كتابات فكرية

مجرد تأمل .. في إفلاس الإلحاد وتهافت الوهم العلموي

مجرد تأمل .. في إفلاس الإلحاد وتهافت الوهم العلموي

مجرد تأمل .. في إفلاس الإلحاد وتهافت الوهم العلموي

  • الدكتور أمين الجبر

الخميس29مايو2025_

إهداء.. إلى صديقي الذي أحبه بعمق الأستاذ علي محمد صبر

ما يُصدمُ المُتأمِّل في خطابِ شبه الملحد – أو هاوي الإلحاد المُتطفِّل على العقلانيّة – ليس مجرّدُ سُخْفِ الحُجَج، بل التناقضُ الوجودي الذي يَحمِلُه في صميمِ رؤيته. فهو يَرفضُ الميتافيزيقا باسم العلم، لكنّه يَنسجُ بديلاً ميتافيزيقيّاً أكثرَ هشاشةً، يقدّسهُ كـ”حقيقةٍ مطلقة”. يدّعي التحرّرَ من الدين، لكنّه يَصنعُ من إلحادِه ديناً جديداً، بأساطيرِه الخاصّة: أسطورةِ “العقلِ المُطلق”، وخرافةِ “المادةِ الأزلية”، ووهمِ “الصدفةِ الخلّاقة”.

يَعتقدُ الملحدُ الواهمُ أنّه يُفكّرُ علميّاً، لكنّه في الواقع يُمارسُ نوعاً من الاستلابِ المعرفي: 

– يُنكرُ الغيبَ باسم  الدليل الماديّ، ثمّ يُؤمنُ بـ”اللامتناهي الماديّ” بلا دليل. 

– يَسخرُ من فكرةِ “الخالق”، ثمّ يَنسِبُ للطبيعةِ صفاتَ الإله (الخلق، التنظيم، الإرادة). 

– يَزعمُ أن الدينَ خرافةٌ بدائيّة، ثمّ يُقدّسُ نظريّاتٍ علميّةً غيرَ مكتملةٍ كأنها وحيٌ مُنزَل. 

هنا يتحوّلُ الإلحادُ إلى ديانةِ العدم، حيثُ يُعلَنُ أن لا معنى هو المعنى الوحيد، وأن العبث هو الحكمةُ القصوى، لكنّ هذا التناقضَ لا يُدركه صاحبُه، لأنّه يُحوِّلُ الجهلَ بالغيب إلى ادّعاءٍ بمعرفةِ اليقين.

الأخطرُ في هذا الخطابِ هو الغرورُ الأنطولوجي الذي يَجعلُ الملحدَ يعتقدُ أن: 

– عقلهُ الصغيرُ يُحيطُ بأسرارِ الكونِ اللامتناهي. 

– شكُّه الشخصي يُبطِلُ إيمانَ ملياراتِ البشر عبرَ التاريخ

– العلم (الذي هو نتاجٌ بشريٌّ تراكميٌّ ناقصٌ) أصبحَ بديلاً عن الله.

لكنّ السؤالَ الجوهريَّ: إذا كان العقلُ البشريُّ عاجزاً عن فهمِ كلّ تفاصيلِ الذرّةِ أو الدماغ، فكيف يُفوّضُ إليه تفسيرُ الوجودِ كلّه؟. 

الإلحادُ ليسَ غيابَ الدين، بل هو نقيضُه التوأم: 

– له أنبياؤه (داروين، نيتشه، دوكنز). 

– وله نصوصُه المقدسة (نظرياتٌ قابلةٌ للتعديلِ أو الدحض). 

– وله  طقوسُه (الهجومُ على الرموزِ الدينية، تبجيلُ الشك). 

– وله جحيمُه (العدمُ المطلقُ بلا عدلٍ ولا حساب). 

بل إنّ الإلحادَ المعاصرَ يُقدّمُ نفسَه كـ “خلاصٍ” من الدين، لكنّه في الحقيقة استبدالٌ لوهمٍ بوهمٍ أكثرَ عبثيّة فبدلاً من الإلهِ الخالق، يُصبحُ “الانفجارُ العظيم” هو الخالقُ (بلا سبب)، والتطوّر هو المهندسُ (بلا غاية)، والصدفة هي الحكمةُ (بلا حكيم).  

المأساةُ ليست في إيمانِ المؤمن، بل في انسحاقِ الملحدِ تحت وطأةِ عدميّته: 

– الدينُ يَمنحُ الحياةَ معنى غائيّاً(خلقٌ، عدلٌ، خلود)، بينما الإلحادُ يُحوّلها إلى ضربةِ حظٍّ عابرةٍ في كونٍ بلا ضمير. 

– الدينُ يَرسمُ للإنسانِ  رسالةً سامية (العبادة، الأخلاق، البناء)، بينما الإلحادُ يُختزله إلى ذرةٍ طائشةٍ في فراغٍ ماديّ. 

– الدينُ يُقدّمُ الموتَ كممرٍّ إلى حياةٍ أبدية، بينما الإلحادُ يجعلُه انتحاراً كونيّاً بلا عودة.. 

فأيُّهما أكثرُ عقلانيةً: إيمانٌ يُنظّمُ الوجودَ ويُعلي قيمةَ الإنسان، أم إلحادٌ يُعيدُه إلى همجيّةِ المادّةِ الصمّاء؟ 

الإلحادُ ليسَ تحرّراً، بل هو انهزامٌ أمامَ سؤالِ الوجود، وهروبٌ من جوابِه الأصيل. وهو لا يُنتجُ إلّا  إنساناً مكسوراً: عقلُه يُنكرُ ما لا يُدرك، وقلبُه يَئنُّ تحتَ ثقلِ العدم، وحياتُه تَذوبُ في فراغٍ لا يُملؤه إلّا الوهمُ أو اليأس. 

فإن كان الدينُ يُعلّمُ أن “مَن فقدَ اللهَ فقدَ نفسَه”، فإنّ الإلحادَ هو  الضريبةُ التي يدفعُها مَن ظنَّ أنّه اكتفى بنفسه..

 اقرأ أيضا للكاتب:محكمة الضمير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى