الطغاة العرب .. عنوان سقوط النظام السياسي العربي (٢ _ ٢)

الطغاة العرب .. عنوان سقوط النظام السياسي العربي (٢ _ ٢)
- قادري أحمد حيدر
الخميس19يونيو2025_
إن دول وأنظمة السقوط السياسي العربي الرسمي، تختلف على كل شيء، إلا على، أولاً: إعادة إنتاجها للاستبداد التاريخي، ثانياً: التبعية لأمريكا، والسير على هدى التطبيع المجاني التدريجي مع دولة الكيان الصهيوني، وثالثاً: تتفق على ضرورة مصادرة الدولة، وعلى ابتلاع السلطة (سلطتهم) للدولة، وعلى إعدام الحياة الديمقراطية والمدنية، والأهم تحويل الجيش إلى تابع للسلطة السياسية، وحشر الجيش في زواريب معترك العملية السياسية الصراعية، أقصد معاركهم السياسية الخاصة، لجعله طرفًا في الصراعات السياسية، ويترك ـ الجيش ـ دوره في حماية البلاد، حدودها (سيادتها واستقلالها واستقرارها)، حماية “الثغور”، إن لم يتم تحويله إلى مليشيات، كما هو حالنا في اليمن، والعراق، وليس ظاهرة التحشيدات “الحشود الشعبية” العسكرية الطائفية في العراق، وظاهرة طارق عفاش، و”الأحزمة الأمنية” في المناطق الجنوبية، والمليشيات المسلحة في تعز، ومأرب… إلخ،. وجميعهم، ليست سوى نماذج على طريق تغييب الدولة، وحرف مسار دور الجيش عن وظيفته العسكرية الوطنية.
لم أستغرب أن أول قرار لأبي محمد الجولاني / رئيس سوريا “الجديدة”، كان حل الجيش السوري، وبعده مباشرة قمع وحصار القوى المدنية، حتى حل الأحزاب التقدمية الرافضة والناقدة لقدومه إلى سوريا، وعلى رأسهم الحزب الشيوعي السوري، الذي عمره التنظيمي والسياسي أكثر من مائة سنة، مع السماح المحدود بحركة احتجاجات حزبية ومدنية سلمية، وضمن حدود معينة.
فالقائد التكفيري/ المليشوي، أبو محمد الجولاني/ الشرع، يحل الجيش السوري، ويستبدله كجيش بضم المليشيات المسلحة الأجنبية إلى بنيته، بل وجعل بعضهم على رأس قيادة الجيش!! وهي عملية ليس لتبرير وشرعنة حضور الجماعات الإرهابية الأجنبية في سوريا، بل ورفعهم إلى مستوى قيادة الجيش السوري، وقيادة النظام السياسي الجديد!!
ولذلك حدد الأمريكان دور الجولاني مسبقاً لكي يستمر رئيساً لسوريا، في أن يبقى حارساً وحامياً للحدود الشمالية.
وهو ما يؤكد أن الهدف المركزي، هو منع استمرار تشكل وميلاد الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.
والجيش الوطني الحديث، هو أول وأهم أعمدة وأركان وجود وبناء الدولة في تاريخنا المعاصر.
إن كل ما كان يهم النظام السياسي العراقي بعد غزوه واحتلاله من قبل الأمريكان وحتى اليوم، هو فقط، ترتيب أوضاع ومواقع النخب الحاكمة “الصفوة”، الطائفية والعشائرية والقبلية والعرقية المليشيوية، وليس مستقبل العراق كدولة، ومجتمع، بجميع طوائفه ومكوناته المذهبية والوطنية والقومية.
إن ما يعنيهم هو وضعهم السياسي السلطوي، في حصتهم من السلطة والثروة، ولا يهم بعد ذلك كيف يكون وضع ومستقبل العراق، كدولة وشعب.
العراق الذي لم يعرف شعبه تاريخيًا الهجرة، والتشرد/ المنفى، والجوع، على الغنى الروحي، والمالي، والاقتصادي للعراق، إلا مع سيطرة وتحكم الطغاة ـ بمختلف مسمياتهم ـ القدامى والجدد، وهم الذين استقدموا الغزاة إلى أرضه الحبيبة.
هذا هو شأن من جاء عبر الدبابة الأمريكية، ولذلك هم مستمرون في شرعنتهم للغزو والاحتلال، في صورة ما يجري اليوم في العراق من فقدان للسيادة، والاستقلال الوطني، ومن انتهاك للأجواء العراقية من قبل دولة الكيان الصهيوني، ومن حضور للقواعد العسكرية الأجنبية في العراق، وسوريا، والسعودية، وقطر… إلخ.
دخل أبو محمد الجولاني / أحمد الشرع، إلى سوريا بتنصيب احتفالي خلال ساعات محدودة، وكأنه في زيارة تفقدية لأراضٍ تابعة له وتحت حكمه… دخل مارًا وعابرًا العديد من المحافظات دون أي حضور للجيش والأمن والتشكيلات الأمنية / الفروع الأمنية التي أرهبت الشعب السوري طيلة عقود طويلة.
وكأن الجيش والأمن، والأفرع الأمنية الأسدية، بمن فيها “فرع فلسطين”!! التي غطت وجه سوريا بالإرهاب والقتل والدم، ليس لها من دور ولا مهمة سوى حماية أفراد الأسرة المالكة الأسدية.
دخل أبو محمد الجولاني / الشرع، وكأن هناك أمرًا توجيهيًا مركزيًا، إقليميًا / دوليًا بذلك، غاب معه الجيش الذي تحول جزءاً كبيراً منه إلى ميليشيات عائلية لإرهاب المعارضين، واغتصاب إرادة المجتمع السوري.
عملية سياسية قذرة كان أول ضحايا الطغاة والغزاة فيها هو الجيش، والدولة السورية، وهو ما كان في كل من العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، والسودان، لاحقًا.
الجيش الذي تحول وصار أفراده ومكوناته وكوادره العسكرية المؤهلة، خارج الخدمة / الوظيفة، وبدون مرتبات وفي حالة قهر من الجميع.
إن من يعتقد أنه خارج متناول المشروع الاستعماري، التفتيت والتفكيك، إنما هو واهم. فقط، انتظار للدور الذي قد يتقدم أو يتأخر، حسب تفاعلات العملية السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة والعالم.
والعدوان المشترك، الصهيو/ امريكي، على إيران، صورة لما ينتظر الجميع، من الذين يصطفون مع المشروع الأمريكي .
مرة ثانية أقول: من كان يتصور حتى في الخرافة، وليس في الخيال العلمي، أن يأتي “الجهادي” / الإرهابي، أبو محمد الجولاني / الشرع، رئيسًا لسوريا، ومع ذلك جاء وعلى رؤوس الأشهاد رئيساً، ويتسابق العالم “الديمقراطي الحر”، لاستقباله، وبسرعة قياسية، في تناقض مع أحكام وتحليلات العقل والمنطق حتى صار اللاعقل / والخرافة، هما، العقل والمنطق السائدين اليوم.
أبو محمد الجولاني / الشرع، الذي حول محافظة “إدلب” وغيرها من المناطق إلى سجن بدائي، “قروسطي” كبير لا يختلف كثيرًا عن سجون الأسد. وسجونه في إدلب، وفي كل سوريا، لم تُفتح لخروج الأبرياء والمعارضين منها حتى اليوم، وهي سجون تضج بالآلاف من المساجين، بمن فيهم (11 ألف) عسكري وضابط من الجيش السوري.
إن الكيان الصهيوني يقصف ويدمر يوميًا كل الأرض السورية، إلا “إدلب”، إمارة أبو محمد الجولاني/ الشرع!!.
وكأنها محمية أمريكية/ صهيونية، وليس في ذلك دعوة أو مطالبة، بقصف الإمارة الجهادية، فقط، للتدليل على التواطؤ المشترك، بين الشرع، وبين الكيان الصهيوني، وأمريكا.
في لبنان، المطلوب رأس “حزب الله اللبناني”، وقيادة حزب الله، وفي غزة/ فلسطين، المطلوب رأس “حماس”، وقيادة حماس، ونزع سلاح حماس.
أما في سوريا بعد رئاسة الجولاني لسوريا، فالمطلوب حراسة وحماية الجولاني/ الشرع، وتسهيل أمور رئاسته لسوريا الجديدة!!
وهنا يكمن الفارق في موقف القوى الاستعمارية من “حماس”، ومن “حزب الله”، والسبب لأنهما مقاومة للاحتلال الصهيوني، بصرف النظر عن موقفنا الأيديولوجي/ السياسي، منهما.
والمطلوب أمريكيًا وصهيونيًا، تعميم ودعم النموذج الجولاني/ الشرع في كل المنطقة العربية، على حساب النموذج المقاوم.
والطاغية، الأسد ـ وغيره ـ من الطغاة العرب، هم من مهدوا وعبدوا الأرض السياسية لكل ذلك.
فالأسد والجولاني طبعتان مختلفتان للاستبداد فقط، وجه وقفا، ملك وكتابة.
أحدهم حكم المنطقة باسم “الاستبداد القومجي” العائلي، والآخر باسم الاستبداد الطائفي الديني / التكفيري، وبصورة صريحة وعلنية، وليست المجازر المعلنة بالصوت والصورة في الساحل وفي أكثر من مكان في سوريا سوى عنوان لهوية النظام السياسي الجديد، ولا يتكلم العالم “الديمقراطي” و”الحر”!! عن القتل على الهوية الطائفية / الدينية للآلاف من أبناء سوريا: المسيحيين، والشيعة، والسنة المعارضين، والدروز، لأن ما يهمهم هو تنفيذ أجنداتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية من قبل الحكام الجدد.
ولذلك، ينبري ويرتفع الصوت السياسي والدبلوماسي الأمريكي في الدفاع عن الجولاني / الشرع، لضرورة حمايته من أي محاولة اغتيال، سواء من النظام القديم، الذي لم يعد، ولن يعود إلى سوريا إلا من خلال صورة و”هيئة تحرير الشام”، أي من خلال، الجولاني / الشرع، وحول هذا المعنى الاغتيال والحماية، للجولاني / الشرع، تحدث السفير الأمريكي، توم باراك، المبعوث الخاص لترامب، قائلًا: “إن واشنطن ترى في الشرع شخصية محورية في إعادة بناء سوريا، ما يجعل أمنه “مسألة” حاسمة، وأشار السفير الأمريكي، لموقع “المونيتور”، “نحن بحاجة إلى تنسيق نظام حماية حول الشرع”، مشيرًا إلى أن جهوده في تشكيل حكومة شاملة وتواصله مع الغرب، “تضعه في دائرة الخطر”!!
كل ذلك يقال ويعلن ويمارس على الأرض في سوريا “الجديدة”، والإعلام العربي الرسمي الآيل للسقوط، ما يزال يرحب ويحتضن ويدعم، الجولاني/ الشرع، وهنا نرى ونقرأ التطابق وليس التكامل، الأمريكي الصهيوني العربي، وما يحصل في غزة / فلسطين، هو عنوان السقوط السياسي المعلن، للنظام العربي الرسمي، الذي تخلى عن جميع أهدافه الوطنية، والقومية، ولم يعد يهمه سوى البقاء على العرش.
تشكل وقام النظام العربي الرسمي، لإنجاز ثلاثة أهداف، أولاً: إقامة الدولة الوطنية الحديثة والمستقلة، ثانيًا: تحقيق الوحدة العربية، ثالثًا: إعداد العدة للمساهمة في تحرير فلسطين، أي في مواجهة الكيان الصهيوني، وجميعها أهداف لم يتحقق منها شيء.
بل كان آخرها سقوط النموذج القومجي/ العائلي الأسدي الذي فرط بكل شيء: الدولة، والجيش، والوحدة العربية، وقبلهم جميعًا، بيع القضية الفلسطينية، في سوق الشعارات.
إن الدينامو، والمحرك السياسي الفعلي لما يجري في سوريا اليوم، هما: تركيا “العثمانية الجديدة”، والكيان الصهيوني، فقط الاختلاف الشكلي، بين تركيا، والكيان الصهيوني، على توزيع الأدوار فيما بينهما، وحصتهما من سوريا: الأرض، “الجغرافيا”، والمال، والاقتصاد، وفقًا لأجندة كل منهما من سوريا. وصدق المفكر والناشط الحقوقي السوري، د. هيثم مناع، حين كتب: “لقد قرر أردوغان – فيدان، وضع حد لفكرة دولة سورية ذات سيادة، عبر تنصيب الفصيل الأكثر تطرفًا وتعصبًا وغرابة عن المجتمع السوري حاكمًا على كل السوريين”.
أمريكا اليوم تعيد انتشارها وتموضعها في المناطق الاقتصادية والعسكرية الحساسة في سوريا، وتحافظ على ثلاث قواعد إستراتيجية لها في سوريا، تحت شعار محاربة “داعش”، مع أن أمريكا ودولة الكيان الصهيوني تستهدفان مواقع الجيش السوري، ومخازن الأسلحة الإستراتيجية، ومراكز الأبحاث.
الانفتاح الأوروبي على القيادة السورية الجديدة نجده في صورة دعم سياسي ودبلوماسي، واقتصادي ولو محدود.
هناك صفقة فرنسية للغاز مع القيادة السورية الجديدة لمدة (30 سنة) بحوالي سبعة ونصف مليار يورو.
أمريكا تعلق العقوبات لمدة ستة أشهر، وتسعى لإسقاط اسم قيادة “هيئة تحرير الشام”، من قائمة الإرهاب، والأكثر دلالة سياسية هنا، سرعة شطب اسم سوريا من قائمة الدول المارقة، فقط في انتظار موافقة الكونغرس الأمريكي، وسيبقى هذا القرار سيفًا مسلطًا على رقبة القيادة السورية “الجديدة”، حتى ترضخ وتخنع بالكامل، وتستكمل العلاقات “الودية” التطبيعية مع دولة الكيان الصهيوني، مع أن أبا محمد الجولاني / الشرع، يعلن عدم ممانعته لإقامة علاقة “سلام” مع دولة الكيان الصهيوني، وهو الذي لم يقل كلمة نقد أو رفض واحدة لاحتلال الكيان الصهيوني لمئات الكيلومترات داخل الأراضي السورية، (٥٠٠ كيلو)، تصل حتى حدود دمشق، وريف دمشق، ودرعا، وحلب، وإلى العديد من المحافظات السورية، ولم يتوقف قصفها للأراضي والمواقع السورية حتى اللحظة، بما فيها قتل المواطنين السوريين المقاومين للاحتلال سلميًا، خاصة في الجنوب السوري.
إن كل ما يهم حكومة وسلطة سوريا “الجديدة” ـ وبدرجات مختلفة ـ جميع أنظمة الحكم العربية الآيلة للسقوط، هو حرصهم على استمرار عين الرضا الأمريكية والصهيونية والأوروبية، على استمرار بقائهم في عروشهم. وهو ما قاله صراحة ترامب في واحدة من خطبه.
فقط، التحدي الخارجي هو ما يهم ويخشاه النظام السياسي العربي، الآيل للسقوط، مع أن التحدي الكبير والأساسي والخطير، هو في التحدي الداخلي / الوطني: التحدي السياسي والديمقراطي، والتحدي الاقتصادي الاجتماعي في بُعديه: العدالة الاجتماعية، والمواطنة المتساوية.
إن قمة ذلك القبول والترحيب والدعم والاحتواء للقيادات السورية الجديدة، من الخارج الاستعماري ومن الداخل العربي، إنما تتمثل وتتجسد، في صورة اللقاء بين ترامب، والجولاني / أحمد الشرع، في السعودية، وهي محاولة ترتيب سعودي أمريكي صهيوني لتسويق صورة أحمد الشرع، بدلًا من صورة واسم أبي محمد الجولاني أمام العالم، وهو ما يتحقق مع كل يوم يمر على وجود هذه القيادة في قمة السلطة.
كل ما يهم القيادة في سوريا “الجديدة”، هو إقامة علاقات ودية مع دول الاستعمار الجديد، ومع دولة الكيان الصهيوني، مع بقاء الوضع الداخلي السوري في حالة من الفوضى والعجز الشامل، حد الانفجار الداخلي، في صورة حروب أهلية، وهو المطلوب أمريكيًا وصهيونيًا. لأن هذا التفجير الداخلي هو بداية عنوان إشعال المنطقة بالحروب القبلية والعشائرية والطائفية / الدينية والعرقية، لاستكمال حلقات تفتيت وتقسيم وتفكيك سوريا، وبعدها كل المنطقة، انطلاقًا من سوريا، والقائمة مفتوحة على الجميع ـ كما سبقت الإشارة ـ بدون استثناء، بما فيها تقسيم السعودية، ودول الخليج إلى أجزاء أصغر فأصغر.
“فدولة” الكيان الصهيوني بدون حدود رسمية / دولية، وبلا دستور يضبط ويحدد هذه المسألة، باختصار: الكيان الصهيوني، نظام توسعي عنصري، استيطاني، يحتاج إلى جغرافية لاستيطانها/ استعمارها، كما أنه بدون تاريخ، أي بدون “هوية وطنية”، سوى التاريخ الاستعماري الاستيطاني، الذي استقدمه/ استقدمهم، الغرب الاستعماري، إلى منطقتنا، باعتباره/ اعتبارهم، “كلب حراسة”، للمصالح الاستعمارية، وبهدف إشغال، وإشعال المنطقة بالحروب.
ومن هنا، نشهد بالعين المجردة بداية السقوط للنظام العربي الرسمي.
ولا خيار أمامنا كعرب، وقوى تحررية ديمقراطية، سوى استنهاض مشروع سياسي، وطني قومي ديمقراطي وتعددي، ودعم حركات الشعوب العربية لاستكمال انتفاضاتها ضد هكذا أنظمة لم تتعظ ولم تستفد من عبر التاريخ.
اقرأ أيضا للكاتب:قادري احمد حيدر يتحدث عن المشروع الصهيوأمريكي لتقسيم السعودية والخليج
