كتابات فكرية

الفساد القضائي بين نقض الأحكام وغياب المساءلة

الفساد القضائي بين نقض الأحكام وغياب المساءلة

بقلم: حسن الدولة

الثلاثاء 16 ديسمبر 2025-

في العهد البائد، قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م المجيدة، كان القاضي الذي يُنقَض حكمه أكثر من مرة يُستبعد من العمل القضائي ويُحال إلى وظيفة إدارية، حفاظًا على هيبة القضاء وضمانًا لحسن تطبيق العدالة. أما اليوم، فقد أصبح من المألوف أن تُنقَض عشرات الأحكام الصادرة عن قاضٍ واحد من محاكم الدرجة الثانية أو الثالثة، ومع ذلك يستمر في موقعه دون مساءلة أو مراجعة، وكأن نقض الأحكام أصبح أمرًا عاديًا لا يترتب عليه أي أثر مهني أو تأديبي.

والأخطر من ذلك أن المحكمة العليا، بوصفها محكمة قانون، تكتفي في كثير من الأحيان بالرقابة على سلامة الإجراءات الشكلية، ولا تتصدى لتعسف الحكام أو لسوء تقدير الوقائع أو لإهدار الأدلة الجوهرية، تحت ذريعة أن القاضي حر في تكوين قناعته. غير أن هذه الحرية ليست مطلقة، بل مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية والقانون ومبادئ العدالة. وقد قرر الإمام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله هذا الأصل حين قال: «الاجتهاد لا يكون في مقابلة النص، ولا فيما قامت به البيّنة وظهر فيه الحق» (نيل الأوطار، كتاب القضاء)، وهو أصل يمنع تحويل سلطة التقدير إلى وسيلة لتعطيل الحقوق الثابتة.

لقد أقر قانون السلطة القضائية أن القاضي، وإن كان مستقلًا في قضائه، فإنه خاضع للمساءلة متى أخلّ بواجبات وظيفته أو مسّ بسلوكه شرف القضاء أو أضرّ بثقة الناس في العدالة. وهذا المعنى قرره الشوكاني صراحة بقوله: «القاضي مؤتمن، فإن خان الأمانة في الحكم كان من أعظم الظالمين» (نيل الأوطار، باب آداب القاضي). فالخطأ القضائي الجسيم، المتمثل في تجاهل الثبوت القطعي أو تحريف الوقائع أو إهدار المستندات الجوهرية دون مسوغ شرعي أو قانوني، لا يدخل في باب الاجتهاد المأجور، بل هو ظلم محرم.

ومن واقع تجربة شخصية مؤلمة، نعرض قضيتنا لا باعتبارها حالة فردية، بل نموذجًا لما يعانيه كثير من المتقاضين. فقد نظرت إحدى محاكم الاستئناف دعوى تتعلق بملكية ثابتة وتصرف وإيجار متوارث أبًا عن جد، ومؤيد بمستندات رسمية وعقود إيجار معمدة ممتدة لعقود طويلة، فضلًا عن إقرارات وشهادات واستلام غلال حتى سنوات قريبة، ومع ذلك تم إهدار هذا الثبوت كاملًا، والاعتماد على تقرير فني ثبت تعارضه مع المستندات والواقع، لترتب على ذلك إنكار وجود الموضع محل النزاع أصلًا، وإبطال جميع الأدلة المقدمة بشأنه. وقد قرر الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله: «الحكم بخلاف البيّنة جورٌ لا اجتهاد، ومن سوّغه فقد سوّغ الظلم» (سبل السلام، كتاب القضاء)، وهو نص فقهي صريح في تحريم هذا المسلك.

وقد ألزم قانون المرافعات والتنفيذ المدني المحاكم بتسبيب أحكامها تسبيبًا كافيًا، يبيّن الأدلة التي استندت إليها وأسباب ترجيحها والرد على دفوع الخصوم الجوهرية. وهذا عين ما قرره الإمام أحمد بن يحيى المرتضى صاحب متن الأزهار، حيث نص على أن: «ولا يجوز للقاضي أن يحكم إلا بما بان وجهه وظهر دليله» (الأزهار، كتاب القضاء)، فجعل بيان وجه الحكم وظهور دليله شرطًا في صحته، لا مجرد إجراء شكلي.

وقرر قانون الإثبات أن للمحررات الرسمية والعرفية حجية لا يجوز إهدارها إلا بالطعن عليها وفق الطرق القانونية. وقد قرر الإمام المرتضى في الأزهار أن: «الثابت بالبيّنة الشرعية لا يزول إلا بمثلها أو أقوى منها» (الأزهار، باب البيّنات)، وهو ما يمنع شرعًا وقانونًا إهدار المستندات القطعية أو تقديم تقارير فنية مشوبة على حسابها. كما أكد الصنعاني هذا الأصل بقوله: «اليقين لا يزول بالشك، ولا يبطل الحق الثابت بالظنون» (سبل السلام، كتاب القضاء).

إن تكرار نقض الأحكام الصادرة عن قاضٍ واحد، لا سيما إذا كان النقض بسبب القصور في التسبيب أو فساد الاستدلال أو تجاهل الثبوت، يُشكل قرينة قوية تستوجب تدخل التفتيش القضائي ومساءلة القاضي، لا حمايته. وقد قال الإمام الشوكاني رحمه الله: «من وُلي القضاء ولم يقم بالعدل فقد تعرّض لسخط الله، وإن وافق حكمه أهواء الناس» (نيل الأوطار، كتاب القضاء).

إن ما نشهده اليوم لا يستدعي تشويه القضاء ولا المساس باستقلاله، بل يستوجب تنقيته من القلة التي أساءت إليه وشوهت سمعته. ففي بلادنا قضاة أجلاء كُثُر، يعملون بإخلاص ونزاهة في ظروف بالغة الصعوبة، غير أن تعطيل أدوات المساءلة يفتح الباب لفقدان ثقة الناس بالعدالة، وقد قال ابن الأمير الصنعاني: «فساد القضاء فساد للديانة والدنيا معًا» (سبل السلام، مقدمة كتاب القضاء).

ومن هذا المنطلق، فإننا نناشد المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل وهيئة التفتيش القضائي الاضطلاع بمسؤولياتهم القانونية والشرعية، ومراجعة ملفات القضايا التي نُقضت أحكامها أكثر من مرة، والتحقيق في أسباب ذلك، وإخضاع من يثبت انحرافه أو تقصيره للمساءلة، صونًا لهيبة القضاء، وتحقيقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾.

إن تطهير القضاء من الفاسدين هو الضمان الحقيقي لاستقلاله، وهو الطريق الوحيد لاستعادة ثقة المجتمع بالعدالة، وبالدولة، وبسيادة القانون، وهو قبل ذلك كله أمانة شرعية ومسؤولية وطنية.

اقرأ أيضا: حرق القرآن الكريم في الغرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى