كواليس أول اتفاق أمريكي مع صنعاء وأنصار الله

كواليس أول اتفاق أمريكي مع صنعاء وأنصار الله
– تقدير موقف –
- عــبدالله عـلي صبري
الخميس8مايو2025_
في 12 أبريل 2025 نشر الناشط الحقوقي الدولي والبرلماني الكويتي سابقا عبدالحميد دشتي، في تغريدة له على منصة إكس، معلومات كشفت لأول مرة عن توجه أمريكي للتفاوض مع ” أنصار الله “، بعد أقل من شهر على الجولة الثانية للعدوان الأمريكي الذي استؤنف في 15 مارس 2025.
أفاد دشتي أن الإدارة الأمريكية طلبت من السفير الأمريكي الجديد في الكويت، فتح قنوات اتصال مع ” أنصار الله ” بهدف التفاوض حول أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية وحركة السفن الأمريكية. وكان الرئيس الأمريكي قد عين أمير غالب- وهو عربي من أصول يمنية- سفيرا للولايات المتحدة لدى الكويت في 8 مارس 2025، ما يفسر لماذا تم اختيار الأخير كقناة اتصال مع الوفد الوطني في مسقط.
صحيح أنه لم ترشح أية تصريحات رسمية تؤكد أو تنفي ما نشره دشتي في حينه، إلا إن اتفاق وقف إطلاق النار المعلن مؤخرا بين أمريكا وحكومة صنعاء بوساطة عمانية، يفتح الشهية للتساؤلات عن الأسباب والكواليس التي أدت إلى تفاهم كهذا كان يبدو مستحيلا قبل ساعات من إعلانه.
وفي الأسباب، يمكن العودة إلى خطاب الرئيس مهدي المشاط بتاريخ 20 إبريل 2025، الذي قال فيه أن حاملة الطائرات “ترومان” فقدت قيادتها وسيطرتها وأصبحت خارج الخدمة منذ الأيام الأولى للعدوان على اليمن، وهو ما نفته جهات رسمية أمريكية في حينه. وهنا نسأل، ما الذي يجعل الإدارة الأمريكية تبحث عن قناة تواصل مع صنعاء وما تزال في الشهر الأول من حملتها العسكرية، التي اتخذت مسمى ” الفارس الخشن “، لولا أن حدثا جللا كهذا قد وقع بالفعل.
في الأثناء كان منسوب التصعيد الكلامي للرئيس ترامب وأركان إدارته، قد انخفض بعض الشيء، فبعد أن كان ترامب قد توعد بالقضاء على من يسميهم بالحوثيين، ونشر في 19 مارس 2025 على منصة تروث سوشيال أن الضربات الأمريكية ستصبح أسوأ تدريجيا وأنه سيتم القضاء على الحوثيين تماما، وأن مصيرهم الإبادة الكاملة، ظهر السفير الأمريكي لدى اليمن ستيفن فاجن، في تصريح لافت تداولته وسائل الإعلام في 11 ابريل 2025، أكد فيه التزام الولايات المتحدة الثابت بالعمل على إيجاد حل سياسي شامل يضمن استقرار اليمن، والعمل على استعادة أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
وفي مقابل انخفاض التصعيد الكلامي مع اليمن، رفعت الإدارة الأمريكية من وتيرة التهديدات للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقبل يوم واحد من تصريح السفير الأمريكي، توعد وزير الدفاع بيت هيجيسث إيران بأنها ستدفع ثمن دعمها للحوثيين، حد قوله.
بيد أن تصاعد حدة الخطاب بشأن إيران لم تكن منسجمة مع الواقع الميداني، فقد فاجأ الرئيس الأمريكي ضيفه نتنياهو بالحديث عن مفاوضات نووية مع إيران بعد أن كثر الحديث عن استعداد أمريكي إسرائيلي لشن هجمات تستهدف إيران ومنشآتها العسكرية. وقال ترامب في السابع من ابريل 2025، أن الولايات المتحدة وإيران بصدد البدء في محادثات مباشرة بشأن برنامج طهران النووي.
كان الرئيس المشاط في خطابه آنف الذكر، قد بارك لإيران هذا النجاح الدبلوماسي، وقال: ندعم الدبلوماسية الإيرانية في السعي لحلحلة مشاكلها مع خصومها، كما دعمناها وشجعناها وباركنا نجاحها مع السعودية.
ومن يقرأ بين السطور يلحظ أن حديث المشاط كان يوحي بأن لليمن دور ما في الخطوة الأمريكية، إذ كان الرئيس يتحدث بكل ثقة عن الفشل العسكري الأمريكي في خطاب معنوي من الدرجة الأولى.
حديث الرئيس المشاط عن الفشل العسكري الأمريكي ليس اعتباطا، فقد كان مدعما بأدلة وشواهد ميدانية لا تخفى عن المراقبين والخبراء الدوليين، الذين نقلت عنهم الصحافة الغربية الكثير من التصريحات التي فضحت العجز الأمريكي في اليمن.
وإلى جانب الفشل العسكري مُنيت الإدارة الأمريكية بانتكاسة غير مسبوقة في المجال الاستخباراتي، وإذ تبين أن أمريكا تعاني من ” عمى استخباراتي ” تجاه اليمن بقدراته وقياداته العسكرية، وأخفقت في استهداف قيادات دون الصف الثالث، كانت فضيحة مستشار الأمن القومي المعين حديثا، قد دلت على ” انكشاف استخباراتي” مبكر، ما أدى إلى إقالته ونائبه.
جاءت الإقالة بعد أسابيع من الجدل الذي أثاره تسريب خطط عسكرية أميركية بشأن الضربات في اليمن، وذلك عقب انضمام رئيس تحرير مجلة ” ذي أتلانتك ” عن طريق الخطأ إلى مجموعة دردشة على تطبيق سيغنال، كان يشارك فيها مايك والتز ومسؤولون أمنيون كبار، تداولوا من خلالها تفاصيل حساسة عن توقيت ونوعية الضربات العسكرية. ومما فاقم من خطورة الخلل الاستخباراتي، أن صنعاء أعلنت أنها أفشلت العدوان الأمريكي في يومه الأول نتيجة معلومات استخباراتية.
وفي مقابل المأزق الأمريكي، كانت القوات المسلحة اليمنية تواصل عملياتها العسكرية المتصاعدة كما ونوعا باتجاه حاملات الطائرات الأمريكية ” ترومان ” في البحر الأحمر، ثم باتجاه حاملات الطائرات ” فينسون ” التي باشرت عملياتها العدوانية على اليمن في 15 ابريل 2025. وقيل حينها أنها جاءت كرديف لمثيلتها ترومان، وتبين أنها جاءت كبديل بعد الإعلان الأمريكي عن موعد لعودة ترومان، ومغادرتها البحر الأحمر على خطي الحاملة ” أيزنهاور”. كما تمكنت القوات اليمنية من اسقاط سبع طائرات استطلاع أمريكية من نوع ام كيو ناين خلال أقل من شهرين.
كل ذلك بالموازاة مع تصاعد الهجمات اليمنية في عمق الكيان الصهيوني بالطائرات المسيرة والصواريخ البالستية، وتأكيد اليمن الاستمرار في معركة إسناد فلسطين حتى وقف العدوان ورفع الحصار الصهيوني عن غزة.
في 28 ابريل 2025، كانت الأنباء الرسمية الواردة من البنتاغون، تحمل خبرا سيئا للولايات المتحدة، مفاده أن طائرة أمريكية من نوع إف 18 قد سقطت في البحر الأحمر من على متن ” ترومان “. وفيما بعد ذكرت الصحافة الأمريكية أن حاملة الطائرات نفذت مناورة حادة وانعطافا شديدا أدى إلى سقوط الطائرة، ( بعد ساعات من إعلان الاتفاق ذكرت صحف أمريكية أن البحرية الأمريكية خسرت طائرة ثانية من نوع إف 18 في البحر الأحمر ) . وفي صنعاء كانت الأخبار السارة تؤكد أن القوات المسلحة اليمنية هي التي اجترحت هذا النجاح غير المسبوق، ما عمق من أزمة أمريكا في حربها على اليمن.
أعلن ترامب عن سياسة الضغوط القصوى في إدارة الشؤون الخارجية، وقال بأنه يستخدم القوة من أجل الوصول إلى السلام، غير أنه تجرع هزيمة مذلة في اليمن، جعلت من الأمن القومي الأمريكي منكشفا على نحو خطير أمام الدول التي شجعها الرئيس المشاط، بقوله: فلتمدد الصين ولا تبالي، ولتمدد روسيا ولا تبالي. وهو ما فرض على ترامب في الأخير القيام باستدارة سياسية سريعة وحادة، أدت إلى إعلان وقف إطلاق النار في أول اتفاق أمريكي من نوعه مع صنعاء وأنصار الله.
اضطر ترامب أن يعلن عن الاتفاق بنفسه، وإن بمضامين مخادعة، زعم أن ” الحوثيين ” قد استسلموا وأنهم قد طلبوا وقف إطلاق النار، وهذا ما نفاه رئيس الوفد الوطني محمد عبد السلام في تصريح متلفز لقناة المسيرة، كشف فيه أن الأمريكي هو الذي تقدم بالطلبات والرسائل عبر الأشقاء في سلطنة عمان خلال الأسابيع الماضية.
