ثقافة وسياحةكتابات فكرية

حُجّة الإسلام الغزالي… الفيلسوف الذي تسلّق عليه ابن رشد

حُجّة الإسلام الغزالي… الفيلسوف الذي تسلّق عليه ابن رشد

  • بقلم: حسن الدولة

الأربعاء 19 نوفمبر 2025-

كان أبو حامد الغزالي واحدًا من تلك القمم الفكرية التي يصعب الإحاطة بها في مقال أو تعليق عابر، فهو من الرجال الذين جمعوا من العلوم والذوق والمعرفة ما لم يجتمع لكثير من العلماء. وقد قال عنه ابن طفيل في مقدمة حي بن يقظان إن من ينكر استمرار الوحي والإلهام فقد ضيّق رحمة الله الواسعة، والغزالي كان ممن ذاق شيئًا من ذلك، لكنه لم يصرّح به، لأن المصارحين به تراق دماؤهم، وقد سُئل عن سرّ تلك الروح التي ناجته فقال:

لقد كان ما كان مما لست أذكره * فظنّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر.

وتتبع ابن طفيل أقواله فوجده يكفّر الفلاسفة في تهافت الفلاسفة في ثلاث مسائل ويبدّعهم في سبع عشرة مسألة، ثم يعود في مواضع أخرى لينقض ذلك أو يخففه، فيصرّح في المنقذ من الضلال وفي ميزان العمل أن البعث الروحي هو عقيدة الصوفية المحققين على القطع، مع أنه كفّر الفلاسفة بسبب قولهم بالبعث الروحي في التهافت. ولكن من لم ينتبه لما كتبه الغزالي في مقدمات التهافت ظنّ ذلك تناقضًا، فقد أوضح بجلاء أنه يناقش الفلاسفة لا بما يعتقده هو، وإنما بما يقوله خصومهم من علماء الكلام، فهو يعرض حجج الأشاعرة والمعتزلة على الفلاسفة في عشرين مسألة، وافقهم على سبع عشرة وكفّرهم في ثلاث، لأن هذا هو موقف المتكلمين لا موقفه الشخصي. ورأيه الحقيقي صرّح بأنه سيفصله في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد، أما التهافت فميدان مناظرة لا ميدان تقرير عقيدة.

وكان الغزالي يرى أن الحقائق على ثلاثة مستويات: ما يقال للعامة حماية لدينهم، وما يقال للمتعلم بحسب طاقته وفهمه، وما لا يصرّح به إلا لمن يشاركه المقام والذوق، ولهذا قال:

خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به * في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل.

وله تعليق نفيس في آخر ميزان العمل قال فيه: “ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتندب للطلب فناهيك به نفعًا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال.”

وكان يؤمن بأن الفتور عن طلب السعادة حماقة، وأن الطريق إليها علمٌ وعمل، وأن بعض الحقائق يدرك بالتحصيل وبعضها لا يدرك إلا بنور إلهي: “فليكن الفزع إلى الله في مظان الحيرة.” وهو الذي قال في إعلاء شأن العقل: “ومن كذّب العقل فقد كذّب الشرع، إذ بالعقل عرف صدق الشرع، ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي.” فهو يقدّم العقل على النقل من حيث كونه أداة فهم النقل، وهذا هو نفسه موقف القاسم بن إبراهيم حين قال إن الله احتج على العباد بثلاث حجج: العقل، والكتاب، والرسول، وجعل العقل أولها لأنه به عرف الكتاب والرسول.

والغزالي لم يكن عدوًا للفلسفة كما يظن المتسرعون، بل كان فيلسوفًا كبيرًا، وله مؤلفات في المنطق والبرهان لا يكتبها إلا فيلسوف محقق، مثل معيار العلم ومحك النظر وميزان العمل، وفيها أسّس لقواعد عقلية صار يرجع إليها حتى الذين ردّ عليهم. بل إن الدراسات المنصفة تقر بأن شُهرة ابن رشد نفسه إنما قامت على ردوده على الغزالي؛ فالغزالي هو الذي استفزّ ابن رشد، وأجبره على الظهور والكتابة، ولولا تهافت الفلاسفة لما كتب ابن رشد تهافت التهافت، ولولا فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة لما كتب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ولولا قانون التأويل للغزالي لما كتب ابن رشد الكشف عن مناهج الأدلة. وبذلك يصحّ القول إن ابن رشد تسلّق على صرح الغزالي، وإن الغزالي هو الذي أخرج ابن رشد إلى دائرة الضوء، فصار ردّه على الغزالي ميدان اشتهاره الأول.

وقد عاش الغزالي حياة فكرية وروحية عجيبة، فكان أستاذًا في النظامية في بغداد وحوله أربعمئة من كبار الطلبة، ثم أصابته أزمة روحية جعلت لسانه ينعقد عن التدريس، وشعر بأن قلبه بات معلقًا بالدنيا تعلقًا يفسد عليه صدقه، فترك بغداد بما فيها من جاه وسلطان، ومضى إلى الشام معتزلاً في صومعة الجامع الأموي، وظل عشر سنوات في مجاهدة وعبادة وتأمل، يكتب في تلك الفترة أهم كتبه، ثم أدرك أن الخلوة لا تكفي والأمة في محنة، فقال لنفسه: “ماذا تغنيك الخلوة وقد عمّ الداء ومرض الأطباء؟” فعاد يعظ السلاطين ويطلب منهم الرحمة للرعية، قائلاً لأحدهم: “خفف من ثقل أطواق الذهب في أعناق ماشيتك، وأنفق المال على الرعية.” وكانت كلمته مسموعة وهيبته أعظم من هيبة الوزراء.

وقد رآه ابن العربي مرة في البرية، وعلى عاتقه ركوة، وعليه مرقعة، وقد كان الأستاذ الذي يحضر درسه مئات الأكابر، فقال له: يا إمام، أليس تدريس العلم ببغداد خيرًا من هذا؟ فقال:

غزلت لهم غزلًا دقيقًا فلم أجد * لغزلي نساجًا فكسرت مغزلي.

وظل هكذا حتى توفاه الله يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة 505 هـ، بعد حياة قصيرة في عدد السنين، عريضة في آثارها، وكان آخر ما فعل أنه توضأ لصلاة الصبح وقال لأخيه: “عليّ بكفني”، فقبّله ووضعه على عينيه وقال: “سمعًا وطاعة للدخول على الملك”، ثم مدّ رجليه واستقبل القبلة وفاضت روحه. ووجدوا تحت وسادته هذه القصيدة البديعة التي تمثل خلاصة ذوقه الروحي ورؤيته للبعث والمعاد:

قل لإخوانٍ رأوني ميتا

فبكوني ورثوني حزنا

أتظنون بأني ميتكم

ليس ذاك الميت والله أنا

أنا في الصور وهذا جسدي

كان لبسي وقميصي زمنا

أنا كنزٌ وحجابٌ طلسمٌ

من ترابٍ قد تهيّا للفنا

أنا درٌّ قد حواني صدفٌ

صرت عنه فتخلى وهنا

أنا عصفورٌ وهذا قفصي

كان سجني فأبيت السجنا

أشكر الله الذي خلّصني

وبنى لي في المعالي وطنا

كنت قبل اليوم ميتًا بينكم

فحييت وخلعت الكفنا

فأنا اليوم أناجي ملكًا

وأرى الحق جهارًا علنا

عاكفًا في اللوح أقرأ وأرى

كل ما كان أو يأتي أو دنا

وطعامي وشرابي واحدٌ

وهو رمزٌ فافهموني حسنا

ليس خمرًا سائغًا أو عسلا

لا ولا ماءً ولكن لبنا

هو مشروب رسول الله إذ

كان لسرٍّ من فطرتنا

حيّ ذاك الدار بيومٍ مشرقٍ

فإذا مات طوى وسنا

لا ترعكم هجعةُ الموت فما

هو إلا انتقالٌ من هنا

فاخلعوا الأجساد عن أنفسكم

تبصروا الحق عيانًا بينا

واخذوا في الزاد جسمًا لا تنوا

ليس بالعاقل منّا من ونى

أحسنوا الظن بربٍّ راحمٍ

تشكروا السعي وتأتوا أمنا

ما أرى نفسي إلا أنتمُ

واعتقادي أنكم أنتم أنا

عنصر الأنفاس منا واحدٌ

وكذا الأجسام جسما عمنا

فمتى ما كان خيرا فلنا

ومتى ما كان شرًا فمنا

فارحموني ارحموا أنفسكم

واعلموا أنكم في أثرنا

أسأل الله لنفسي رحمةً

رحم الله صديقًا أمّنا

وعليكم مني سلامٌ طيبٌ

وسلامُ الله برٌّ وثنا

وهكذا مضى الغزالي، وبقي أثره، فيلسوفًا وصوفيًا ومجددًا ومصلحًا، وواحدًا من أولئك الذين قامت عليهم نهضة العقل والروح في العالم الإسلامي، وعلى كتفيه صعد خصومه وخصائصه، وبقي هو الأصل الذي لا يزول.

اقرأ أيضا للكاتب:جبران يدعوكم لما يحييكم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى