سلطان الصريمي .. القصيدة التي أرهقت الخوف
سلطان الصريمي .. القصيدة التي أرهقت الخوف
الثلاثاء 31ديسمبر2024_
- بقلم /سلطان عزعزي
شكلت تجربة الشاعر الدكتور سلطان الصريمي الشعرية ملمحاً متمايزاً في المشهد الشعري اليمني شكلاً ومضموناً، وتجلى ذلك منذ اشتغالاته الأولى مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، فعلي صعيد الشكل الكتابي اختط الصريمي لنفسه ممراً خاصاً ،تمثل في القبض على اللغة العادية واللهجة العامية واستثمار طاقتها الدلالية لتنفتح على روح الشعر وتموضعه في جسدها وتحوله إلى لغة راقصة حافلة بالعذوبة والإشعاع والتوهج والإيحاء، لينتزع ركودها ويجعلها تتحرك داخل بنية حديثة تمثلها قصيدة التفعيلة، كما تميز المضمون في شعر الصريمي في ذلك الحفر الجريء والاقتحام الحاد للمناطق الساخنة والملتهبة والمسكوت عنها من خلال الوقوف على القضايا والهموم الاجتماعية والوطنية والسياسية التي تضخ أوجاعها وجراحاتها في جسم المجتمع وتخلف النزيف يسترسل في أوردة شرائحه المهمشة والمسكوت عنها من المستضعفين والبسطاء.
_ تنفتح عوالم الصريمي الشعرية على تنوع أبعاد مضامينها، حيث يتواشج العاطفي بالاجتماعي ويتعانق السياسي بالوطني، ويتمازج الغنائي بالملحمي.. ليتناغم ذلك في لوحة شعرية بانورامية حافلة بالجمال والإدهاش استطاع من خلالها الشاعر الصريمي أن يقدم بصمته الخاصة ونكهته المميزة في الشعر اليمني، حيث استقدم عناصر ومفردات بيئته المحلية من أحاديث الناس اليومية وأعاد خلقها من جديد ليفسح لها وجودا فنيا خاصاً داخل قاموس الشعر اليمني والذائقة الجمالية.
لقد اختطفت قصائد الصريمي حضوراً لافتاً جذبت إليها الأنظار وألهبت العواطف ومنحتها شحنة عالية التأثير فهو نموذج للشاعر الرسالي الملتزم بهموم وقضايا المجتمع، فالشعر ليس ترفاً ذهنياً أو فيضاً وجدانياً آنياً أو واحة تنفس عابرة لدى الصريمي، إن الكلمة والحرف بقدر ما يتموضع ويكتسب وظيفته الجمالية.يأتي بنفس القدر كتفجير وخلخلة وتثوير لوظيفة اجتماعية تهدف إلى خلخة وتحريك البنى الاجتماعية الجامدة للواقع، وتغدو صرخة مدوية لحثا واستنهاض للوجدان والذاكرة واستنفاراً ملتهباً لمواجهة الظلم والقمع والإكراه وتعرية لاختلال القيم والهدم الذي يطال المجتمع، ويهدد توازنه.
كما أنها عراك لا يكف، وخصومة لا تنتهي من القبح والخوف والإرهاب، حيث تتماهى الكلمة والحرف في قصائد الصريمي مع قيم الشرف والنبل والسمو والصدق الفني والمثال:
يذهب في قصيدة «نقوش على جدار الحب القادم» بالقول:
ما ناش ذليل وعمر الخوف ما حصَّل إلى قلبي طريق
أنا الذي جتعت .. واتشردت.. واتعذبت
ومن دمّي روت كل الكلاب
وراسي فارق الجسد المعذب ألف مرة
وكلما ميّتوني.. كنت أخلق من جديد
أو في مقاطع أبجدية «البحر والثورة» إذ يقول:
والحرف من داخلي يخرج مغسل بدمه
مش حرف يالله طلبناك
ويقول في قصيدة ياهاجسي:
يا هاجسي كم أنا شصبر
والزيف خلفي وقدّامي
الصبر لا يشبع الجائع
ولا يبرّد عطش ظامي
يمين لا اسمّع الدنيا
أنين جرحي وآلامي
وارسم على كل يوم تأتي
خيوط حبّي وأحلامي
_ إن تجربة الصريمي الشعرية لا يمكن الإمساك بتنوع ملامحها وسماتها في عجالة كهذه.. فهي بحاجة إلى مساحات أكبر من هذا الفضاء الزمني، وحيز أوسع من البياض، وقدر أرفع من مخزون الذاكرة للتحليق في رحابها، وسأختصر الحديث هنا بالتركيز على أهم الملامح التي استوقفتني في هذه التجربة، وأوجزها كالتالي:
بساطة اللغة المستخدمة والتراكيب الشعرية:
والتي تأتي محملة على تدفق شعوري ساخن ملتهب قادرة على الوصول إلى القارئ واستيطانه وترك الأثر فيه.. فهي قصيدة قابلة للتلقي بامتياز..تبتعد عن الغموض والإيغال في المجاز. وهي تجمع بين سهولة التلقي وشعرية وعذوبة النص، ولا تضحي بالمباشرة على حساب الفن، ولا تترك الثاني أسيراً في قبضة الأول، فوضوح الجملة الشعرية يقابله موقف دلالي ذات أبعاد يتناوب الحضور في بنيتها أحيانا البعد الفلسفي والحكمة، ويتراوح التواجد ويفسح وجودا لأكثر من بعد داخل الجملة الشعرية.
وهكذا يتوحد النص الشعري ويكتسب فضاء تحققه الغنائي في استيلاد إيقاعاته من أنماط المحيط الاجتماعي والحياة، وهو ما يجعل القصائد المغناة انبثاقاً حياً لهذا الإيقاع الذي نطالعه في أهازيج المرآة في قصيدة «مسعود هجر»، ونلمحه في التنهيدات والأنات المسحوبة والشجون المبتاعة في أغاني «متى وراعية شمطر، يا هاجسي، تليم الحب في قلبي».. الأولى والثانية بصوت الفنان عبدالباسط عبسي والثالثة بصوت الفنان أيوب طارش.. إضافة إلى أغانٍ أخرى غناها المرشدي وأيوب وعبدالباسط عبسي وجابر علي أحمد ونجيب سعيد ثابت.
وفي تنوع المضامين الشعرية، حيث نجد البعد الاجتماعي والعاطفي والمضمون الوطني والسياسي يتناوب حضورهم عليها بهذا القدر أو ذاك…كما يتجلى حضور البعد السياسي الوطني ويشكل بؤرة.. معظم النصوص
ويبرز الصدق الفني ويتماهى في حضوره مع التجربة الحياتية للشاعر.
فالشاعر سلطان الصريمي لا يكتب القصيدة بالقلم فحسب، بل يكتبها بحياته، إذ يندمج الموقف الشعري بالموقف العام للحياة، ومثلما قادته القصيدة «الأغنية» إلى قلوب الآلاف من البسطاء قادته القصيدة أيضاً إلى المعتقل، حيث واجه صنوفاً شتى من المعاناة والمخاوف والترهيب والعزلة والتقى مع صنوف من الحرمان وتقييد الحرية والألم النفسي، لكن ذلك لم يجعله يصطحب السجن في داخله إلى القصيدة، بل جعل القصيدة سجنا….أودع خلف قضبان حروفها ..عوالم القبح..وأطلق الحرية في أعماقه، وتحول السجن إلى تجربة ضاعفت إيمانه بحرية الشعر وانتصار القصيدة على القيد ليسجل حضوراً آخر للقصيدة الشعرية التي تنتصر في سباقها إلى الحرية مع الخوف.
الصريمي ببساطة وجمال قصيدته هو انعكاس لشخصيته البسيطة وتواضع إنسانه على صعيد الحياة اليومية.
إن قصائد الصريمي هي سفر لا ينتهي إلى مواطن القوة والحب والجمال والحرية ومغادرة لمواطن القبح والزيف والقهر وجسر للحنين إلى الآتي.
والقصيدة إذا لم تفعل ذلك ستغدو بقعاً من الحبر الأسود على بياض الورقة.!!
مقالةنشرت في صحيفة الجمهورية بتاريخ 7/7/2011
رحم الله الشاعر الكبير والثائر المفكّر الأديب والأستاذ الدكتور سلطان الصريمي صاحب قصيده #نشوان ، الذي رحل عن دنيانا يوم أمس الاثنين30ديسمبر2024 بعدمر1 عضال بالعاصمة صنعاء..
يذكر آن الدكتور سلطان الصريمي ولد عام 1948 في الحجرية في محافظة تعز. بدأ دراسته في كتاتيب قريته ، ثم انتقل مع أبيه إلى جيبوتي وأكمل دراسته هناك . ثم عاد إلى الوطن وعمل في البناء في عدن.
وفي عام 1980 سافر إلى روسيا للدراسة، فحصل على الماجستير في الأدب الشعبي عام 1985، وفي 1990 حصل على الدكتوراه في فلسفة العلوم الاجتماعية في موسكو.. وكان الفقيد الراحل أديباً وشاعراً ومثقفا يمنياً متفرداً.