اخبار محليةكتابات فكرية

قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي (تعددت الثورات والموتُ واحد)

 قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي (تعددت الثورات والموتُ واحد)

  • حسن حمود الدولة

الاحد 14 سبتمبر 2025_

يفتتح الأستاذ عبد العزيز البغدادي مقاله بتفريق دقيق بين نوعين من الثورات: الثورة الفكرية التي لا يُسمع فيها دوي المدافع ولا لعلعة الرصاص، بل تأتي كما النسيم العليل، تُذيب صخور الجهل كما تذيب قطرات الماء جلاميد الثلج؛ وثورة أخرى تستهدف تغيير الأنظمة السياسية بالقوة المسلحة، وما يصاحبها من عنف ودماء واستبدال وجوه لا تغيير واقع. ويرى الكاتب، متفقاً مع آراء كثير من علماء الاجتماع، أن الثورة الحقيقية لا تكون إلا فكرية، لأن الثورة التي تفرض التغيير عبر فوهات البنادق، لا تصنع وعياً، بل تورث دورة جديدة من الاستبداد باسم الحرية، والانتصار الزائف باسم الكرامة.

في ضوء هذا الطرح، أعتقد أننا اليوم – وأكثر من أي وقت مضى – بحاجة ماسّة إلى ثورة فكرية شاملة توقظ شعبنا من سباته الطويل، وتخرجه من ظلمات الجهل وسوء الفهم الديني والاجتماعي، وتعيد تشكيل العقل الجمعي على أسس العلم والتفكير الناقد وإحياء منظومة الأخلاق، التي تُبنى على دعائم الحرية والعدالة والمساواة والسلام، ونبذ العنف والطائفية، بما يحفظ كرامة الإنسان، ويصون مقاصد الشريعة في كلياتها الخمس: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

ولعل من أبرز ما يميز الطرح العميق في مقال البغدادي، أنه لا يكتفي بطرح الفكرة، بل يُعيد تعريف هدف الثورة الحقيقية، إذ يقول: “محور أهداف كل ثورة شريفة – إن وُجدت – هو توظيف السلطة لخدمة الشعب، فإذا وُظفت لمصلحة سلطة مستبدة، عائلية أو حزبية أو مذهبية أو حتى دينية ضيقة، فإنها بهذا الانحدار تصبح أم الكوارث.” وهذا القول لا يترك مجالاً للبس، خاصة حين يُقارن بالثورات التي عرفتها منطقتنا، ومنها ثورتي السادس والعشرين من سبتمبر 1962 والرابع عشر من أكتوبر 1963، حيث يُطرح التساؤل الجوهري: هل كانت تلك ثورات من أجل الإنسان، أم من أجل السلطة؟ وهل انتهت فعلاً إلى الحرية، أم أعادت إنتاج الاستبداد بثوب جديد؟

إن ما يطرحه الكاتب يجعلنا نعيد التفكير في طبيعة التغيير المنشود، وما إذا كان التغيير السياسي وحده كافياً. فالثورات الفكرية هي وحدها التي تضمن بقاء القيم، لأنها تغيّر بنية الوعي لا شكل النظام. إنها لا تهدم فقط ما هو قائم، بل تؤسس لما يجب أن يكون، عبر بناء الإنسان الذي هو جوهر كل حضارة. والحضارات لا تُقام بالسلاح، بل بالعقل، ولا تُبنى بالشعارات، بل بالمعرفة.

إن النماذج التاريخية توضح أن أعظم الثورات الفكرية لم تكن يوماً سهلة، فقد دفع مفكروها ثمناً باهظاً من دمائهم وأعمارهم. فليس من قبيل المصادفة أن نرى الأنبياء والمصلحين والمفكرين – من النبي محمد ﷺ، وموسى عليه السلام، وعيسى بن مريم، إلى الحسين بن علي، وجاليليو، ومارتن لوثر، وعبدالرحمن الكواكبي – جميعهم واجهوا أشكالاً متعددة من الاضطهاد، لأنهم ببساطة، حملوا مشروعاً للتغيير لا يخدم مصالح السلطة، بل يُزعزع أركانها على أسس فكرية، لا عسكرية. والكواكبي، على سبيل المثال، اعتبر الجهل أشد أنواع الاستبداد، وقال إن الاستبداد يضعف كلما ازدادت الشعوب معرفة. وهو ما يعيدنا إلى حقيقة أن كل ثورة فكرية، هي في الأصل وقوف في وجه صنوف العبودية، إلا عبودية الإنسان لخالقه.

ومن اللافت أن التاريخ كثيراً ما يُكافئ من حملوا السلاح بالسلطة، ومن حملوا الفكر بالمشانق، فالثورات المسلحة تريق دماء الحكام الذين ثاروا عليهم، بينما الثورات الفكرية تُسفك فيها دماء حملة مشاعلها. وهذا ما حصل مع مفكرين كُثر من علماء الإسلام الذين تعرضوا للاضطهاد في عصور مختلفة: الحلاج، الذي ضُرب بالسياط وقطعت أطرافه ثم أحرقت جثته؛ ابن المقفع، الذي شُوي لحمه أمامه قبل أن يُقتل؛ المعري، الذي سُجن وعُزل؛ والفارابي وابن سينا والرازي الذين كُفّروا؛ والسهروردي الذي قُتل بنفس الطريقة التي قُتل بها الحلاج؛ والجعد بن درهم، الذي ذُبح في المسجد يوم العيد؛ بل حتى من نفاهم التاريخ ثم استعادهم لاحقاً كمبدعين: ابن خلدون، والجاحظ، وابن رشد، وابن الفارض، وابن بطوطة، وغيرهم كثير.

والأعجب أن هؤلاء – رغم ما تعرضوا له – هم من أناروا ظلمات العصور الوسطى في أوروبا بعلومهم في الطب والفلك والفلسفة والرياضيات والهندسة، وغيرها من ميادين المعرفة. وهو ما عبّر عنه الحلاج حين قال لجلاديه: “لكم سلطان على جسدي، أما روحي – فهي فكرة – ولا سلطان لكم عليها.” لقد عاشوا وماتوا وهم يدركون أن ما يزرعونه من فكر، سيثمر ولو بعد حين.

ولا يسعني هنا إلا أن أستحضر عبارة الأستاذ محمد عبده، حين قال: “إذا كان لي حظ من العلم يُذكر، فذلك عائد إلى أنني ظللت أكنس ما خلفه الأزهر في دماغي عشر سنوات.” وهي عبارة تلخص عمق المأساة التي يعيشها العقل المسلم منذ قرون، في ظل فكر موروث محنّط، فرضه فقهاء السلاطين، وغذّته السلطة، حتى بات كثير من الناس يظنون أن الجمود هو الدين، وأن الإتباع الأعمى هو التقوى. بالله عليكم، كم نحتاج من السنين لكنس ما خلفه هؤلاء في عقولنا؟

وأمام هذا كله، لا نملك إلا أن نُجدد الدعوة إلى ثورة فكرية لا تتوقف، فكلما اشتعلت ثورة، تبعتها أخرى، لأن ثورات الفكر لا تعرف السكون، ولا يُحدها زمان أو مكان. إنها ثورات ناعمة، تنقّي العقول مما تراكم فيها من صدأ، وتصنع الإنسان الذي يستطيع أن يصنع التاريخ. وقد رأينا كيف أن هذه الثورات أفرزت في القرن العشرين أفذاذاً مثل محمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، وعلي عبد الرازق، وغيرهم، ممن حرروا العقل المسلم من أغلاله، وأعادوا ربط الدين بالحرية، والعقل بالإيمان.

في الختام، لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير للمفكر القاضي عبدالعزيز ضياء الدين البغدادي، على ما يتحفنا به كل يوم ثلاثاء من صحيفة الثورة، فقد صارت زاويته الأسبوعية موعداً مع الوعي، ونافذة للأمل في فكر عربي حر ومسؤول. وأقول بصدق: صرنا لا نشتري عدد الثلاثاء إلا لأجل مقال القاضي، لأنه وحده يلامس الواقع، ويُحرك الساكن، ويوقظ العقل من سباته.

رحم الله من قال:

“الثورة الحقيقية هي التي تُغير أفكار الناس، لا وجوه الحكام.”

——————————————–

* كتب المقال في 14 سبتمبر 2021م

اقرأ أيضا:العدوان على صنعاء وصمة عار في جبين العالم والصمت انحيازٌ للقاتل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى