سبب تفكيك قطر لملاعب البطولة
سبب تفكيك قطر لملاعب البطولة
الاثنين12ديسمبر2022 مع إطلاق الحكم صافرة نهاية المباراة مُعلِنا عن فوز منتخب البرازيل على منتخب كوريا الجنوبية برباعية مقابل هدف واحد، في المباراة التي أُجريت في إطار دور الـ16، ومهَّدت الطريق للبرازيل إلى ربع نهائي مونديال قطر، ربما لم تتخيل الجماهير التي أتت لتشجيع بلادها من الجانبين بأن الصور التذكارية التي تلتقطها في ملعب 974 الذي استضاف المباراة ستكون هي الصور الأخيرة، حرفيا لا مجازا، وأن الملعب الذي شهد صيحاتها الحماسية منذ قليل سيختفي من الوجود تماما بعد عدة أيام.
ملعب 974 الذي يقع في منطقة رأس أبو عبود على بُعد 10 كم شرق العاصمة الدوحة قريبا من مينائها الرئيس، والمصمَّم بالكامل باستخدام مجموعة من حاويات الشحن المُحمَّلة على السفن، سُمّي بهذا الاسم الغريب إشارة إلى رمز مفتاح الاتصال العالمي بدولة قطر، وأيضا يرمز إلى عدد الحاويات التي استُخدمت لتشييده. الملعب الذي احتضن 7 مباريات في المونديال ويتسع لنحو 40 ألف متفرج يُعَدُّ أول ملعب في العالم يُصمَّم بشكل يسمح بتفكيكه بالكامل بعد نهاية البطولة.
بعد تفكيك الملعب، ستعود الحاويات مرة أخرى إلى الاستخدام التجاري وشحن السفن والملاحة البحرية بشكل طبيعي، بينما ستُستخدم الأسقف وبعض الحاملات المعدنية في مشاريع داخل الدولة، عبر إنشاء مرافق تطل على الواجهة البحرية على ساحل الخليج التي يحتلها موقع الملعب، فضلا عن بناء مركز تجاري للأعمال.
أما محتويات الملعب الأساسية التي تشمل المقاعد والشاشات والأجهزة الصوتية وغرف اللاعبين وغيرها، فسوف يُتبرَّع بها بالكامل إلى إحدى الدول النامية -لم تُسمَّ رسميا حتى لحظة كتابة هذا التقرير- بوصفها مساعدة من دولة قطر لتحسين البنى التحتية الرياضية لتلك الدول. (1)
ملاعب ضخمة
مشهد داخلي من ملعب خليفة الدولي الذي تجدد وأُعيد افتتاحه عام 2017.
مشهد داخلي من ملعب خليفة الدولي الذي تجدد وأُعيد افتتاحه عام 2017. (شترستوك)
منذ إعلان فوزها بتنظيم كأس العالم عام 2010، شيَّدت قطر 8 ملاعب بمعايير عالمية هي الأفضل على الإطلاق، تستوعب طاقة إجمالية من الجماهير تصل إلى 420 ألف متفرِّج، بتكلفة تُقدَّر ما بين 7-10 مليارات دولار، وذلك ضمن تكلفة إجمالية هي الأضخم في تاريخ تنظيم البطولات الرياضية تجاوزت سقف الـ220 مليار دولار، ضختها الدولة الخليجية الصغيرة في التطوير الشامل لبنيتها التحتية التي تتجاوز المرافق الرياضية لتشمل قطاعات النقل والمواصلات والفنادق والترفيه وحتى شبكة مترو أنفاق جديدة.
إلى جانب ملعب خليفة الدولي، الملعب الأقدم في قطر الذي شُيِّد عام 1976 وأُعيد تجهيزه لاستضافة مباريات كأس العالم برفع طاقته الاستيعابية إلى 40 ألف متفرج وافتُتح عام 2017، شيَّدت قطر 7 ملاعب أخرى، ما بين ملاعب جديدة أو ملاعب مُطوَّرة، على رأسها ملاعب الثمامة والجنوب والمدينة التعليمية، وأيضا ملعب أحمد بن علي، وملعب البيت الذي استضاف مباراة الافتتاح، وملعب 974، وأخيرا ملعب لوسيل أبرز الملاعب وأكثرها شهرة الذي من المقرر أن يستضيف المباراة النهائية، ويُعَدُّ أكثر الملاعب تكلفة بنحو 700 مليون دولار، وأكبرها سعة جماهيرية بنحو 80 ألف متفرج. (2)
تُثير هذه الملاعب الضخمة تساؤلا كبيرا: ماذا سيحدث عندما يغادر الفائزون ببطولة كأس العالم الأراضي القطرية بعد مباراة النهائي التي ستُعقد في ملعب لوسيل يوم 18 ديسمبر/كانون الأول والإعلان عن انتهاء البطولة؟ وما الذي ستفعله قطر بهذه الملاعب الضخمة شديدة الفخامة على أراضيها؟
ملعب أرينا دا أمازونيا – شيّدت البرازيل ملاعب عملاقة في كأس العالم 2014، عانت معظمها من ظاهرة “الأفيال البيضاء” لاحقا.
مصطلح “الأفيال البيضاء” هو مصطلح اقتصادي شائع يشير غالبا إلى الملكيات التي تبدو ثمينة، ولكنها في حقيقتها تجلب المعاناة لصاحبها بسبب تكلفة صيانتها العالية، فلا هو قادر على تحمُّل تكاليف صيانتها، ولا هو قادر على الاستفادة منها مباشرة. يعود هذا المصطلح إلى تراث الشرق الأقصى، حيث اعتاد الملوك إهداء بعض رجال حاشيتهم المكروهين أفيالا بيضاء ضخمة، تبدو ظاهريا هدية قيِّمة ولكنها في الحقيقة حِمل مدمر بسبب ارتفاع تكلفة العناية بها.
البرازيل كان لها تجربة شهيرة مع الأفيال البيضاء. فبعد مونديال 2014 الذي نُظِّم على أراضيها وانتهى بانتزاع ألمانيا اللقب العالمي، وجدت الدولة اللاتينية التي أنفقت 3 مليارات دولار لتجهيز ملاعبها لاستضافة المسابقة، وجدت أن كثيرا من الملاعب الفخمة التي شيَّدتها في المدن المختلفة أصبحت خاوية على عروشها بعد عام واحد فقط من انتهاء البطولة، وأن تكاليف صيانة هذه الملاعب أكثر بكثير من إيرادات الأنشطة الرياضية المحلية التي كان من المقرر أن تقوم عليها. ورغم أن البرازيل من أكثر دول العالم نشاطا في كرة القدم، فإن ارتفاع تكاليف الصيانة جعل الكثير من هذه الملاعب تتعرض للإهمال والتداعي في خدماتها.
أما اليونان فقد كانت تجربتها بعد انتهاء دورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها عام 2004 أكثر سوءا مما شهدته البرازيل، حيث عُدَّت مثالا صارخا للأفيال البيضاء التي لا يمكن التعامل معها إلا بالإهمال. فبعد أن أنفقت اليونان نحو 2.5 مليار دولار -وهو مبلغ يتجاوز 11 مليار دولار بمعايير اليوم- على أعمال البنى التحتية والمنشآت الرياضية في مدينة أثينا التي استقبلت البطولة الأولمبية، وهو ما عُدَّ رقما ضخما ويقال إن إنفاقه كان سببا من أسباب تفاقم الأزمة الاقتصادية اليونانية لاحقا، عانت هذه المنشآت من الإهمال الكامل حتى أصبح كثير منها بنايات قديمة لا تُستخدم في أنشطة رياضية بالأساس، والكثير منها يعلوها الحشائش والأتربة. (6، 7)
بالعودة إلى قطر، فرغم أنها حققت خلال السنوات الماضية قفزة ضخمة في المجال الرياضي، الذي لا يتوقف فقط على فوزها بتنظيم مونديال 2022، وإنما يمتد لتنظيم الفعاليات الرياضية الدولية في مختلف الرياضات، فإن ما شيَّدته من تجهيزات رياضية عملاقة لاستضافة كأس العالم كان أضخم بكثير من احتياجات الأنشطة الرياضية المحلية لدولة لا يزيد سكانها على ثلاثة ملايين نسمة. وبالتالي فإن تحوُّل هذه الملاعب العامرة بالمشجعين أثناء المونديال إلى “فيل أبيض آخر” وارد للغاية بعد انتهاء البطولة، مما استدعى إعادة النظر في طريقة التعامل معها إما بالتفكيك وإما بإعادة الاستخدام.
إعادة استخدام كل شيء
كان الأساس الذي بُنيت عليه إستراتيجية قطر للتحضير لاستضافة كأس العالم هو الاستدامة واستخدام أدوات صديقة للبيئة في التشييد، بحيث يمكن تفكيك وإعادة استخدام الملاعب وفق خطة مدروسة بمجرد انتهاء المونديال، سواء بإعادة تدويرها في مشروعات داخلية أو بالتبرّع بها وإهدائها إلى الدول الصديقة، وبالتالي تعزيز الحضور القطري العالمي، دون التورط في مشكلة الفيلة البيضاء.
على سبيل المثال، ملعب البيت، أحد أكبر الملاعب التي شُيِّدت في قطر لاستضافة 9 مباريات في كأس العالم، وشهد صافرة بداية انطلاق المسابقة يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني، والمصمَّم على شكل خيمة بدوية تتسع لنحو 60 ألف متفرج، من المتوقع تفكيك عدد كبير من مقاعده وتخفيض سعته إلى 32 ألف متفرج فقط، والتبرع ببقية المقاعد. أما الجزء العلوي من الملعب فمن المتوقع أن يتحول إلى فندق ومركز تسوق ومركز محدود للطب الرياضي.
الأمر نفسه ينطبق على ملعب أحمد بن علي الذي سيصبح ملعبا رسميا لنادي الريان القطري مع تخفيض عدد مقاعده من 40 ألف متفرج إلى 20 ألف متفرج، والتبرع ببعض أجزائه إلى بعض الدول الصديقة لقطر. أما بالنسبة لملعب المدينة التعليمية المصمَّم على شكل ماسة معدنية ويقع بين مُجمَّع للجامعات والمؤسسات التعليمية المرموقة في قطر، فمن المقرر أيضا تقليص عدد مقاعده وتحويل الملعب إلى مركز دائم للمنتخب القطري للسيدات في مختلف الرياضات، مع الإبقاء عليه رمزا وطنيا يجمع بين التعليم والرياضة.
لا أفيال بيضاء بعد المونديال
أما ملعب لوسيل الذي يُعَدُّ درّة تاج الملاعب القطرية وسيحتضن المباراة النهائية يوم 18 ديسمبر/كانون الأول فلن يختلف الأمر بالنسبة إليه كثيرا، وسيخضع هو الآخر لإستراتيجية التفكيك وإعادة الاستخدام. لوسيل هو أكبر ملعب كرة قدم في قطر بإجمالي سعة تصل إلى 80 ألف مشاهد، ويُعَدُّ تحفة معمارية حقيقية صُممت على شكل وعاء تقليدي مزخرف بألوان ذهبية، ويقع في مدينة “لوسيل” التي صممتها قطر بوصفها مدينة ذكية بأدوات مُستدامة شمال الدوحة.
من المتوقع تفكيك ملعب “لوسيل” للاستفادة من مكوّناته في مشاريع متعددة تشمل بناء مدارس ومتاجر وعيادات طبية، بينما من المتوقع الاستفادة من أجزائه العلوية في بناء فنادق ووحدات سكنية. أما الهيكل الخارجي الذهبي للملعب فسوف يظل باقيا في موقعه كما هو تذكارا تاريخيا لمونديال قطر 2022.
كذلك الحال مع ملعب “الجنوب” صاحب التصميم المعماري الفريد بواسطة المهندسة العراقية العالمية الراحلة “زها حديد” الذي يستمد تصميمه من المراكب الشراعية التقليدية في الشواطئ القطرية، ويقع في مدينة الوكرة، فسوف يستمر وجوده بوصفه أحد أهم الملاعب في قطر، مع تخفيض سعته الاستيعابية من المشاهدين ليصل إلى نحو 20 ألف متفرج، واستخدام معداته في نطاق خدمات أخرى، بما فيها التبرّع بها لدول أخرى لرفع كفاءة منشآتها الرياضية.
أما “الثمامة”، أحد أهم الملاعب التي لفتت أنظار الجميع بتصميمها الفريد الشبيه بالطاقية التقليدية الإسلامية، فسوف يبقى أيضا مع تخفيض عدد مقاعد المتفرجين وتحويل أجزائه العلوية إلى خدمات فندقية، فضلا عن تأسيس صالات ومراكز للطب الرياضي.
في النهاية، ومع قرارها بالتبرع بأكثر من 170 ألف مقعد بعد إزالتها من ملاعبها لمساعدة الدول النامية في تأسيس بنية تحتية رياضية جيدة، فإن دولة قطر تُعَدُّ أول دولة منظمة لكأس العالم تُصمِّم ملاعب “مؤقتة” يُعاد استخدامها لأغراض متعددة بعد انتهاء المونديال، والاستفادة منها داخليا وخارجيا، لتصبح علامة فارقة أخرى تركتها قطر في تاريخ تنظيم البطولة الأشهر عالميا.