كتابات فكرية

السياسة العربية بين النخبوية والاستلاب الجماهيري

السياسة العربية بين النخبوية والاستلاب الجماهيري

  • أمين الجبر

الثلاثاء10يونيو2025_

يمارس الفعل السياسي في الواقع العربي كفعل نخبوي مغلق، لا يتجاوز دائرته سوى تحالفات النخب الحاكمة ونخب المعارضة الطامحة، في صراع ديالكتيكي لا ينتهي إلا بانزياح مركز القوة لصالح طرف على حساب الآخر. هذا الصراع لا يخضع لمنطق المؤسسات أو التداول السلمي، بل لمنطق التغلب التاريخي الذي تحول إلى سردية مهيمنة في اللاوعي الجمعي العربي، حيث تختزل الدولة إلى غنيمة، والسلطة إلى ميراث عصبي أو حق إلهي مسبغ على الفئة الحاكمة. 

وهكذا، تتحول السياسة إلى لعبة صفرية، لا تنتج إلا أزمات متجددة، لأنها تفتقر إلى الآليات المؤسساتية التي تحول الصراع من مواجهة دموية إلى تنافس خاضع لضوابط العقد الاجتماعي. فغياب التراكم الديمقراطي، واستمرار هيمنة الثقافة الأبوية، يجعلان أي محاولة للإصلاح تصطدم بجدار الموروث السياسي القائم على الحكم بالغلبة. 

لا تقوم هيمنة النخب السياسية العربية على القوة الخشنة فحسب، بل على تزييف الوعي الجماهيري عبر خطاب مزدوج: 

خطاب تبريري يقدم السلطة كضرورة وجودية (دينية، طائفية، أمنية، إلخ..)، ويحول الحاكم إلى أب راع لا يمس. خطاب تحريضي يستنفر الغرائز العصبوية (المذهبية، العشائرية، الإثنية، إلخ..) لتحويل الجماهير إلى وقود في الصراعات السياسية، دون أن تمتلك أدنى إدراك لمصالحها الطبقية أو الوطنية. 

هذا الاستلاب لا يقتصر على العامة، بل يمتد إلى شرائح من المثقفين الذين يعيدون إنتاج الخطاب السلطوي، سواء عبر التطبيل المباشر أو عبر النقد الجذري الذي يبقى حبيس التنظير دون فعل تغييري. وهكذا، تتحول الجماهير إلى كتلة ساكنة، تمارس السياسة بانفعالية غريزية كالحماس للشعارات الدينية أو الوطنية الزائفة، لكنها تتنصل من مسؤوليتها التاريخية في صنع التغيير. 

المأزق الأعمق يكمن في استحالة تشكيل دولة مدنية حديثة في ظل بنية سياسية وثقافية تقوم على الولاءات ما قبل الوطنية (الطائفية، العشائرية، الجهوية، الخ..)، التي تضعف فكرة المواطنة المتساوية، واقتصاد ريعي يحول السياسة إلى صراع على الريع لا على البرامج، فضلا عن غياب الطبقة الوسطى كقاعدة اجتماعية داعمة للإصلاح، بسبب إفقارها المتعمد من قبل النخب الحاكمة. 

حتى الجيوش العربية، التي يفترض أن تكون مؤسسات وطنية، تتحول إلى ميليشيات طائفية أو عائلية، كما في حالات عربية عديدة، حيث أصبحت العسكرة الطائفية أداة لتمزيق النسيج الاجتماعي. 

إن الخروج من هذا المأزق، في نظرنا، يتطلب تفكيك ثلاثي الأبعاد. أولا:  تفكيك البنية الثقافية عبر نقد جذري لسرديات الحكم بالغلبة والشرعية المقدسة، ثانيا: تفكيك البنية الاقتصادية بتحويل الاقتصاد من ريعي إلى إنتاجي، مما يضعف قبضة النخب الفاسدة،  ثالثا:  تفكيك البنية السياسية عبر إعادة بناء المؤسسات على أساس العقد الاجتماعي، لا على أساس المحاصصة الطائفية أو العسكرية. 

لكن هذا المشروع، من وجهة نظرنا، لن يتحقق دون صحوة نقدية جماعية، تدرك أن التغيير ليس منحة من النخب، بل ثمرة صراع طويل من أجل وعي جديد. فالجماهير التي تدرك مصالحها لن تكون وقوداً للحروب، بل ستكون الفاعل الرئيس في صنع دولتها.   

المأساة العربية ليست في استبداد النخب فحسب، بل في تقبل الجماهير لهذا الاستبداد كقدر محتوم. لذلك، فإن تحرير السياسة من النخبوية يستلزم تحرير الوعي أولا، لأن الشعوب التي لا تدرك استلابها لا تستحق الحرية. والسؤال الأكثر إلحاحا الآن: هل يمكن للعقل العربي أن ينتج وعيا جديدا، أم أنه سيبقى أسير ثنائية الخضوع أو الفوضى؟..

اقرأ أيضا للكاتب:في ذكرى الرحيل.. الدكتور أحمد النهمي: الفكر الذي يتجاوز الزمن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى