كتابات فكرية

خاطرة من وحي مقال “بطلان امتلاك الحقيقة” للأستاذ عبد العزيز البغدادي

خاطرة من وحي مقال “بطلان امتلاك الحقيقة” للأستاذ عبد العزيز البغدادي

بقلم: حسن الدولة

الثلاثاء29يوليو2025_

عندما قرأت مقال الأستاذ عبد العزيز البغدادي الموسوم بـ “بطلان دعوى امتلاك الحقيقة”، أحسست وكأن المقال يلامس جرحا عميقا في قلب الوعي الإنساني، ويكشف أحد أكثر الأوهام رسوخا: وهم امتلاك الحقيقة.

ليس أشد على الإنسان من أن يُقنع نفسه بأنه قد بلغ من العلم منتهاه، فيعطّل بذلك عقله عن البحث ويكمّم فمه عن السؤال، ويُغلق نوافذ روحه في وجه نور الحقيقة الذي لا يُحدّ.

وقد أحسن العلامة البغدادي حينما استند إلى الأسئلة الفلسفية العميقة التي طرحها الأديب والفيلسوف اللبناني الراحل ميخائيل نعيمة، حيث قال في “زاد المعاد”:

(أن تكن سبل العقل كما يزعم الكثير من الناس هي السبل الوحيدة إلى الحقيقة، فأين هو الإنسان الذي في وسعه أن يقطعها في خلال عمر واحد؟)

هذا التساؤل يفتح لنا الباب واسعا للتأمل في محدودية الإنسان ومحدودية أدواته، وعلى رأسها العقل، فكيف يُسمح لمن هو محدود الزمان والمكان والعقل أن يدعي الإحاطة بالمطلق واللامحدود؟

لقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الاستحالة في آيات بديعة من سورة الكهف:

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}

وفي سورة لقمان:

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

فما أعجز الإنسان أمام حكمة الله اللامتناهية! وما أضيق عقله إن لم يتّسع لرحابة الشك الإيجابي، والتساؤل المستمر، والتواضع المعرفي.

لقد أضاء ميخائيل نعيمة في “زاد المعاد” فكرة لافتة مفادها بأن الخيال أهم من العقل، لأنه هو الذي يجرؤ على اقتحام المجهول، أما العقل فهو أداة تحفظ وتوازن، تضبط ولا تبتكر وحدها.

وقالها صراحة بأن العقل، مهما علا، يظل لجامًا لا جناحا، وأما الخيال فهو الجناح الذي يحلق بالإنسان إلى آفاق الحقيقة.

وما بين العقل والخيال، تنبثق الحرية، تلك التي دعا إليها المقال بكل جرأة ووضوح، وفضح الاستبداد الذي لطالما تذرع بالدين أو العقل لفرض “حقيقته” على الناس.

لقد وُفّق بحق أخي الأستاذ عبد العزيز البغدادي في تبيان أن ما يفعله المستبدون ليس دفاعا عن الحقيقة، بل هو خنق لها، إذ يجبرون الناس على عبادة معتقداتهم بالقوة، في مخالفة صريحة لنصوص الدين ذاته:

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وقوله اعز من قائل: {وقل الحق من ربكم فمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}

الحقيقة ليست ملكًا لأحد، ولا تتجسد في شخص، ولا يُعبّر عنها فرد أو سلطة. إنها نورٌ كوني، يستحيل على البشر إدراكه كاملًا. ولهذا، فإن ادعاء امتلاك الحقيقة لا يُعبّر عن الإيمان بها، بل عن السعي لقتلها، لأن من يمتلك شيئًا يضعه في قبضة يده، والحقيقة لا تُقبض، بل تُرى وتُطلب وتُدرك جزئياً فقط.

ومن ثم، فإن كل من يدعي امتلاك الحقيقة إنما يضع نفسه في موضع الألوهية، ويُغلق باب البحث والتفكر، فيتحول إلى مستبدّ، ولو لم يكن حاكمًا.

الله ما أعظم ما قاله أخي وصديقي العزيز عبد العزيز  البغدادي، وهو يفضح تلك العلاقة الوثيقة بين الاستبداد واحتكار الحقيقة! وما أصدقها حين يقول:

(من يدّعي امتلاك الحقيقة هم أبعد الناس عن الوصول إليها، وهي دعوى تحمل محاولة القضاء على متعة البحث عن الحقيقة ومشاقها).

العدالة، الحرية، الحقيقة، الخيال، والعقل، كلها مفاتيح متكاملة، لا يصح منها مفتاح دون الآخر.

وفي الأخير، أقف عند ذلك البيت الرائع الذي استشهد به استعاذ الجليل عبد العزيز وهو ما تبقى الحياة كما قال البردوني:

(ورحتُ من سفرٍ مُضنٍ إلى سفرٍ أضنى … لأن طريق الراحة التعبُ)

فلنواصل تعبنا في طريق الحرية والبحث، لا لنمتلك الحقيقة، بل لنُبقي نار السؤال متقدة، ولنرفض أن نكون عبيداً لأكفان العقل المحنطة بالحواس الخادعة، تماماً كما قال نعيمة.

اقرأ أيضا:يوميات البحث عن الحرية .. بطلان دعوى امتلاك الحقيقة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى