كتابات فكرية

حتمية التحول إلى الدولة السياسية – المدنية

حتمية التحول إلى الدولة السياسية – المدنية

حسن حمود الدولة

الثلاثاء 23 ديسمبر 2025-

قبل ثلاثة أيام انزلت مقالي الموسوم ب: “حتمية التحول إلى الدولة السياسية” واضفت في هذا المقال الذي يعتبر تكملة للمقال السابق لفظة “المدنية”.

 وقد كان الدافع لاستكمال المقال انني تلقيت اتصالا من صديق يستوضح فيه عن ماذا أقصد بمفهوم الدولة السياسية، متسائلا عن سبب تجنبي الصريح لمصطلح علمنة الدولة، مشيرا إلى أن تنقلي بين توصيفات مثل الدولة المدنية والدولة السياسية قد يبدو وكأنه مراوغة لغوية لا تخدم إعادة الاعتبار لمفهوم العلمانية، وهو المصطلح الذي ناله من التشويه وسوء الفهم ما لم ينله غيره. وذهب صديقي إلى أن الإصرار على استخدام المصطلح من شأنه أن يعجّل بإعادة الاعتبار له، تماما كما أن الحديث عن العلمانية كمصطلح لا يتعارض مع الدين الإسلامي، فالله سبحانه وتعالى لم يعط انسانا سلطة دينية على أخيه الإنسان مهما علا كعبه في فقد أُعيد الاعتبار لمفهوم الديمقراطية بعد أن كان رديفا للكفر في أدبيات أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

وهذا الاعتراض، وإن بدا شكليا، إلا أنه في جوهره يعيد فتح السؤال حول العلاقة بين المصطلح والمضمون، وحول ما إذا كانت الإشكالية كامنة في التسمية أم في الفهم.

والجواب عندي أن الخلاف ليس في الألفاظ بقدر ما هو في المقاصد والمعاني، وقد قرر فقهاؤنا منذ وقت مبكر أنه “لا مشاحة في الاصطلاح”، وأن العبرة بالمعاني لا بالمباني، وبالغايات والمقاصد لا بالألفاظ. ومع ذلك فإنني أتطلع إلى اليوم الذي يدرك فيه المسلمون أن الدولة في الإسلام ليست دولة دينية بالمعنى الكهنوتي أو الثيوقراطي، بل هي، من حيث الجوهر، دولة علمانية بامتياز، إذ لا وجود في الإسلام لكهانة ولا لطبقة تحتكر الحديث باسم الله أو تزعم الوصاية على دينه. فالله وحده هو القيم على دينه والحكم يومئذ له سبحانه، أما الدنيا فالأحكام فيها عاجلة وليست أدلة والدنيا دار ابتلاء وامتحان وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وقد نفى القرآن الكريم حتى عن الرسول صفة السيطرة والهيمنة، مؤكداً أن وظيفته لا تتجاوز البلاغ والتبشير والتحذير، أي أن كل الأنبياء وظيفتهم البلاغ لا الإكراه، وأن الإيمان لا يُفرض بقوة السلطة ولا بسيف الدولة، فقال سبحانه: ﴿لست عليهم بمسيطر﴾، و﴿ما أنت عليهم بوكيل﴾، و﴿لا إكراه في الدين﴾.

بل إن أخطر ما واجهه الإسلام تاريخيا هو ادعاء بعض البشر حق الوصاية على الإيمان، وتحويل الدين إلى أداة حكم وقهر سياسي، ولذلك جاء الأمر القرآني معتبرا هذه السيارة والقيمومة على دينه فتنة الفتنة يجب مجاهدتها فقال تعالى: ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾، أي حتى لا تكون سلطة بشرية تفتن الناس في دينهم وتفرض عليهم فهما بعينه، باعتبار ذلك اكراها للناس على الإيمان. ومن هذا المنظور، فإن الدولة التي تحمي حرية الاعتقاد، وتكفل التعدد، ولا تتدخل في ضمائر الناس، هي دولة علمانية في جوهرها، حتى وإن تحرج البعض من تسميتها بهذا الاسم.

إن الحديث عن الدولة المدنية أو السياسية لا يعني إقصاء الدين من حياة المجتمع، بل يعني تحييد الدولة عن الصراعات الدينية والمذهبية، وجعل المواطنة أساس الحقوق والواجبات، بحيث يتساوى الناس أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم العقدية أو الطائفية. فالدولة المدنية تعترف بالتعددية بوصفها حقيقة اجتماعية لا خطرا وجوديا، وتستمد شرعيتها من الدستور والقانون، لا من التفويض الإلهي ولا من النسب المقدس، وتعتمد الديمقراطية وحكم القانون إطارا لتنظيم الشأن العام، وهو ما يفتح المجال أمام الاستقرار والتطور والتقدم العلمي والاقتصادي، ويحرر الدين نفسه من التوظيف السياسي الذي ما دخل في شيء إلا أفسده، كما عبّر عن ذلك الإمام محمد عبده.

والتاريخ السياسي الإسلامي، منذ السقيفة وحتى يومنا هذا، يؤكد أن مسألة الحكم كانت شأنا دنيويا خاضعا لنواميس الاجتماع البشري، لا لنصوص مقدسة ملزمة. فالقرآن، وهو النص المؤسس، لم يضع دستورا للحكم، ولم يحدد شكلا للدولة، ولم يبين آليات تولي السلطة أو عزلها، وكل ما ورد فيه هو حض على قيم أخلاقية عليا كالعدل والشورى والقسط والأمانة، لا بوصفها نظاماً سياسياً جاهزا، بل باعتبارها مبادئ إنسانية عامة. وحتى الأحاديث السياسية، على ما فيها من إشكال، تقر ضمنا بالفصل بين الديني والسياسي، إذ توجب الطاعة في شؤون الدنيا، وتمنعها فقط عند معصية الله، في تمييز واضح بين ما هو دنيوي وما هو ديني، وهو ما انسجم مع التجربة التاريخية التي سرعان ما تحولت فيها الخلافة إلى ملك عضوض، لا بسبب قدر إلهي محتوم، بل لغياب نظرية سياسية واضحة للحكم.

إن مكمن قوة الإسلام كان في تركه تنظيم شؤون الدولة للناس وفق ظروفهم وأحوالهم، كما في قوله تعالى: ﴿لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً﴾، حيث قال «منكم» ولم يقل جعلنا «لكم»، لكن مكمن ضعف المسلمين تمثل في عجزهم عن إنتاج فقه سياسي متكامل يحدد شروط الحكم، وآليات تداول السلطة، وحدودها، وسبل محاسبة الحاكم وعزله. ففي مقابل مئات الكتب التي أُلّفت في فقه العبادات، لم يُنتج فقه سياسي حقيقي، وما كُتب في هذا الباب كان في الغالب تبريرا للواقع أكثر منه تنظيرا للمبدأ. ومن هنا فإن التحول إلى الدولة المدنية أو العلمانية لا يمثل قطيعة مع الإسلام ولا خيانة لقيمه، بل هو في جوهره تحرر للدين من التسييس، وتحرير للإنسان من الوصاية، وإعادة اعتبار لقيم العدل والحرية والمساواة، وهو تحول بات شبه حتمي في عالم أصبحت فيه أكثر من مئة وأربعين دولة تنظم شؤونها على هذا الأساس، وسيأتي اليوم الذي يدرك فيه المسلمون، والعرب على وجه الخصوص، أن الدولة العادلة لا تكون دينية ولا معادية للدين، بل دولة تترك الإيمان لله، وتترك الحكم للناس، وعندها فقط يصبح الإنسان حراً، وغداً لناظره قريب.

اقرأ أيضا للكاتب: حتمية التحول إلى الدولة السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى