عبدالباري طاهر يكتب عن حمد عمر بحاح وأشياؤه
عبدالباري طاهر يكتب عن حمد عمر بحاح وأشياؤه
محمد عمر بحاح وأشياؤه
كتب :عبدالباري طاهر
يسمي عودته الثانية إلى عدن عام 1960، بعودة الروح، ويصفها “كانت لا تزال فيها بقية من ازدهار، بقايا شيء من كل شيء”، ويصف حالة البطالة، وحالة انقلاب 20 مارس 1968، ويسرد بداية فقدان عدن الطابع المدني بسبب زحف أعداد من الريف، وتردد الإذاعة “كل الشعب قومية وأنا قومي ابن قومي”، بدلًا من “هات يدك على يدي أكون لك وتكون لي”. ويورد جائحة الأيام السبعة، حين اجتاحت أعداد غفيرة من أبين ولحج وشبوة، عدن، حاملين الفؤوس، ويصرخون: “واجب علينا واجب تخفيض الرواتب واجب”! ويتساءل متعجبًا كيف يترك الفلاح أرضه ويتفرغ طوال أيام لعمل يعتقد أنه يقرب المدينة من الريف، بدل أن يسعى لتحسين حياته لتكون بمستوى حياة المدينة! ويضيف: “لا بد من تدمير المدينة لتصبح ريفًا”.
والواقع أن التوحد حينها كان مأخوذًا بالتجربة الصينية وغزو المدينة من الريف، والثورة الثقافية الصينية، وسرعان ما تحول النهج إلى الأنموذج السوفيتي في طبعته الستالينية، والنموذجان بعيدان كلية عن أوضاع جنوب اليمن (الكاتب). ويوجه نقدًا في غاية النضج والأهمية، فيسرد “إنه الزمن يتغير، عنوانه الحرية والاستقلال، وباطنه يشي بالعكس”. حظرت الأحزاب إلا ما كانت هويتها يسارية اشتراكية، وأغلقت الصحف الخاصة، ولم يعد في المدينة التي كانت تصدر فيها نحو ستين صحيفة ومجلة، ما بين يومية وأسبوعية وشهرية، إلا صحيفة واحدة شبه رسمية، وأخرى للحزب الحاكم.
يضيف: “كانت تلك أول ضربة لحرية الرأي، وحق المجتمع في تأسيس الأحزاب، والانضمام إليها، وإصدار الصحف، وسيؤسس هذا النظام الحزب الواحد، والرأي الواحد!”. وكانت بعض الأقلام المتطرفة تبنت خطابًا عدائيًا تجاه كبار ضباط الجيش، ممن سمتهم “شلة العقداء”، وتوعدتهم بأن تجعل من جماجمهم منافض للسجائر!
يضيف: “شيء مرعب، يوقف الدماء في العروق. كنت أدرك بمرارة أن هذه الرغبات المجنونة المعبر عنها علنًا ستدمر ماضي عدن، ولن تضع مستقبلًا يمكن التفاؤل به”.
وهي رؤية مبكرة ناقدة وصادقة.
يتحدث عن فشله في الحصول على وظيفة، وعمله المؤقت في زنجبار إرم ذات العماد، ويتناول مؤتمر زنجبار 68، وهو المؤتمر الذي قاده اليسار في الجبهة القومية.
تنبأت له جدته “أبوللو” بأن يصبح كاتبًا، ويأتي على الاعتقالات التي قام بها الجيش في انقلاب الـ20 من مارس 68، ومنع قحطان الشعبي استيلاء الجيش على السلطة، ورفض أن يلعب دور المحلل، عاد الجيش إلى ثكناته، وأفرج عن المعتقلين، رحلت الأزمة ولم تنتهِ.
يقرأ الأزمة داخل الجبهة القومية بذهنية صافية، وعقل مستنير، ويرى أن الحرب الأهلية التي اندلعت قبيل الاستقلال قد رسمت اتجاهات الأحداث، ويشير إلى دور البريطانيين في صنع الأزمة، وكانت نواياهم خبيثة، ويرى السارد أن “المشهد المرعب لم يكن يحتاج إلى هيتشكوك بقدر ما كان يحتاج إلى شكسبير الذي وصف عملية اغتيال يوليوس قيصر بأنها أقبح عملية اغتيال في التاريخ”.
فما هو أكثر من اغتيال شعب قبحًا وبشاعة من أن يتفق الجميع على أن يقتلوه في ليلة فرحة؟!
يورد صراع التحرير والقومية الحرب الأهلية التي تواصلت حتى اليوم، ويشير إلى تصفية جيش الجنوب العربي، تمت تصفية جيش الجنوب اليمني العقائدي، الذي بنته اليمن الديمقراطية الشعبية، وينسب إلى مسؤول في الخارجية الأمريكية، القول: “إن من بين أسباب تأييد بلاده لعلي عبدالله صالح في تلك الحرب، تدمير الجيش العقائدي في الجنوب”، ويشير إلى أن ما حدث ليس كله مؤامرة خارجية، ولا ينفي وجودها، فلا بد أن يكون للمحليين نصيب.
يسرد أحياء عدن حيًا حيًا، وحارة حارة، وسكان الأحياء والحارات والأدباء والفنانين والتجار والصحفيين والناشطين السياسيين، وأصحاب الدكاكين والمهن، وأسماء الأسر، والجوار، ولا ينسى تدوين أسماء أصدقائه، والتعرف عليهم، ومعاشرتهم، ومن أهمهم حسن العدني من حافة القاضي، ويصفه “بعيد عن صراع الجبتهين”، تعرف عليه فتطوع بإرسال محاولة من محاولاته الشعرية الباكرة إلى صحيفة الرابع عشر من أكتوبر، لم ينشرها الصحفي المصري (اليمني) أمين رضوان، وعندما سأله عن عدم النشر قال له يا بني اكتب أي شيء غير الشعر، فكانت البداية.
توطدت العلاقة باليمني أمين رضوان، يسرد قصة مجيء أمين رضوان إلى عدن، وعمله في الرابع عشر من أكتوبر، كانت شقته ملتقى: عمر الجاوي، فضل النقيب، القرشي عبدالرحيم سلام، محمد المساح، عندما يأتي لزيارة عدن، ومحمد عبدالله مخشف، وآخرين.
ويورد على سبيل النكتة تساؤل المصري. هل تعرف أمين رضوان فيجيبك مين اليمني، لا المصري، لا نعرف إلا أمين رضوان اليمني، وحقًا ارتباط أمين رضوان باليمن واليمنيين متين، رغم ما لحق به من اعتقال، واختفاء قسري، وتهديد حياة، ولولا دفاع الصحافة والنقابة الصحفية المصرية، وبالأخص روز اليوسف وأصدقائه اليمنيين، لأعدم في من أعدم.
ويسرد إغلاق الصحف بقرار جمهوري. يدون بداية عمله في صحيفتي الـ14 من أكتوبر والثوري، وكان عبدالواسع قاسم، رئيس تحرير صحيفة الثوري، هو من نصحه وزميله صالح حليس، بكتابة رسالة للأمين العام للحزب، وبدأ الصحافة من بوابة الأدب (القصة القصيرة).
عين سكرتير تحرير للشرارة المسائية التي أصدرها صالح الدحان عام 1970، ويقدم وصفًا دقيقًا للحالة الصحفية وللثلاث الصحف، أكتوبر والثوري الناطقة باسم الحزب، ودور الشرارة الناقد، وقصيرة العمر، ويقف طويلًا إزاء تجربتها الساخرة، ويتوسع في أوضاع المهنة وزملائه، ويتناول بحب طموح اليسار رغم الانتقاد، وتحاور فصائل اليسار الثلاثة، وانتشار التعليم المجاني والتطبيب، واختفاء البطالة، وبناء القوة، وإنشاء الجيش، ويصف كاريزما سالمين، وبساطة فتاح، وشعبية سالمين، ونزوله الميداني إلى مختلف المناطق، ودوره العملي، ويستشهد بقريبين منه، ويصف مرافقته للرئيس لزيارة يافع، وحضرموت.
ويصف حالة الود التي كانت قائمة حينها بين الرئيس سالمين والأمين العام عبدالفتاح إسماعيل، وحضر وعرف جوانب منها، ومسرده بديع عن أرض الأحقاف، وعاد، والبعد التاريخي والعلاقات مع مصر، ودور الحضارم في آسيا وإفريقيا.
يبكي بحرقة مرارة ماضي الحريات الصحفية في عدن، ويثني ثناء عاطرًا على تجربة الشرارة التي كان سكرتير تحرير لها، ويقيم تقييمًا رفيعًا فيها رئيس التحرير صالح الدحان، ويقف مطولًا إزاء زيارة الرئيس سالمين لحضرموت، ودراسته فيها، وارتباطه العاطفي بها، وكانت أول زيارة له إلى بيونج يانج، ويقدم وصفًا دقيقًا، وميزة السارد الاستقصاء في الإلمام بتجربة البلد الذي يزوره وأوضاعه، وقيمه وتقاليده، وطبيعة أوضاعه السياسية، ورغم قراءتي عن كوريا فقد وجدت في ما كتبه الجديد، خصوصًا في التأليه حد الخرافة والتزمت حد السلفية، والتقديس، ويدون عمله في موسكو كسكرتير وملحق إعلامي ما بين 83 و1989، ويصف بدقة موسكو ومعالمها الحضارية، وإصابة الأستاذ محمود الحاج بالصدمة الحضارية أثناء الزيارة، وزيارته لألمانيا مرتين، في نهايات مسرده يورد قصة اعتقال أحمد العبد سعد وعمر باوزير الصحفيين في صحيفة أكتوبر، وخريجي جامعة عين شمس، وقد أعدم أحمد العبد، ونال الاعتقال عمر باوزير، وكانت التهمة الانتماء للتيار الناصري، ومحاولة تشكيل حزب ناصري، ويشير إلى ما كتبه حمدان عيسى محمد سيف، عن أحمد العبد، كما يأتي على ذكر اعتقال الصحفي عبدالله عبدالإله بسبب خطأ فني، واستدعاء بحاح بوصفه مدير التحرير، وسعيد عولقي كضابط نوبة، إلى مجلس الوزراء، وتحقيق سالم ربيع معهما.
ويورد تحاور فصائل اليسار الثلاثة: الجبهة القومية، والاتحاد الشعبي الديمقراطي، والطليعة الشعبية، للتوحد. مفضلًا خيار احتفاظ كل تنظيم باستقلاليته، حماية للديمقراطية، والاكتفاء بالتنسيق ومن باب مراعاة الدقة والحذر، يستخدم “ربما كان الأفضل”.
وقد أكدت الأحداث دقة وصواب الرأي الذي تمسك به الدكتور أحمد قايد الصايدي في ما يتعلق بالطليعة، وعمر الجاوي وخالد فضل منصور وخالد حريري في ما يتعلق بحزب العمل في وحدة الفصائل الخمسة مع التنظيم السياسي.
يشير إلى أن سالم باجميل، وكان رئيسًا لصحيفة الرابع عشر من أكتوبر، لم يستطع منع إعدام أحمد العبد، ولا اعتقال عمر باوزير، لأن التهمة لم تكن بسبب رأي صحفي، ويتحدث عن عودة عمر باوزير إلى عمله في الصحيفة، وإعادة الاعتبار للصحفي الشهيد أحمد العبد سعد في المؤتمر الوحيدي للصحفيين اليمنيين عام 1990، في صنعاء، وحقيقة الأمر ذلكم عمل طيب، ولكنه لا يكفي، فقضايا الإعدامات، والحروب، والفتن، والغبن الاجتماعي، والمظالم، لا تحل إلا بعدالة انتقالية، عبر مؤتمر وطني عام، أو مائدة مستديرة تطرح فيها كل هذه القضايا، ويصل الفرقاء فيها إلى حلول منصفة مقنعة، ومرضية، وهناك تجارب عديدة في العالم، وبالأخص أنموذج راوندا واليمن نفسها في صراعاتها الكاثرة.
“أشيائي” سيرة محمد عمر بحاح العطرة، مغايرة ومختلفة عن كثير من سير البطولات الزائفة التي ما قتلت ذبابًا كإبداع قباني، ومغايرة ومختلفة عن سيرة محمد شكري “الخبز الحافي” التي هتكت قدسية التابو.
يوجه محمد شكري النقد لصياغات أدبية متحذلقة، وبكثير من الحشمة والتستر، مشيرًا إلى ما قاله عبدالكبير الخطيبي: “نحن نسمح للدعارة أن تكون في الشارع، ولا نسمح لشخصية روائية أن تعهر”.
أشياء محمد عمر بحاح مختلفة عن اللونين المشار إليهما. يتناول والاس مارتن في كتابه “نظريات السرد الحديثة”، السرد في السيرة الذاتية، والتحليل النفسي، ويرى أن كتاب السير الذاتية معرضون للخطأ بمقدار ما يتعرض الناس الآخرون، فهم كما يرى غالبًا ما يسلطون على أنفسهم أحسن ضوء، طامسين بعض الحقائق، مخفقين في التعرف على جوانب أخرى، وناسين وقائع يستطيع كتاب السير إظهار أهميتها.
اقرأ أيضا:عبدالباري طاهر يكتب عن القاسم بن علي الوزير.. والحرث في حقول المعرفة