حركات التحرر العربية اليسارية وسبل نهوضها
في هذه اللحظة الفارقة غير المسبوقة من حيث انحطاطها في تاريخنا العربي القديم والحديث والمعاصر ، تتجلى فيها وتترسخ أبشع مظاهر التبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال الطبقي والصراع الطائفي الدموي جنبا إلى جنب مع تزايد السيطرة الامبريالية الصهيونية على مقدرات وثروات شعوبنا بالتعاون المباشر من العملاء الكبار والصغار ممن يطلق عليهم أمراء وملوك ورؤساء لا هم لهم سوى مراكمة الثروات لحساب مصالحهم الشخصية على حساب دماء الأغلبية الساحقة من شعوبنا.
كما يتجلى أيضا في هذه اللحظة مفهوم التحرر الوطني والقومي الهادف إلى بلوره وتجسيد حركات وطنيه وقوميه تقدميه في كل أرجاء الوطن العربي ليس من اجل النضال التحرري الوطني الهادف إلى مقاومه وطرد العدو الأمريكي الصهيوني فحسب ، بل أيضا من اجل تفعيل النضال والصراع الطبقي الثوري من منظور ماركسي لإسقاط انظمه التبعية والتخلف وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية في بلادنا .
في هذا الجانب من المفيد الإشارة غالى أن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في مرحلتها التاريخية الراهنة، ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البرجوازية، بل هي أزمة البديل الثوري (الديمقراطي) لهذه القيادة، وهذه الأزمة (أزمة البديل) هي أزمة سياسية بالدرجة الأولى، بمعنى أنها أزمة الخط السياسي الذي سارت وتسير فيه الأحزاب والتنظيمات والفصائل التي يفترض فيها أن تكون هذا البديل الثوري أو اليساري الديمقراطي ، فما زالت هذه الأحزاب والقوى والفصائل متخلفة عموماً في ممارساتها السياسية عن الفهم الذي يؤكد أن طريق التحرر الوطني – كهدف – لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إجراء تحولات اجتماعية عميقة تزيح عن السلطة تلك الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن الأزمة والعاجزة عن حلها، فالأزمة في تقديري ليست مشكلة “تخلف وتقدم” فحسب على نحو ما يذهب إليه المثقف الليبرالي ، لان هذه الصيغة ، تخفي علاقة التبعية البنيوية لنظام العولمة ، كما تخفي دور الصراع الطبقي كمحدد رئيسي في صياغة مستقبل حركة التحرر العربية.
إن أزمة حركة التحرر العربية ، تستدعي المبادرة إلى دراسة الخصائص والمنطلقات السياسية والفكرية التي تميزت بها فصائل وأحزاب حركة التحرر في مجتمعاتنا طوال الحقبة الماضية، والتي ربما كان إهمالها في الماضي أو الخطأ في تحديد أبعادها وانعكاساتها على الحركات اليسارية أحد الأسباب الرئيسية لتعثرها وفشلها، ومن أهم هذه المنطلقات التي باتت بحاجة إلى المراجعة والمناقشة وإعادة الصياغة :
أولاً/ إشكالية القومية العربية والعلاقة الجدلية بين الماركسية والقومية: حيث بات من الضروري أن تقوم القوى اليسارية العربية في كل قطر ادراج البعد التوحيدي القومي كبعد رئيس في عملها .
ثانياً/ إشكالية التبعية وكسرها وتجاوزها: وهي اشكالية مرتبطة بتبعية معظم البلدان العربية ، للنظام الرأسمالي الامبريالي المعولم .
ثالثاً/ القاعدة الاقتصادية والأبنية الفوقية: ففي ظروف التخلف والتبعية تلعب الأبنية الفوقية المتصلة بالسلطة السياسية وبالثقافة والأيديولوجية بصفة عامة دوراً أكثر أهمية بكثير من تأثير القاعدة الاقتصادية بحكم تخلفها. إذ أن التحالف الطبقي الحاكم في الأنظمة العربية يلعب دوراً هاماً في دعم البنى الفوقية القديمة وتحويلها إلى رصيد لقوى التخلف والرجعية ، وهنا بالضبط تتجلى الضرورة والأهمية القصوى صوب مزيد من الاستيعاب والوعي المعمق للماركسية كنظرية للثورة بالمعنى الطبقي إلى جانب المعاني والمنطلقات الوطنية والقومية في وحدتها المستقبلية .
إنني لا أزعم –كيساري ماركسي وطني وقومي ديمقراطي- أنني أنفرد بالدعوة إلى إعادة تجديد وتفعيل الفكر الماركسي القومي ومشروعه النهضوي في بلادنا، ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من المفكرين والمثقفين في إطار القوى الوطنية والقومية اليسارية الديمقراطية، على مساحة الوطن العربي كله، وهي أيضا ليست دعوة إلى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة.
وفي هذا السياق فإن رؤيتي، تتجاوز حالة التجزئة القطرية العربية (رغم تجذرها)، نحو رؤية ديمقراطية قومية ، تدرجية ، تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة-الدولة في المجتمع العربي ، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، مدركين أن الشرط الأساسي للوصول إلى هذه الرؤية-الهدف ، يكمن في توحد المفاهيم والأسس السياسية والفكرية للأحزاب والقوى الديمقراطية اليسارية القومية داخل إطارها القطري/الوطني الخاص كخطوة أولية ، تمهد للتوحد التنظيمي العام وتأطير وتوسع انتشار الكتلة التاريخية –على الصعيد القومي، انطلاقاً من إدراكي بأن الأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها الطبقية البورجوازية الرثة التابعة، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة، يؤكد على صحة هذه المقولة، ما جرى في بلادنا فلسطين وغيرها من انهيار اجتماعي واقتصادي وتفكك في النظام السياسي وتراجع الهوية الوطنية والقومية لحساب الهوية الدينية أو هوية الإسلام السياسي ، أو للهويات الاثنية والطائفية والعشائرية كما هو الحال في العراق والسودان واليمن ولبنان والجزائر .
في ضوء ما تقدم فإن الحاجة إلى بلورة وتفعيل هدف التحرر الوطني ضمن حركة التحرر القومي العربية وبرنامجها الذي يؤكد على إنهاء الأنظمة المستبدة في راهن مجتمعاتنا العربية ، هو هدف عاجل ، آني واستراتيجي رئيسي ، لكونها أنظمة تخنق الاستقلال الروحي والفكري للمواطن ، بل وتتغذى من هذه العملية عبر محاولاتها تفريغ المواطن وحرمانه من العدالة الاجتماعية ومن حرية الرأي والإرادة والضمير والحس النقدي ، كي ما تحوله إلى أداة تنفيذ فحسب، يتلاعب بها عقل واحد ، أو “رب” عمل واحد، هو جهاز السلطة أو نظام الحكم القمعي بمختلف تلاوينه ومنطلقاته. فبقدر ما يستدعي النضال السياسي والديمقراطي الداخلي أناسا على درجة عالية من الاستقلال السياسي والفكري وحرية الرأي والمعتقد والإرادة والمسؤولية ، يقوم انحطاط السلطة على تعميم الاستلاب والتبعية الشخصية والإلحاق ، فرجل السياسة الاستبدادية في بلادنا( ملكا أو رئيسا أو أميرا أو شيخا ) لا يقبل بأقل من الخضوع لإرادته الجائرة، ورجل الوصاية الدينية/ الاستلام السياسي لا يطلب أقل من التسليم الكامل بتفسيره وتأويله وروايته. فالطغيان الأول يقوم على احتكار السلطة السياسية والدولة ، بينما يقوم الطغيان الثاني على احتكار الرأي والفكر إلى جانب احتكار السلطة، وكلاهما له مصالح طبقية رأسمالية رثة وتابعة ولا يتناقض أي منهما أبداً مع النظام الامبريالي ، وهنا بالضبط تتجلى العلاقة الجدلية لمفهوم التحرر الوطني والقومي في النضال ضد الوجود الامبريالي الصهيوني من ناحية وضد انظمه الكمبرادور من ناحية ثانية للخلاص من واقع التبعية والانحطاط الراهن وتحرير الوطن والمواطن.
