ في كل تفصيل من تفاصيل الحياة. ناجي لم يرحل جسداً فحسب، بل رحل بكل تلك المساحات التي كان يشغلها في قلوبنا، في أحاديثنا، في نضالنا، حتى في صمتنا. لقد صار فراغه ملموساً كالظل، يلاحقنا في كل مكان.
في زمنٍ انحسرت فيه المبادئ وصارت القيم سلعاً في سوق المصالح، كان ناجي استثناءً يُذكر فيُشكر. لم يكن مجرد رجلٍ عابرٍ في تاريخ الحزب أو المجتمع، بل كان مشروعاً إنسانياً متكاملاً، إن جاز التعبير، جمع بين الفكر والوجدان، بين التنظير والممارسة، بين القيادة والزمالة.
لم يكن ناجي مثقفاً من أولئك الذين يحملون الكتب كأثقال، بل كان مثقفاً عضوياً بالمعنى الغرامشي للكلمة، ينزل بالفكر إلى الشارع، ويحول النظرية إلى ممارسة يومية. كان يؤمن بأن الاشتراكية ليست شعارات تُرفع، بل أخلاقٌ تُعاش، وعدالةٌ تُصنع بيدين نظيفتين.
في زمن صارت فيه المناصب الحزبية وسيلة للترقي الاجتماعي، بقي ناجي وفياً لفكرة الحزب كوسيلة للتغيير، لا كجسرٍ للمصالح. تقلّد مناصب قليلة، لكنه ظل ذلك الإنسان البسيط الذي لا تعرف إليه الكبر طريقاً، والذي كان يعتبر السلطة مسؤوليةً لا امتيازاً.
في مجتمعٍ يُختزل فيه الوظيفة العامة في الراتب والامتيازات، كان ناجي يعتبر عمله في الزراعة والري رسالةً وطنية. كان يؤمن بأن نزاهة الموظف هي أعلى درجات المقاومة في زمن الفساد، وأن البساطة في التعامل هي جوهر الأخلاق الثورية.
الموت لا ينتصر إلا عندما ننسى، أما إذا بقيت الأفكار حية، والمواقف ماثلة، فإن الرحيل يصبح مجرد انتقال من عالم الشهادة إلى عالم البقاء في الضمير الجمعي.
لقد علمنا ناجي أن الثورة ليست حدثاً عابراً، بل هي مسيرة مستمرة، وأن المناضل الحقيقي هو من يظل شامخاً كالجبال، حتى عندما تتهاوى كل الشعارات. كان يعرف أن التاريخ لا يرحم الضعفاء، لذا ظل صلباً في مواقفه، رفيقاً في تعامله، شجاعاً في نقاشاته، لا يخشى إلا الله، ولا يتراجع عن مبدأ.
ستبقى كلماتنا قاصرة عن وصف ما خلّفه رحيلك فينا، لكننا نعاهدك أن نُحمّل أفكارك الأجيال القادمة، وأن نُذكّر بأن في هذا الزمن الرديء ما زال هناك من يستحق لقب المناضل.
سنظل نذكرك كلما رأينا إنساناً يرفض الانحناء، وموظفاً يرفض الرشوة، وحزبياً لا يبيع مبادئه بمنصب. سنظل نذكرك كلما رأينا في عيون الشباب ذلك البريق الذي كان في عينيك حين تحدثت عن العدالة، وعن عالمٍ أفضل.
عشنا معك رفيقاً، وسنموت على دربك رفيقاً.. حتى لو تغيرت المسارات، وتشعبت الطرق، فستظل روحك حاضرة في كل خطوة نخطوها نحو الحرية.
الفقدان يُذكّرنا بأننا كائنات هشة، لكنه أيضاً يُذكّرنا بأننا كائنات قادرة على الحب، على التضحية، على البقاء. ناجي لم يمت، لأنه عاش لفكرة، والفكرة لا تموت. لقد صار جزءاً من ذلك النور الذي ينير الدرب لكل من يبحث عن معنىً للحياة في زمن العبث.
اللهم أرحم أخي ناجي، وأسكنه فسيح جناتك، واجعل حياته سنداً لنا في ظلمات هذا الزمن، واجعل رحيله درساً لنا في أن العمر ليس بعدد السنين، بل بعدد المواقف التي تُخلّد الإنسان.
إنا لله وإنا إليه راجعون..
لروحك السلام، أيها الرفيق الذي صار ذكرى.. وستبقى فكرة طيبة ملهمة بإذن الله تعالى..
اقرأ أيضا للكاتب:الدكتور عبدالله المجاهد.. سيرةُ بَانٍ وإرثُ مُلهِم