من جهتها كشفت الخارجية العمانية مساء الثلاثاء 7 مايو2025 عن تفاصيل الاتفاق في بيان رسمي. دحض البيان السردية الأمريكية، لكنه أكد على أن الطرفين اتفقا بأن لا يستهدف أي منهما الآخر، بما في ذلك السفن الأمريكية في البحر الأحمر وباب المندب. لم يتطرق البيان إلى إسرائيل أو فلسطين، ما جعل الكثير من قيادات أنصار الله تؤكد بأن معركة اسناد غزة مستمرة، وهذا ما أوضحه عبد السلام ايضاً.
بيد أن بيان الخارجية العمانية قد أثار بعض التساؤلات لناحية المضامين والمصطلحات الواردة فيه، إذ نص على أن التواصل كان بين طرفي الولايات المتحدة الأمريكية من جهة و” السلطات المعنية في صنعاء بالجمهورية اليمنية ” من جهة أخرى. وهذا يعني أن البيان تجنب ذكر ” أنصار الله ” ربما لأن الأمريكي قد صنف الجماعة كمنظمة إرهابية، وربما لأن صنعاء أرادت أن يكون الاتفاق مع جهة رسمية، بغض النظر عن الخلاف بشأن شرعيتها لدى المجتمع الدولي. ( والملاحظ أن عدد من الدول العربية التي رحبت بالاتفاق قد استخدمت المصطلح الوارد في تصريح الخارجية العمانية ).
ويطرح السؤال نفسه، لماذا يتفاوض الأمريكان مع جهة يصنفونها بالإرهاب؟، أليس في ذلك تنازلا أمريكيا، ومكسبا لـ ” أنصار الله “؟ البيان أشار كذلك إلى أن التفاوض قد يتواصل بهدف مناقشة أمور مستقبلية، فما الذي يمكن أن تتوافق عليه أمريكا مع ” أنصار الله ” مستقبلا؟
من وجهة نظري أن أي تفاوض مستقبلي، يتطلب في البدء رفع العقوبات الأمريكية تجاه اليمن، والتراجع عن تصنيف أنصار الله منظمة إرهابية، ثم إن على الولايات المتحدة أن تدفع باتجاه الحل السياسي في اليمن، بعد أن عطلت ” خارطة الطريق ” من خلال الضغط على الطرف السعودي.
بقي القول إن الكيان الصهيوني، تفاجأ بالاتفاق المعلن. وقالت وسائل إعلام عبرية أن ترامب قد ترك إسرائيل وحيدة في مواجهة اليمن وأنصار الله، وهو نفس الشعور الذي عبر عنه المرتزقة اليمنيون، وربما بذات المضامين. وختاما ثمة من يتطلع إلى زيارة ترمب المرتقبة للرياض والمنطقة، وما تحمله من فرصة مواتية لإعلان تهدئة شاملة لا تستثني غزة، قد يكون في الإعلان عنها تخفيفا من وطأة حال السعودية ودول الخليج، التي يأتيها ترامب لجلب واستنزاف الأموال رغما عنها.
أما اليمن فقد فرض نفسه بقوة الذراع وثبات المبدأ رقما إقليميا لا يمكن تجاوزه بعد اليوم. وفي الخلاصة نستطيع القول إن المفاوضات غير المباشرة بين اليمن وأمريكا، قد تحركت في منتصف إبريل 2025، عبر السفير الأمريكي في الكويت ابتداء، ثم من خلال الوسيط العماني، وإن إصابة حاملة الطائرات الأمريكية ” ترومان ” في الهجمات اليمنية كانت مربط الفرس ونقطة التحول الأساسية، كما أدى الإعلان عن سقوط طائرتين من نوع إف 18 في البحر الأحمر إلى تعميق أزمة الولايات المتحدة في عدوانها على اليمن دون إغفال الأسباب الأخرى، التي أجبرت الرئيس ترامب على التراجع المهين، ومنها الفشل العسكري في استهداف القدرات والقيادات العسكرية اليمنية، والإخفاق الاستخباراتي المزدوج للإدارة الأمريكية، وانكشاف الأمن القومي الأمريكي، وتراجع هيبة واشنطن أمام الدول الكبرى.
اقرأ أيضا:نائب وزير النقل: هذا ما دمره العدوان في مطار صنعاء والخسائر الأولية تجاوزت نصف مليار دولار
