عجز مالي وتراجع قطاع التكنولوجيا: الاقتصاد الإسرائيلي يتآكل
عجز مالي وتراجع قطاع التكنولوجيا: الاقتصاد الإسرائيلي يتآكل
- د _ عبدالرحمن المؤلف
كان واضحاً في تقريرَيْ وكالتي التصنيف الائتماني، «موديز» و»ستاندرد آند بورز»، أن للحرب الإسرائيلية على لبنان انعكاسات اقتصادية سلبية على الكيان، بعدما خفّضت الوكالتان تصنيف إسرائيل خلال أيام قليلة من بدء العدوان على لبنان. هذا الضرر يمكن أن يعيق نموّ اقتصاد الكيان الصهيوني على مدى السنوات المقبلة، حتى بعد انتهاء الحرب. فلن يكون سهلاً التخلص من الديون المترتبة على الحكومة الإسرائيلية، ولا استعادة الثقة فيها كبيئة استثمارية ولا سيما في مجالات حيوية مثل قطاع التكنولوجيا.
مأزق العجز
الضرر الاقتصادي يبدأ من العجز في الموازنة العامّة والذي تخطّى توقعات حكومة الكيان في بداية السنة، ويتوسّع في كل يوم يغرق فيه الكيان في الحرب التي أشعلها منذ 7 تشرين الأوّل 2023. والحرب سبب أساسي في العجز، لأنها فرضت توسيع الإنفاق العسكري واستدعاء جنود الاحتياط، وما يترتب على ذلك من أكلاف متنوّعة أبرزها كلفة التزوّد بالأسلحة المُستخدمة في حرب الإبادة على غزّة، ثمّ العدوان على لبنان. ويضاف إلى ذلك، اضطرار حكومة العدو إلى الإنفاق على المستوطنين الذين هُجّروا من شمال الأراضي المحتلة أو تركوا مستوطنات غلاف غزّة والتعويض عليهم.
وبلغ عجز الأشهر الـ12 التي سبقت أيلول الماضي نحو 8.5% من الناتج المحلّي، ما يمثّل توسّعاً في العجز للشهر الثامن عشر على التوالي. أي إن حكومة العدو تبتعد أكثر فأكثر عن الهدف الذي وضعته في آذار الماضي عندما وافقت على التعديلات على موازنة 2024، بعجز يبلغ 6.6% من الناتج المحلّي.
إذاً كيف ينعكس العجز في الموازنة على الاقتصاد الإسرائيلي؟
في تقريره الأخير تحت عنوان «اقتصاد العدو في ضوء حربه العدوانية على لبنان»، يشير المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق إلى أن العجز يقوّض قدرة الحكومة الإسرائيلية عن التدخّل في الاقتصاد لتحفيز العجلة الاقتصادية في زمن الحرب. كما يعني أن الحكومة الإسرائيلية ستضطر إلى «تحويل مزيد من الموارد بعيداً عن المجالات الحيوية مثل التعليم والرعاية الصحية وتطوير البنية التحتية لأغراض التمويل العسكري والمجهود الحربي». ويعود هذا الأمر إلى «أنه في مواجهة العجز المتزايد في الموازنة، لن تجد حكومة العدو مفراً من إجراء مزيد من الاقتطاعات في ميزانيات مختلف الوزارات (باستثناء وزارة الحرب)، ومخصّصات مشاريع الاستثمار العام في الصحة والاستيطان والتعليم والرفاه والبنى التحتية». أما الحلّ الآخر أمام حكومة العدو فهو محاولة «توسيع القاعدة الضريبية لتشمل فئات جديدة وزيادة معدلات الضرائب في ظل انكماش اقتصادي شديد… ما سيؤدي حتماً إلى تدهور تدريجي في مستويات المعيشة وتآكل في هالة الكيان كملاذ للاستثمار المجزي والحياة الرغيدة والآمنة».
قطاع التكنولوجيا يوظّف نحو 10% من القوى العاملة في إسرائيل ويؤمّن 65% من الإيرادات الضريبية و34% من عائدات ضريبة الدخل
عادةً ما يُغطّى العجز في الموازنة من خلال الاستدانة، فالإنفاق يجب أن يأتي من مكان ما. اليوم، يقف العدو أمام مشكلة بعد خفض تصنيفه الائتماني للمرة الثالثة خلال سنة واحدة. وخفض التصنيف الائتماني يعني كلفة استدانة أكبر، لأن مخاطر عدم السداد (التي ترتفع مع خفض التصنيف الائتماني) يجب أن تقابلها عوائد مالية أكبر لتجذب المستثمر في سندات الدين الإسرائيلية، ما يعني ارتفاع كلفة الدين. وارتفاع كلفة الدين إما تعني توسّع العجز في الموازنة، بسبب ارتفاع الإنفاق على خدمة الدين، أو تحويل موارد من الإنفاق الذي يجب أن يذهب إلى الخدمات العامة أو الاستثمار العام إلى خدمة الدين. في الحالة الأولى، الانعكاس على الاقتصاد سيكون سيئاً على المدى الطويل، إذ إن الاستثمار في البنى التحتية وفي الخدمات العامّة عنصر أساسي في عملية النمو الاقتصادي. أما الحل الآخر لتغطية العجز فهو وجود مصادر تمويل خارجي بديلة «سواء عبر المساعدات الأميركية أو حتى من دول عربية في المنطقة» بحسب تعبير تقرير المركز الاستشاري. إلا أن هذا الحل «له حساباته الخاصة سواء تلك المتعلقة باستقلالية القرار الإسرائيلي في التحكم بسير المعركة، أو بالظروف والإمكانات الخاصة بتلك الدول».
الخطر على القطاعات الحيوية
قد يظهر الضرر الاقتصادي للحرب على المدى الطويل، وهو بالفعل بدأ يظهر بعد سنة من الحرب والتوسّع المستمر الذي تشهده. في هذا السياق كشفت صحيفة «ذي إيكونوميست» نهاية الشهر الماضي أن المصارف الإسرائيلية تعاني حقاً من حركة هروب رؤوس الأموال. وتفيد التقارير بأن أكبر ثلاثة مصارف إسرائيلية شهدت زيادة كبيرة في عدد العملاء الذين يطلبون تحويل مدّخراتهم إلى دول أخرى أو ربطها بالدولار. ورؤوس الأموال هي أول الهاربين من الاقتصاد، لأن خروجها سهل في نظام يعتمد حرية حركة رأس المال. الخطوة الثانية، التي تحتاج إلى وقت لتظهر آثارها في الاقتصاد، هي الاستثمارات الحقيقية في الشركات الإسرائيلية. والحديث الأساسي هنا هو عن قطاع التكنولوجيا الذي يشكّل التمويل الخارجي عماداً له. وقد بدأت معالم هروب الاستثمارات من خلال إخراج بعض شركات التكنولوجيا أعمالها من الأراضي المحتلة إلى الخارج، إذ يظهر مسح أجرته منظمة «دولة الشركات الناشئة» أن ثلث شركات التكنولوجيا تدرس قرار إخراج جزء من أعمالها إلى خارج الأراضي المحتلة، عدا الخسارة الواضحة في جذب الاستثمارات الخارجية، إذ يظهر المسح نفسه أن نصف شركات التكنولوجيا الفائقة عانت من إلغاء استثمارات كانت موعودة بها من الخارج خلال الحرب.
يشكل هذا الأمر خطراً على القطاع التكنولوجي الذي أصبح عصباً أساسياً للاقتصاد الإسرائيلي. فبحسب المركز الاستشاري، هذا القطاع « بلغت نسبته 85.3% من إجمالي الخدمات الإسرائيلية المصدّرة سنة 2023، بعد أن كانت نسبتها 27.5% فقط في عام 1980، ما يعكس الأهمية المتزايدة لقطاع التكنولوجيا المتقدّمة كمصدر رئيسي للخدمات المصدّرة». وإن أي ضرر يحلّ به، هو ضرر على الاقتصاد الإسرائيلي كله، فهذا القطاع يوظّف نحو 10% من القوى العاملة في إسرائيل، ويؤمّن نحو 65% من الإيرادات الضريبية لحكومة العدو، كما يُشكّل 34% من إيرادات الضريبة على الدخل، بحسب ورقة بحثية أصدرها معهد «شوريش» في شباط الماضي تحت عنوان « فرص العمل في قطاع التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلي».
وبحسب المركز الاستشاري «ما يخشاه الخبراء هو أن يؤدي عدم الشعور بالأمن والاستقرار، بالطبع إلى جانب زيادة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية مع غياب الحوكمة (ما سمي الإصلاحات القضائية)، إلى دفع المزيد من رواد الأعمال والمشروعات في قطاع التكنولوجيا للهجرة نحو الخارج».
يضاف إلى ذلك كلّه تحدّ جدّي، يشير إليه المركز الاستشاري، مرتبط بما سيواجهه قطاع التكنولوجيا المتقدّمة الإسرائيلي في المدى المنظور. يتمثل هذا التحدّي «في الحذر الشديد للأسواق العالمية من شراء خدمات ومنتجات التكنولوجيا الإسرائيلية، خصوصاً بعد تفخيخ الموساد الإسرائيلي الآلاف من أجهزة البيجر واللاسلكي التي وصلت إلى لبنان وانفجرت بين أيدي المواطنين في أيلول الماضي». هذا الأمر سينعكس على سمعة الشركات الإسرائيلية خصوصاً في القطاعات الحسّاسة، مثل القطاع العسكري، وكذلك على القطاعات المدنية.
من الواضح أن هذه الآثار السلبية تؤلم العدو، لكنها ليست كافية حتى الآن لوقف الحرب التي يشنّها على لبنان وغزّة. لكن غرق العدو في وحل هذه الحرب يجعل الآثار السلبية على اقتصاده متضاعفة يوماً بعد يوم.
اقرأ أيضا:لستَ مهزوماً ما دمت تُقاوم