الوظيفة العامة في ميزان القيم

الوظيفة العامة في ميزان القيم
- أمين الجبر
الاثنين 29 ديسمبر 2025-
كل إنسان، بحكم الفطرة، يدّعي السوية، وبالبداهة يزعم المثالية، وبالجبلة ينحاز للأخلاق، ويتغنّى بسموّ القيم.
لا أحد يخرج إلى العلن ليقرّ بأنه فاسد، أو غير سوي، أو معادٍ للأخلاق. فذلك يتناقض مع الصورة التي يحب الإنسان أن يراها لنفسه، ويحرص على تسويقها للآخرين.
هذه طبيعة بشرية قديمة قدم الوجود؛
إذ يرى الإنسان فعله هو الصواب، وقناعته هي المثال، وتوجهه هو الحقيقة بعينها، وما عدا ذلك ضلال وانحراف وزيغ.
إنه كائن بيولوجي مكرّر، متمحور حول ذاته، محكوم بغرائزه منذ لحظة الميلاد، يسعى في الغالب إلى تحقيق مصالحه، ويجهد في إشباع رغباته، ثم يعيد تأويل القيم وتطويع الأخلاق بما يخدم هواه، لا بما ينسجم مع جوهرها.
فالسوية، والمثالية، والأخلاق، لا تُرى عند كثيرين إلا من زاوية المصلحة الخاصة، لا من أفق المسؤولية العامة.
من هنا جاءت وظيفة الأديان، وبرزت الحاجة الإلهية للأنبياء والرسل والحكماء والفلاسفة؛ لا لإلغاء العقل، بل لتقويمه، ولا لمصادرة الإرادة، بل لتحريرها من عبودية الهوى. جاءت الرسالات لتضع ميزانًا فوق ذاتي، يحدد النهج القويم، ويكشف الطريق المستقيم، بعيدًا عن تقلب المزاج البشري ونزعات التبرير الذاتي، رحمة بالإنسان، وصونًا لمعنى الخلاص الأخلاقي قبل الخلاص الأبدي.
صحيح أن المجتمعات البشرية، بتنوع ثقافاتها وتباين ظروفها، تحتاج إلى دساتير وقوانين تنظّم شؤون الحياة اليومية، وهي بطبيعتها قابلة للمراجعة والتحديث بما يواكب متغيرات العصر.
لكن القيم العليا—من أمانة وعدالة ونزاهة ومسؤولية—ليست محل اجتهاد ظرفي، ولا تخضع للمساومة المزاجية. فهي ثابتة في الجوهر، راسخة في المعنى، حاضرة في الوجدان الإنساني، لا تتبدل بتبدل الأزمنة ولا تُفرّغ من مضمونها باختلاف المصالح.
وفي هذا السياق، تأتي مدونة السلوك الوظيفي التي أقرتها مؤخرًا وحدات الخدمة المدنية في مرافق الدولة اليمنية، كخطوة إيجابية لافتة، وكمحاولة جادة طال انتظارها.
لقد جاءت في وقتها، وفي ظرف بالغ الحساسية، وتعكس إدراكًا متأخرًا لكنه ضروري، لحجم التشوه الذي أصاب مفهوم الوظيفة العامة.
الرهان عليها كبير، ونجاحها مشروط بتطبيقها العادل والشامل، دون انتقائية أو استثناء.
فإن فُعّلت كما ينبغي، فإنها لن تقتصر على تحسين العلاقة بين المسؤول والموظف، أو تجويد الأداء الإداري فحسب، بل ستؤسس لتحول ثقافي عميق في نظرتنا إلى الوظيفة العامة ذاتها؛ لتخرج من كونها غنيمة خاصة، أو فرصة للهبر والاستحواذ، إلى كونها تكليفًا أخلاقيًا، واستحقاقًا مجتمعيًا، وخدمة عامة لا تشريفًا شخصيًا.
غير أن هذا الطموح المشروع يفتح الباب أمام تساؤلات حرجة لا يمكن تجاهلها: كيف سيتعامل معها من اعتاد الادعاء الأخلاقي بينما سجله الوظيفي مثقل بالفساد؟
كيف لمسؤول يتحمس للمدونة نظريًا، وهو عمليًا صعد وظيفيًا بسلالم الانتهازية والمحسوبية؟
وكيف يمكن لمن يستند في بقائه إلى الشللية والولاءات الضيقة أن يلتزم بمبادئ تقوم على العدالة وتكافؤ الفرص؟
هل سيقبل هؤلاء بالتدوير الوظيفي وهم متشبثون بمناصبهم حد الاستماتة؟
وهل يمكن إقناع من يرى نفسه فوق القانون، أو من يتوهم أن سلطته مقدسة، بالخضوع لمدونة سلوك؟
إنها أسئلة مقلقة، تكشف عمق الفجوة بين النص والواقع، بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل يكفي التعويل على الضمير والقناعة الشخصية؟
أم أن المرحلة تقتضي قدرًا من الإلزام، وربما الإرغام، حين تفشل القناعة ويغيب الضمير؟
لعل الحكمة لا تكمن في الاختيار بين أحدهما،
بل في الجمع بينهما:
قناعة تُبنى، وإلزام يُطبّق،
حتى لا تبقى الأخلاق مجرد خطاب،
ولا تتحول المدونة إلى وثيقة جميلة بلا أثر.
اقرأ أيضا: أحمد عبده ناشر العريقي: المثقف التاجر والثائر المنسي في الكتابة التاريخية (2-2)