وهنا أود التأكيد على أهمية انحياز المثقف الماركسي لمصالح وأهداف الطبقات الشعبية الفقيرة، إذ أن هذا الانحياز الواعي والمسئول هو الأساس الأول في تحديد ماهية موقفه السياسي، ورؤيته الفكرية أو الأيدلوجية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية ، حيث أن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى مراكمة عوامل إنضاج ثورة وطنية ديمقراطية وانتصارها تمهيداً لبناء مقومات القوة الكفيلة بهزيمة وطرد الوجود الصهيوني والأمريكي من بلادنا ،وبدون ذلك لن نستطيع تحقيق أي هدف تحرري ونحن عراة ، متخلفين وتابعين ومهزومين يحكمنا الميت( شيوخ قبائل وأمراء وملوك عملاء ورؤساء مستبدين) أكثر من الحي (النهوض الوطني والقومي التقدمي الديمقراطي) ، ففي مثل هذه الأوضاع يحكمنا الماضي أكثر من المستقبل…فما هي قيمة الحياة والوجود لأي حزب أو مثقف تقدمي ان لم يكن مبرر وجوده تكريس وعيه وممارساته في سبيل مراكمة عوامل الثورة على الأموات والتحريض عليهم لدفنهم إلى الأبد لولادة النظام الثوري الديمقراطي الجديد للخلاص من كل أشكال التبعية والعمالة والاستبداد والتخلف وتحقيق أهداف ومصالح وتطلعات العمال والفلاحين الفقراء وكافة الكادحين والمضطهدين ، ما يعني بوضوح ثوري ساطع أن أي نضال وطني تحرري معزول عن النضال الطبقي الاجتماعي وقضايا الجماهير الشعبية المطلبية ، هو نضال قاصر لن يستطيع تحقيق الالتفاف الجماهيري من حوله ، ويظل محكوماً بالأفق المسدود رغم ضخامة التضحيات، وبالتالي ، لابد أن تنطلق الثورة التحررية الوطنية الديمقراطية في بلادنا العربية، من منظور يساري يضمن تفعيل العلاقة الجدلية بين الثورة الوطنية التحررية الديمقراطية وبين القضايا المطلبية والصراع الطبقي على طريق الثورة الاشتراكية ، وهي إمكانية قابلة للتحقق ارتباطاً بوعي وإرادة رفاقنا في كافة أحزاب وفصائل اليسار العربي وإصرارهم على الخروج من الأزمة صوب النهوض واسترداد دورهم الطليعي الثوري المنشود .
والسؤال هنا، ارتباطاً بتفاقم أوضاع التبعية والاستغلال والاستبداد من أنظمة الكومبرادور في بلادنا ، ومن ثم تبلور ووضوح الأزمة والطبقة المسؤولة عنها، وكان الحل، هو السير على طريق التحرر الوطني والديمقراطي والتنموي وفق المنظور الطبقي الماركسي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال صراعات وتحولات اجتماعية عميقة، تزيح عن السلطة تلك الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن الأزمة والعاجزة عن حلها ، فلماذا إذن تعثر سيرنا على هذا الطريق ؟
هنا يتضح بجلاء عجز العامل الذاتي ، الذي نستنتج منه أن معظم أحزاب وفصائل حركة التحرر العربية في ظل أوضاعها الراهنة ، تعيش -بدرجات متفاوته- أزمة فكرية تتجلى في التراجع الخطير بالنسبة للهوية الفكرية (الماركسية اللينينية) ، على الرغم من أن وحدة الحزب الفكرية هي حجر الزاوية للحزب ، وبدونها فإنه قد يتعرض لخطر إسدال الستار عليه ، إلى جانب تراجع الأوضاع التنظيمية من حيث التوسع والانتشار ، وكذلك استمرار مظاهر الضعف القيادي والإرباكات الناجمة عن بعض التحالفات غير المقبولة ، الأمر الذي عزز من أحوال التراجع بين أعضاء الحزب ومؤسساته من جهة وبين الجماهير من جهة ثانية .
ولذلك فإن النقد الجاد الكامل والصريح، هو نقطة البداية، لإعادة صياغة فصائل وأحزاب حركة التحرر العربية ، إلى جانب إعادة صياغة أهداف الثورة التحررية الديمقراطية العربية، وممارستها على أساس علمي، بعد أن توضحت طبيعة الطريق المسدود الذي وصلته الأنظمة العربية، وانتهت إليه مسيرة هذه الحركة بسبب أزمة فصائلها وأحزابها عموماً، وأزمة قياداتها خصوصاً، التي عجزت عن توعية وتثقيف وتنظيم وتعبئة قواعدها وكوادرها لكي تنجز مهامها التاريخية، إذ أن هذه الأوضاع القيادية المأزومة، التي جعلت بلدان الوطن العربي، في المرحلة التاريخية المعاصرة ، من أقل مناطق العالم إنتاجاً للعمل الديمقراطي الثوري الطويل النفس القادر على حماية نفسه، والمنتج في المدى الطويل لتحولات سياسية ومجتمعية نوعية، ودائمة ومطردة التطور على هذه البقعة أو تلك من الأراضي العربية.
قضية التحرر الوطني والتحرير إذاً هي بالضرورة في مرحلة الانحطاط العربي الرسمي الراهن– في هذا العصر بالذات – قضية لا يمكن فصلها عن بعدها الطبقي الاجتماعي المطلبي الثوري، فهي ليست مسألة وجدانية أو فلسفية عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو حق الشعوب في مقاومة المحتل، والدفاع عن حريتها وتحررها، لأن مهمة التحرر الوطني، ينبغي أن تتوفر لها عوامل وشروط، تُحَوِّل هذا الفهم الوجداني أو الفلسفي، إلى تطلعات سياسية وطبقية تخدم فكرة النضال التحرري الوطني ، وتعزز أيضا بلورة الهوية الوطنية والقومية التقدمية الديمقراطية الجامعة .
فحينما أتحدث عن هوية قومية تقدميه ، فإنني أتحدث في نفس الوقت عن حركه تحرر وطني وقومي في كل قطر عربي في مشرق ومغرب الوطن العربي ، حركة ملتزمة بالهدف التحرري التوحيدي القومي انطلاقاً من الوعي العميق بأن لا مستقبل لأي قطر عربي دون تكامله السياسي الاقتصادي المحكوم بالرؤية التنموية الاشتراكية مع بقية الأقطار العربية ، آخذين بعين الاعتبار أننا نتحدث عن النضال التحرري الوطني العربي، في كل أرجاء الوطن العربي ، باعتباره منطقة تشكل بموقعها وثرواتها أهم وأعقد المناطق في العالم، ضمن الصراع التناحري ضد تحالف القوى الامبريالية والكيان الصهيوني ، الذي يسعى الى تكريس السيطرة على هذه المنطقة وما تمثله من ثروات نفطية ومواقع إستراتيجية ، لضمان المصالح الامبريالية وضمان استمرار احتجاز تطور مجتمعاتنا العربية وتخلفها ، وتلك هي وظيفة الكيان الصهيوني ودوره المرسوم في بلادنا.
وبإيجاز كلي نقول –مستلهما مقولة الرفيق الشهيد مهدي عامل- “أن عملية التحرير الوطني هي، في مفهومها النظري، عملية تحويل ثوري لعلاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بعلاقة تبعيتها البنيوية بالإمبريالية، فالقطع مع الامبريالية والاستقلال عنها يقضيان بضرورة تحويل هذه العلاقات من الإنتاج التي هي في البلد المستعمر، القاعدة المادية لديمومة السيطرة الامبريالية ، فلا سبيل إلى تحرر وطني فعلي من الامبريالية الا بقطع لعلاقة التبعية البنيوية بها هو بالضرورة تحويل لعلاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة في ارتباطها التبعي بنظام الإنتاج الرأسمالي العالمي”.
بهذا المعنى وجب القول أن سيرورة التحرر الوطني في المجتمعات التي كانت مستعمرة، اعني في المجتمعات الكولونيالية ، هي سيرورة الانتقال الثوري إلى الاشتراكية.
يتضح مما تقدم أن الصراع التحرري الوطني (ضد الوجود الصهيوني الامبريالي) يمتلك عند مفكرنا الشهيد مهدي عامل بعداً طبقياً ضمن علاقة جدلية بينهما ، وهو استنتاج أكدت على صحته مجريات الأحداث والصراعات العربية سواء في إطار الصراع ضد التحالف الامبريالي الصهيوني أو في إطار الصيرورة الثورية للانتفاضات الشعبية العفوية العربية (وهي في جوهرها عندي صراع طبقي) ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتبعية والتخلف على حد سواء.
فالتحرر إذن من البرجوازية ونظام سيطرتها الطبقي “يمر، بضرورة منطقه، عند الرفيق الشهيد مهدي عامل ، بالتحرر من الإمبريالية، بل إنه هذا التحرر نفسه، كما أن التحرر من الإمبريالية، بقطع علاقة التبعية البنيوية بها، يمر بضرورة منطقه ، بالتحرر من البرجوازية ونظام سيطرتها الطبقية، بل إنه هذا التحرر إياه، وسيرورة التحرر هذا، في وجهيه الملتحمين في سيرورة معقدة واحدة، هي سيرورة التغيير الثوري في سيرورة الانتقال الكوني إلى الاشتراكية”.
في هذا السياق ، فإننا -في كل أحزاب اليسار في مشرق ومغرب هذا الوطن- ندرك بوضوح أن الثورة ليست عفوية ، والوعي الطبقي الثوري لا يأتي الى الطبقة العاملة بشكل عفوي ، بل يأتيها من الخارج، أي من طليعتها ، الحزب الثوري، الذي يُعبّر عن معاناتها ويجسد مصالحها وطموحاتها ، فالحزب هو مكان تبلور الوعي الطبقي الثوري المرتبط بالماركسية كنظرية ثورية ، وهو أداة توعية للجماهير الفقيرة، من هنا أتت ضرورة الصراع الأيديولوجي.
في ضوء كل ما تقدم ، وارتباطاً بموضوعنا حول مفهوم التحرر الوطني ، نستنتج بوضوح أن الماركسية تسلط الضوء على جذر المشكلة ، وجذر المشكلة في مشرق ومغرب وطننا العربي هو هيمنة الصهيوإمبريالية وعملائها حكام أنظمة الكومبرادور ، على مقدرات شعوبنا العربية وحرمان الجماهير الكادحة والمهمشة من هذه الموارد وثمارها.
وحتى تتحرر هذه الجماهير من ربقة هذه القوى المهيمنة، على القوى والأحزاب الماركسية ان تقوم بتنظيم الجماهير ، وتوعيتها وتحريضها لخوض الثورة وفق المنظور الطبقي ، ومن ذلك تنبع ضرورة أن تكون قيادة حركة التحرر القومي العربية ماركسية ثورية ، بما يضمن تحقيق أهدافها التحررية الوطنية على طريق الثورة الاشتراكية.
أخيراً أن الحاجة إلى وعي النظرية الثورية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، قضيه تقرر مصير العمل الثوري كله ، فلا إمكانية لتأسيس أو لتواصل حزب ثوري بدونها … هذه المقولة التي أصبحت بديهية ، الى متى سنظل نرددها بلا نشاط فكري ونضال سياسي وديمقراطي وجماهيري وكفاحي مكثف وفعال؟ فليسَ يسارياً من لا يعي ويؤمن بعمق بدور النظرية الثورية أولاً لتفعيل الحركة الثورية ، وليس يسارياً من لا يلتزم في الممارسة والنظرية بأسس النضال الطبقي والصراع السياسي والديمقراطي والثوري ضد أنظمة الاستبداد والاستغلال والتخلف وضد قوى اليمين الليبرالي والرجعي السلفي ، وضد كل إشكال التبعية والتخلف والاستبداد والخضوع ،وليس يساريا من لا يمارس – وفق الزمان والمكان المناسبين- كل أشكال المقاومة المسلحة والشعبية ضد الوجود الصهيوني والقواعد الأمريكية المنتشرة في الوطن العربي … وليس يسارياً – بل خائنا – من يستعين بأعداء وطنه بذريعة الديمقراطية ، وليس يسارياً من يشارك في حكومة من صنع الاحتلال أو يتحالف معها ، وبالطبع ليس يسارياً أيضاً من يعترف بدولة العدو الصهيوني ويتناسى دورها ووظيفتها في خدمة النظام الامبريالي .
وفق هذا المنطلق يجب أن نعيد تحديد معنى اليسار عموما، والماركسي المتطور المتجدد خصوصاً ، الملتزم بالمنهج المادي الجدلي ، فلا مكان هنا للتلفيق أو التوفيق ناهيكم عن الارتداد الفكري صوب الأفكار الهابطة والانتهازية والليبرالية الرثة ، إذ أنَ هذه المنهجيات المُضَللة أساءت كثيرا جدا لليسار العربي كله وأدت إلى عزلته عن الجماهير وعن سقوطه المدوي في آن واحد . هذه تعريفات جوهرية وقيم عامة لليسار، ومن وجهة نظري ، ليس يسارياً من لا يدافع عنها ، وبالتالي بات من الضروري تحقيق الفرز انطلاقاً منها ، وأن لا يُكتفى بالتسميات أو الألوان الحمراء ، بل أن يجري الانطلاق من المواقف والسياسات علاوة على الوعي المتجدد للماركسية ومنهجها . ولهذا حينما يجري التأسيس لعمل يساري أو وحدة قوى يسارية يجب أن ينطلق من هذا الفرز، ويقوم على أساسه، وإلا استمرت التوجهات السياسية الانتهازية والارتدادات الفكرية وتفاقم مظاهر التفكك الشللية والتحريفية الانتهازية والمصالح الطبقية الخاصة ، فاليسار ليس تسمية بل موقف وفعل أولاً وأساساً.
ذلك إنَّ القول بدور تاريخي لليسار العربي ليس إلا فرضية على جميع فصائله وأحزابه واجب إثباتها عبر التفاعل والتطابق الجدلي بين النظرية والواقع المعاش (الملموس ) عبر الممارسة اليومية المتصلة بكل مقتضياتها السياسية والكفاحية والمجتمعية والجماهيرية .
إنَّ ما تقدم ، يتطلب من قوى اليسار ترسيخ الأسس العلمية الصحيحة (السياسية والفكرية والاعلامية والمجتمعية والإدارية والمالية) لبناء حركة ثورية ديمقراطية صحيحة وممأسسة تطرد كل مظاهر أزماتها الفكرية والتنظيمية والسياسة ، بما يمكنها من جسر الفجوة بينها وبين جماهيرها والتوسع الكمي والنوعي في أوساطها واستعادة ثقتها بما يمكنها من مواجهة هذه التحولات السريعة المعقدة على المستوى المحلي و القومي والعالمي، وإلا فإن مسيرتها في الظروف الصعبة والمعقدة الراهنة من اجل تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية ستضل الطريق.
خلاصة القول ، ما زالت المهمة الملحة التي تنتظرنا هي تحويل حركة المقاومة العربية وحركة الجماهير الغاضبة إلى حركة تحرر قومي شاملة ترفد حركة الثورة العالمية ضد الرأسمالية الإمبريالية برمتها. ولا بديل عن الماركسية الثورية المتجددة أبدا بحكم طبيعتها الداخلية مرشدا ومضمونا لهذه السيرورة الثورية ، إذ لا مستقبل لشعوبنا وكل الشعوب الفقيرة في كوكبنا ، إلا من خلال الالتزام الواعي بالرؤية الماركسية ومنهجها ، بقيادة الأحزاب الماركسية الثورية المُعَبِّرَة عن مصالح الجماهير الشعبية وتطلعاتها.
ولهذا أرى أن من واجب قوى اليسار الماركسي العربي، أن تكون معنية بتحديد الموضوعات الأساسية القومية والوطنية التحررية من جهة والطبقية المجتمعية من جهة ثانية ، التي يشكل وعيها، مدخلاً أساسياً لوعي حركة وتناقضات النظام الرأسمالي من جهة، وحركة واقع بلدانها بكل مكوناته وآفاق صيرورته التطورية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية، انطلاقاً من إدراكها الموضوعي، بأن التعاطي مع الماركسية ومنهجها بعيداً عن كل أشكال الجمود وتقديس النصـوص ، كفيل بتجاوز أزمتها الراهنة ، إذا ما أدركت بوعي عميق طبيعة ومتطلبات واقع بلدانها بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية والمجتمعية.
لذلك نطرح مجدداً السؤال التقليدي : ما العمل؟ ما هي العملية النقيض لذلك كله؟
إن الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بصحوة حقيقية نشطة ، سياسياً وفكرياً وتنظيمياً ، من قبل أحزاب وحركات اليسار في بلادنا في كل الرجاء المشرق والمغرب، على الرغم من إدراكنا للطبيعة المركبة والمعقدة لأزمة هذه الأحزاب، ومرهونة أيضاً بتبلور ولادة أحزاب وحركات يسارية ماركسية ثورية قادرة على التقاط هذه اللحظة، ومن ثم الالتزام بعملية النضال الحقيقي السياسي الديمقراطي والجماهيري من منظور طبقي، من أجل تحقيق الأهداف التي تتطلع إليها جماهيرنا الشعبية، وخاصة إسقاط رؤوس وأنظمة التبعية والاستبداد والتخلف والاستغلال، وتأسيس النظام الاشتراكي الديمقراطي الجديد
ختاماً ، إنني ، إذ أؤكد على أن اللحظة الراهنة من المشهد العربي، هي لحظة لا تعبر عن صيرورة ومستقبل وطننا العربي، رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض، أو القلة المهزومة، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، أن المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن، يوحي بأن المطلوب قد تحقق، وأن الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية وإسرائيل، قد نجحتا في نزع إرادة العمال والفلاحين وكل الكادحين والمضطهدين العرب، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن حقائق الصراع الاجتماعي / الطبقي ، والكامنة في قلوب وعقول هذه الجماهير وطلائعها السياسية الثورية المتمثلة في حركات وأحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلدان وطننا العربي التي تناضل من اجل استعادة دورها الطليعي المنتظر لحركة التحرر العربية في مسيرة نضالها الوطني والقومي التحرري والمجتمعي الطبقي على طريق تحقيق الهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية .
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
(ورقة مقدمة الى ندوة الرفاق في الحزب الشيوعي اللبناني بتاريخ 5/2/2022)
“الصورة تعبيرية”