كتابات فكرية

الجمهوريات الوراثية: من ثورات الشعوب إلى مؤامرات العائلات (قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي)

الجمهوريات الوراثية: من ثورات الشعوب إلى مؤامرات العائلات (قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي)

بقلم: حسن الدولة

الثلاثاء 19 أغسطس 2025_

في سلسلة مقالاته الأسبوعية، التي لا يكفّ من خلالها عن “التوجيع الهادئ”، يرحمنا القاضي عبد العزيزالبغدادي بمساءلات موجعة لما يجري من محاولات حثيثة لإعادة الشعوب إلى بيت الطاعة، عبر أنظمة لا تخجل من تسويق “الجمهورية الوراثية” كصيغة طبيعية لحكمٍ يُفترض أن ينبني على الحرية والتداول السلمي للسلطة.

في مقاله هذا الأسبوع المعنون “مرض التوريث والحق في الثورة!” والمنشور في 18 أغسطس 2025، بموقع “صوت الشورى” يُمعن القاضي عبدالعزيز في تعرية الأوهام التي يُراد لها أن تصبح مسلمات، مستندا إلى وعي تاريخي حيّ، وتجربة يمنية مثخنة بمحاولات احتواء الثورات وتدجينها.

حيث أستهل مقالته بنقد لاذع لأخطر ما يحاك من مؤامرة لجملكة الجمهورية اليمنية بعد “المحلل” وكأني بالقاضي عبدالعزيز قد قرأ ما يشاع من مؤامرة خليجية لتلميع نجل الرئيس الراحل “الزعيم علي عبدالله صالح”، وكأن اليمن زريبة يورثها الحكام لغلمانهم حيث وضع القاضي عبدالعزيز أصبعه على الداء منذ مستهل مقاله حيث قال أن:  (“الجمهوريين الحقيقيين بحاجة لمن يذكرهم بان محاولات توريث حكم الوطن والشعب لفرد او أسرة حكمت وحلمت بتوريث الحكم في ظل الثورة والجمهورية ، واخرى تتربص بعودة ماضٍ أغبر وأظلم بفعل توريث سلف وكان سببا في الثورة، هذه المحاولات إنما هي محاولات لبقاء الشعب في خانة العبيد !.”)

كما أكد في ذات الوقت بأن “كل صور توريث الحكم أو محاولة توريثه تعني طموح البعض في استعباد الشعب، وحيث يوجد الاستعباد يثبت الحق في الثورة لأن الناس ولدوا أحراراً.”

بهذه العبارتين الحاسمتين يضع القاضي يده على جوهر العطب السياسي في جمهورياتنا التي صارت ممالك مقنّعة، حيث تعاد صياغة مفهوم “الشرعية” لتخدم استمرار العائلات في الحكم، لا استمرار المؤسسات.

القاضي عبد العزيز في مقالته الهامة هذا الأسبوع لا يتوقف عند نقد التوريث فحسب، بل يضع هذا المسار ضمن مشروع أشمل هدفه عزل الشعوب وتجهيلها وتحويلها إلى “قطعان” يمكن التحكم بها عبر سُور الجهل والخرافة ومناهج التجهيل، كما يصف.

 ويشير بأربع الاتهام إلى الجار التوسعي فيقول أنه: “الجار أنشأ للمتسولين منذ زمن لجنة خاصة جداً… معتقدا أن الشعب اليمني قابل للتركيع والترقيع والإذلال.”

هذا النقد الصريح للجار الجائر ليس بدافع إثارة العداء، بل لفهم المنظومة الأوسع التي تنتج الوصاية والتبعية السياسية، وتجعل من “دعم الجمهورية” مشروطا بمسخها.

وفي موضع آخر، يحذر القاضي من الطابع غير الإنساني للتوريث، ذلك التوريث القادم من أشغال التأريخ ولعله يقصد به ذاك الزعم بالحق الإلهي الذي ما انزل الله به من سلطان معتبرا أنه يستمد شرعيته من أوهام دينية وخرافية، وهنا تتضح الرؤية الفكرية التي تستبطن دفاعه عن الثورة لا كحدث، بل كقيمة.

فهذا الوهم وهو الاخطر من جملكة الجمهوريات يعتبر حسب قاضينا الجليل المتمثل في “مرض التوريث من أهم أعراضه قيامه على نزعة غير إنسانية… وتصبغها بصبغة دينية أو خرافية أخرى.”

ما يشد في قراءة مقال القاضي عبد العزيز البغدادي، أنه ألمح إلى الثورة قد تقودها امرأة، وقد تتولى المرأة الحكم نستنتج ذلك من خلال أنه لا يساوي بين الرجال والنساء في الشكل، بل في الجوهر الإنساني، مؤكدا أن “العيب في العقول والبصائر وقوة العزيمة”، وأن الثورة لا تختزل في ذكورة أو أنوثة، بل في وضوح الموقف.

وفي تحليل واضح لانهيار ثورة 11 فبراير، يرى القاضي أنها تحولت إلى ألعوبة بيد الهاربين من أشباه الرجال والنساء، ممن احتموا بالخارج طلبا للسلطة، ففتحوا أبواب الوصاية على الوطن.

وقد سخر من ذلك البعض الذي لجأ إلى أعتى الأنظمة رجعية لإستعادة الجمهورية والوحدة، تلك الدولة التي حاربت تورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م منذ اول يوم اندفعت فيه، وهي التي كانت من وراء حرب صيف عام 1994م الظالمة التي عمدت الانفصال بسفك الدماء الطاهرة، ومن اسبابها في اعتقاد كاتب هذه السطور هو الحرص على توريث الحكم، فيقول قاضينا الجليل عبد العزيز: “منهم من أوى إلى كهف المملكة كي تعيد الجمهورية، وهذا من عجائب من يستحلون الاستعانة بالشيطان الخارجي ضد خصومهم.”

إن إدانة القاضي ليست لثورة الحادي عشر من فبراير كفكرة، بل لتحريفها عن مسارها، بل لخيانة الثوار الذين خرجوا بصدور عارية لتغيير النظام، بل يقصد كل محاولة لا تستبطن مفهوم الحرية كقيمة عليا فوق الولاءات الضيقة.

 ومما سبق وفي واحدة من أكثر فقراته وضوحًا وتأثيرًا، يكتب يؤكد بأن “الثورات والجمهوريات الحقيقية طاردة لحكم الفرد المستبد، ويجب أن تكون علامات سعيها إلى حكم تتجلى فيه معاني الإنسانية في استئصال مرض التوريث الخبيث.”

ما يتضح في مقالات القاضي عبد العزيز خلال الأسابيع الأخيرة، هو هذا الهمّ العميق حيال انتكاسة الشعوب نحو أنظمة الوصاية، ومحاولات تفريغ الثورة من مضمونها التحرري، وإعادة تعريف “الشرعية” بما يخدم مصالح العائلات لا إرادة الشعب.

فالجمهورية، كما يراها، ليست بناء شكليًا، بل مشروعا تحرريا لا يمكن أن يستقيم دون التداول السلمي للسلطة، والمواطنة المتساوية، ودولة القانون.

وفي عبارة تكاد تلخص المقال كله يقول: (لم يعد هناك مجال للاعتقاد بأن شعبًا أصيلًا كالشعب اليمني يمكنه أن يقبل بتوريث الحكم… ببساطة لأنها عقيدة الموتى، والشعب اليمني شعب حيّ وإن ظنه البعض في عداد الشعوب الميتة).

اقرأ أيضا:يوميات البحث عن الحرية مرض التوريث والحق في الثورة! 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى