اخبار محليةكتابات فكريةنافذة على كتاب

قراءة في فكره وشعر القاسم بن علي الوزير

في الذكرى الأولى لرحيل “القاسم بن علي الوزير”

قراءة في فكره وشعره

(المنشور على صفحته على الفاسبوك)

قراءة وعرض الأسيف/ حسن حمود الدولة

الثلاثاء3يونيو2025_

في مثل هذا اليوم من صباح الاثنين الموافق 20 مايو 2024م رحل عن دنيانا المجاهد المفكر الإسلامي العروبي الكبير الشاعر والأديب “القاسم بن علي الوزير”، رحل جسدا وسيظل حيل بيننا بنورَ فكره الذي سيظل شعلة تتقد في سماء الفكر العربي. رحل عنا بشموخ الزاهدين وهدوء الحكماء، تاركا إرثا من الكفاح الفكري والسياسي، فقد كان رحمة الله تغشاه مثالًا للمناضل الجسور، المناضل الذي جمع بين قوة القلم وصدق المواقف، وفي ظل هذا العطاء المتجدد رحل “القاسم” عن دنيانا بصمت الزهاد، وورع الأولياء ، وصبر المتقين ، وهدوء الحكماء، وعظمة المجاهدين .

دخل كاتب هذه السطور بالصدفة على صفحة “القاسم” على الفيسبوك، فإذا بي أكتشف كنوزا أدبية وفكرية تليق بمقام الراحل الجليل؛ مقالات تشع حكمة، وأشعارا تختال وجدا، فانهمكت في قراءتها كأنما أرتشف من نهر كان قد جف مصبُّه، لكن ينابيعه لا تتفجر إلا في القلوب الحية. ولعل في إحياء فكر الراحل استعادة لروحه الطليقة التي ما زالت تُناجينا من بين السطور، فكل كلمة تقرأ له تُضيء شمعة في مأتم الفقد، وتجعل من الغياب حضورا يراوحُ بين الذكرى والخلود.

على أنني – وأنا غير المتخصص في علم الاجتماع والنقد الأدبي – وبضاعتي فيهما مزجاة، كنت أخشى أن تعجز كلماتي عن إدراك عمق ميراثه، لكن سلاسةَ لغته التي تنساب كالنسمة، ورُقيَّ طرحه الذي يتهادى بين الحداثة والأصالة، جعلا الغوصَ في عالمه الفكري سهلا ممتنعا، فكانت هذه القراءة محاولة متواضعة لالتقاط شذراتٍ من مشروع “القاسم” التنويري، عسى أن تكون – مع قصور بضاعتي – إكليلا من الوفاء يخفف قليلا من ألم الغياب، ويذكر بأن الفكر الحر لا يعرف الموت.

فسعيت إلى صياغة النص التالي عبر توظيف أدوات بلاغية بعد جهد جهيد ومحاولة مضنية فغصت في فكر الراحل للمرة الثانية حيث سبق أن كتبت قراءة لفكر القاسم وشعرة عقب الفراق ، واستعرضت صورا كـ “النهر الجاف” و”الشمعة في المأتم” لربط فكره بالخلود، وخلقت تناقضاتٍ دراميةً بين الغياب والحضور لتجسيد صراع الفقد مع بقاء الإرث، كما حرصت اليوم أيضا على نحتِ أوصاف ذات إيقاع موسيقي تعكس سلاسةَ أسلوب “القاسم” وعذوبة كلماته، باعتباره شاعرا وناثرا من الطراز الرفيع، يمتلك ناصية الكلمة ويرسلها كنسمة عابرةِ تمازج بين التراث والحداثة. ولم أغفلْ تواضعَ الكاتب أمام عِظَم المهمة، فبدأت بقراءة فكره من خلال النصوص التي نشرها على صفحته على الفيسبوك ثم ختمت القراءة بتأكيد قيمة المحاولة رغم القصور، كي تظل كلماتُ الراحل جسرا بين الألم والأمل، وبين الذكرى الخاطفةِ والوجود الدائم.

ومن خلال هذه القراءة نجد أننا أمام مفكر جبار استثنائي، وشاعر وفيلسوف من الطراز الرفيع، ومجاهد صلب صبور أفنى جل حياته من اجل أن ينشد لأمته الخير، والسعادة والرفاهية والعيش الكريم، والتقدم والتطور، وتحقيق العدل والمساواة والحرية في ظل حكم شوروي ديمقراطي، أننا أمام شاعر من فحول الشعراء ومفكر من كبار المفكرين ومجاهد جسور جاهد مع أخوته ورفاقهم ممن سار على درب الرعيل الأول من اجل تحقيقه. بذل حياته في خدمة الفكر والتجديد وفق النظرية الحديثة للفكر الحضاري “الأبستمولوجيا” والدعوة إلى الفكر الإسلامي المستنير منظرا ومجادلا ومحاضرا ومرشدا.

يجسد القاسم بن علي الوزير نموذجا فريدا للمثقف الموسوعي الذي جمع بين سعة الأفق الفكري ورشاقة البيان الأدبي، منطلِقا من صميم الهوية العربية والإسلامية لبناء رؤية تلامس إشكاليات الواقع المعيش وتستشرف آفاق المستقبل. عرف بمنهجه المتوازن في الحوار الحضاري، حيث دعا إلى تفاعلٍ واعٍ مع المنجزات العلمية الغربية، مع مقاومة انحرافاتها المادية وآليات الهيمنة الاستعمارية التي تُهدِّد الخصوصية الثقافية. رأى في مشروع النهضة العربية تحديا مصيريا لا يتحقق إلا بتحرير الفكر من قيود الجمود، وإطلاق طاقات الإبداع عبر اجتهادٍ متجدِّد، معتبرا أن العدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية ليست شعاراتٍ سياسيةً عابرة، بل أسسًا لبناء مجتمعٍ قادر على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية.

وبذلك فإن فقيدنا “القاسم” قد حجز لنفسه مكانة رفيعة، كفيلة بأن يضاف اسمه في سجل الخالدين، فسجله حافل بالكثير من النقاط المضيئة، ففي النضال مكتوب اسمه مع تلك الكوكبة المضيئة في سماء اليمن من شهداء أول ثورة دستورية في الجزيرة العربية حيث ظل وفيا لتراثهم النضالي منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين وحتى تاريخ وفاته، ففي الأدب كان شاعرا كبيرا يقف جنبا إلى جنب مع ” أبو القاسم الشابي” في عذوبة شعره الوطني و”بدوي الجبل” في رقة معانيه حسب وصف علامتنا المجتهد” زيد” مد الله بعمره مضيفا بأن النقاد العرب الذين تناولوا شعره نقدا وتحليلا يشهدون له بذلك، كما انه في الفكر العربي الحديث مجدد لفكر صديقه “مالك بن نبي”.

ف”القاسم” طيب الله ثراه بحق كان واحدا من عظماء التأريخ الذين وهبوا أنفسهم لخدمة أمتهم ورسموا الدرب أمام الأجيال القادمة، كما أن كتاباته تتسم بالسلاسة واليسر، إذ ينطلق من محيطه الإنساني الخاص، ليخاطب الجميع بلغة بسيطة وعميقة في آن. مختلف وجامح في نصوصه، ومدافع بشغف عن الحقيقة والوطنية، فهو بحق من الشخصيات البارزة والمؤثرة في الساحة الثقافية والفكرية على مستوى الساحة اليمنية. وكلماته ستظل خالدة، تستلهم منها الأجيال المتعاقبة الفكر والمعرفة.

لم يكن “القاسم” مجرد مفكر إسلامي أو فيلسوف حضارة، بل كان شاعرا كبيرا تحلق قصائده بين الألم الوطني والأمل الثوري، ومناضلًا جسورا شارك مع شباب جيله فرحة انبلاج الثورة الدستورية التي لم يكتب لها النجاح، وظلّ وفيا لتراثها النضالي حتى آخر نفس.

لقد تأثر “القاسم” طيب الله ثراه بمالك بن نبي حتى صار شريكا له في تشخيص علل الأمة، حيث كانا يريان – كما سنبينه فيما بعد من هذه القراءة لدراساته وبحوثه وشعره المنشورة على صفحته على الفيسبوك – أن التخلف نتاج مزدوج: “استبداد داخلي يقيد الإرادة” و “قابلية للاستعمار تُعمي البصيرة”. لكنه كان متجاوزا لصديقه الجزائري بإضافة بُعدٍ ثالث: وهو دور المثقف الشاعر الذي يحوِل الكلمة إلى فعل، كما في “مجموعاته الشعرية” حيث مزج بين التحليل الحضاري وبلاغة الشعر، محذِّرا من اغتراب الحُكّام ومنبها إلى أن النهضة لا تستورد، بل تبنى بإرادة شعبٍ يرفض العبودية، قرأَ التاريخ بعين الفيلسوف، وكتبَ الشعر بقلب الثائر، وتركَ للأمة منهجا فريدا يجمع بين عمق التحليل الحضاري وجمالية التعبير الأدبي، لم يكن قاسم بن علي الوزير شاعراً فقط، بل كان متبحرا في “علم الاجتماع” ومفكرا عميقا سعى إلى توسيع آفاق الكتابة الفكرية لتتلاءم مع الواقع العربي والإنساني الراهن. في وقت كان يبدو فيه الشعر وقد تضاءل دوره، كان الوزير يؤمن بقدرته على خوض المعركة مع القضايا السياسية والاجتماعية المعقدة.

يجسد القاسم بن علي الوزير نموذجا فريدا للمثقف الموسوعي الذي جمع بين سعة الأفق الفكري ورشاقة البيان الأدبي، مُنطلِقًا من صميم الهوية العربية والإسلامية لبناء رؤيةٍ تُلامس إشكاليات الواقع المعيش وتستشرف آفاق المستقبل. عُرف بمنهجه المتوازن في الحوار الحضاري، حيث دعا إلى تفاعلٍ واعٍ مع المنجزات العلمية الغربية، مع مقاومة انحرافاتها المادية وآليات الهيمنة الاستعمارية التي تُهدِّد الخصوصية الثقافية، فقد رأى في مشروع النهضة العربية تحديا مصيريا لا يتحقق إلا بتحرير الفكر من قيود الجمود، وإطلاق طاقات الإبداع عبر اجتهادٍ متجدِّد، معتبرًا أن العدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية ليست شعاراتٍ سياسيةً عابرة، بل أسسًا لبناء مجتمعٍ قادر على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية.

وسوف نتناول في هذه القراءة بالترتيب مبتدئين بقراءة فكره المنشور على صفحته ثم نختتم بقراءة ما نشر من قصائد ومقطوعات وأبيات من شعره المنشور فقط على صفحته ، بغض النظر عما نشره في كتابه الموسوم ب: “حرث في حقول المعرفة” أو في ديوان “مجموعات شعرة” وذلك على النحو التالي:

أولا : قراءة في فكر “القاسم”

وسنلاحظ أن “القاسم” – طيب الله ثراه- في مقالاته المنشورة على صفحته قد اختار أن تكون من المقالات التي سلط الضوء فيها على التحديات التي تواجه المجتمعات العربية، بما في ذلك الاستبداد والفساد، وشدد على أهمية تعزيز الوعي الاجتماعي والسياسي لدى المواطنين. داعيا إلى ضرورة بناء مجتمع مدني قوي يستطيع مواجهة التحديات الراهنة، ويعمل على تحقيق التنمية المستدامة.

فلقد كان لدى “القاسم” – طيب الله ثراه في الجنة – إيمان راسخ بأن النهضة الحقيقية لا تأتي إلا من خلال تحرر الإنسان من القيود التي تكبله، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية، مؤكدا أن “الإنسان هو البداية وهو المدخل” في التنمية والتقدم وتحقيق رفاهيته المنشودة مما يعكس إيمانه العميق بدور الفرد في تحقيق التغيير.

ثانيا: رؤية “القاسم” حول الإصلاح والتغيير في البلاد العربية”

في محاضرته القيمة بعنوان “أفكار حول الإصلاح والتغيير في البلاد العربية”، يقدم “القاسم بن علي الوزير” تحليلاً عميقاً لإشكالية الإصلاح في العالم العربي، مفرقاً بدقة بين مفهومي الإصلاح كهدف نهائي والتغيير كوسيلة قد تكون إيجابية أو سلبية. يؤكد أن أي إصلاح حقيقي يجب أن ينطلق من نهضة شاملة تتحرر من التقليد الفقهي والتحجر الفكري والاستبداد السياسي، مع التركيز على إيقاظ الوعي الإنساني كمدخل أساسي للتغيير.

كما وضع أربعة محاور للاستقلال (الحضاري، السياسي، الاقتصادي، القضائي) كأركان للإصلاح المنشود، وينتقد محاولات تجزئة هذه العناصر. يحذر من الاعتماد على الأنظمة القائمة أو القوى الخارجية، ويدعو بدلاً من ذلك إلى مشروع نهضوي شعبي يستلهم تجارب النهضة التاريخية. يختتم بتأكيد خصوصية المنطقة العربية الحضارية، مشيراً إلى أن أي إصلاح يجب أن ينبع من الداخل ويتكيف مع هذه الخصوصية، مستشهداً بكتاب “شروط النهضة” لمالك بن نبي كمرجع أساسي في هذا المجال.

كما قدم رؤيةً نقديةً تستند إلى تحليل بنيوي لأزمات المجتمعات العربية، مفرقًا بين مفهومي الإصلاح والتغيير: فالإصلاح هو “تصحيح المسار” نحو الأفضل، بينما التغيير وسيلة قد تقود للخير أو الشر. يؤكد أن الإصلاح المنشود في العالم العربي يتطلب نهضةً شاملةً تعيد بناء الإنسان والمجتمع عبر أربعة أركان أساسية: الاستقلال الحضاري (بتحرير العقل من الخرافة والتبعية)، والسياسي (بتحرير الإرادة الوطنية)، والاقتصادي (بالاعتماد على الذات)، والقضائي (بتحقيق العدل(

كما انتقد النظرة التجزيئية للإصلاح التي تختزله في جانب واحد (اجتماعي، اقتصادي، سياسي)، ويشير إلى أن الأولوية يجب أن تُحدد بحسب “المجال المتاح للحركة”، مع التأكيد على أن يقظة الروح الإنسانية هي المدخل الحقيقي لأي تحول. كما يحذر من إمكانية تحول الإصلاح إلى شعارات جوفاء دون آلية تنفيذ، مشيرًا إلى ثلاث فرضيات فاشلة للتغيير: الاعتماد على الأنظمة القائمة (التي نشأت من رحم التجزئة الاستعمارية)، أو على المجتمع المدني (الذي أفقدته الأنظمة الاستبدادية قدرته على الفعل)، أو على القوى الخارجية (التي تفرض أجنداتها كما في العراق)

بديلًا عن ذلك، يقترح الوزير نموذجًا تحرريًا يبدأ من “الإنسان” عبر إيقاظ وعيه، وإعادة بناء مؤسساته المدنية، وخلق مشروع نهضوي موحد. يستلهم من تاريخ النهضات الكبرى (كحركة جمال الدين الأفغاني) فكرة أن التغيير يبدأ دائمًا بفكرة تتحول إلى حركة. ويوصي بالعمل السلمي التدريجي القائم على التوعية والعصيان المدني، مع الإشارة إلى كتاب “شروط النهضة” لمالك بن نبي كمرجع أساسي.

كما أكد على خصوصية المنطقة العربية كحاضنة للديانات والحضارات، مما يستدعي رؤية إصلاحية تستوعب هذه الأبعاد التاريخية والروحية. رؤيته تقدم وصفةً متكاملةً للإصلاح تجمع بين العمق الفكري والواقعية السياسية، مع تحذير صريح من مخاطر الاستعاضة عن الاستبداد القديم بأشكال جديدة من التبعية.

ثالثا: رؤية “القاسم” في التعصب الديني والحزبي وبناء الدولة الحديثة:

من المعلوم أن مفهوم التعصب يعد من المفاهيم الإشكالية التي تنتج حضورها في أدبيات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويمكن لنا في هذا السياق- قبل قراءة الدراستين للقاسم- أن نميز في التعصب أشكالا مختلفة ومتباينة، فهناك التعصب العرقي، والتعصب الثقافي، والتعصب الديني، والتعصب المذهبي، والتعصب الجهوي والتعصب الطائفي، ومع ذلك كله فإن التعصب في مختلف صوره وتجلياته يؤكد على جوهر واحد قوامه الانقياد العاطفي لأفكار وتصورت تتعارض مع الحقيقة الموضوعية، وقد يأخذ التعصب صورة عقيدة دينية أو سياسية متعرفة تتميز بدرجة عالية من الانغلاق والتعصب والتحجر في الفكر. ويعمل على تمزيق النسيج المجتمعي. في السياق اليمني والعربي، تتنوع أشكال التعصب بين المذهبي والحزبي والعرقي والجهوي، لكن أخطرها على الإطلاق هو التعصب المذهبي لارتباطه المباشر بالدين، حيث يتحول الاختلاف في الفروع الفقهية إلى صراع دموي يبرَر باسم القداسة الدينية، كما في حالات التكفير أو العنف الطائفي. أما التعصب الحزبي فيحول الانتماء السياسي إلى عقيدة متحجرة تُهدر من أجلها القيم الأخلاقية، وتُستبدل بالحقد والأنانية، بينما يعمق التعصب العرقي أو الجهوي الفوارق الطبقية والاجتماعية، عبر إقصاء الأفراد بناء على انتماءاتهم الجغرافية أو العرقية.

ولهذا نجد أن المفكر عالم الاجتماع “القاسم” قد تناول التعصب المذهبي والحزبي في دراسته موضوع هذه القراءة باعتبارهما يمثلان نموذجاً صارخاً للانقسامات التي تُهدر قيم الوحدة المجتمعية وتغذّي بذور الفرقة تحت شعارات زائفة. فقد كشفت الدراستان – اللتان سنقوم بقراءتهما – عن جذور هذه الظاهرة التي تحول الاختلاف الفكري أو السياسي إلى عداء وجودي، مستندة إلى تحليل تاريخي واجتماعي لسياقات التعصب في البيئة اليمنية والعربية. ولا يغيب عن هذا السياق التحذير القرآني الصريح من التشرذم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: ١٥٩]، يبقى التعصب تحديا وجوديا للمجتمعات العربية والإسلامية، يتطلب وعيا جماعياً بخطورته، وإرادة حقيقية لإصلاح المنظومة الفكرية والتربوية، مستلهمين قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، فالتنوع سنة كونية، والاختلاف في الرأي لا يعني بالضرورة العداء، بل قد يكون مصدر إثراءٍ للحضارة الإنسانية حيث تُظهر الآيتان أن التمزق الديني أو الفكري يبعد الأمة عن مسارها الحضاري، ويجعلها عاجزةً عن مواجهة تحدياتها المصيرية. فالتعصب كما سنجده من خلال قراءة دراستي “القاسم” حالة خاصة من التصلب الفكري والجمود العقائدي، حيث يجسد اتجاهات الفرد أو الجماعة التي ينتمي إليها مع نبذ الجماعات الأخرى، الحزبية أو السياسية ، والتعصب الديني هو أشد وطأة على المجتمع لأنه حالة من التزمت والغلو المصحوبة بعنف شديد ويعتبر التخلص من خصمه تقربا إلى الله ، فهو حالة مرضية على المستوى الفردي والجماعي، يدفع إلى سلوكية تتصف بالرعونة والتطرف والبعد عن العقل، والاستهانة بالآخرين ومعتقداتهم ولعل تعصب النواب والروافض مثالا على ما يتضمنه التعصب المذهبي من إفتئات وعدوان، كما سنلاحظ ذلك فيما يلي:

1-العصبية الدينية

في مقال نشره على صفحته على الفيسبوك بعنوان: “العصبية الدينية” قدم من خلاله رؤية حول خطر العصبية الدينية على الإنسانية، مشيرًا إلى أنها تعكس الغلو الذي يؤدي إلى انتهاك حقوق الله وحقوق البشر. يعتبر الوزير أن العصبية تلغي المنطق وتعطل العقل، وتتناقض مع جوهر الدين الذي يدعو إلى الرحمة والتسامح. يبرز أن العصبية الدينية تُشكل خطرًا جسيمًا، حيث تخلق فرقة وتناحر بين الناس، مما يقود إلى العنف والخصومة. يتناول أيضًا تاريخ الخوارج كنموذج للعصبية، موضحًا كيف أدت إلى تدمير الذات وتمكين الباطل. في النهاية، يحذر من مخاطر العصبية ويؤكد على أهمية التعارف والاحترام بين مختلف الأديان والمذاهب، مشددًا على أن الإسلام يدعو إلى الحرية والتنوع في الفهم.

2- في العصبية الحزبية

يتناول قاسم بن علي الوزير في مقاله “في العصبية الحزبية” الآثار السلبية للعصبية الحزبية على المجتمع، مشيرًا إلى أنها ليست أقل خطرًا من العصبية القبلية. يوضح أن تعصب الأحزاب يمكن أن يؤدي إلى إعلاء مصالحها فوق القانون والشريعة، مما يسفر عن صراعات وفوضى تؤدي إلى تفكك المجتمع. يبرز أن احتكار حزب واحد للسلطة يسبب انتهاك الحقوق ويفقد المواطنين حريتهم. كما يناقش كيف يمكن أن تؤدي العصبية الحزبية إلى تزييف الحقائق وتمزيق العلاقات الاجتماعية، مما يتيح المجال للتدخلات الخارجية. يشدد الوزير على أهمية أن تكون الأحزاب معبرة عن مصالح المجتمع بشكل عام، محذرًا من أن العصبية تمثل تهديدًا حقيقيًا لتماسك المجتمع، وينبغي التخلص منها لأنها “منتنة” ولا تخدم القيم الديمقراطية.

3- وجهة نظر “القاسم” عن “الدولة الحديثة”

وفي بحث قيم “عن الدولة الحديثة” استعرض فيه “مفهوم الدولة” ودورها في العصر الحديث. يوضح أن فهم طبيعة الدولة الحديثة يتطلب إدراكًا عميقًا لوظائفها، حيث أصبحت الدولة تجمعًا معقدًا يهدد حرية الفرد بينما تسعى في ذات الوقت لتنظيم المجتمع وتقديم الخدمات. يؤكد الوزير على أهمية سيادة القانون كشرط أساسي لوجود الدولة الحديثة، محذرًا من أن غياب هذه السيادة يؤدي إلى سلطات غير مشروعة.

كما حدد بدقة سمات الدولة الحديثة، مؤكدًا على ضرورة أن يكفل القانون حقوق الإنسان وكرامته، وأن يكون مصدره هو الشعب نفسه.كما يرى أن الدولة يجب أن تكون مسؤولة عن توفير الضمانات الاجتماعية وتحقيق رفاهية المواطنين. كذلك يعبر عن ضرورة المحافظة على سيادة الدولة وسلامة أراضيها وتعزيز دورها في العالم.

وسلط فقيدنا المفكر الكبير الضوء على أن الإسلام قد سبق إلى مفهوم الدولة الحديثة من خلال مبادئ العدالة والحرية، ويشدد على أهمية التمسك بالقيم الإسلامية كوسيلة لدخول العصر الحديث. يُنبه إلى أن القطيعة مع القيم التراثية لن تؤدي إلا إلى المزيد من الانحطاط. في النهاية، يؤكد على أن الدولة الحديثة يجب أن تكون في خدمة المجتمع، وأن تكون الحقوق والواجبات متكافئة بين جميع المواطنين، مع ضرورة التزام الدولة بتطبيق القانون. وينتقد الواقع العربي حيث تتحول “الدولة” إلى مجرد سلطة تسلطية، تفرض القوانين دون أن تقدم الخدمات الأساسية. كما يربط بين المفهوم الإسلامي الأصيل للدولة ككيان خدمي مجتمعي، وبين متطلبات العصر الحديث، داعياً إلى استلهام القيم الإسلامية في بناء دولة عادلة.

وخلص “القاسم” رحمة الله تغشاه إلى أن الدولة الحديثة ليست غريبة عن التراث الإسلامي، بل هي امتداد لمفاهيم العدل والشورى، وأن المشكلة ليست في الموروث بل في الانحراف عن المبادئ الأصلية.

رابعا: رؤية الفقيد حول “ثورات الربيع العربي”

ففي خضم الموجة الثورية التي اجتاحت العالم العربي والتي أطلق عليها ثورات الربيع العربي ومنها ثورة الحادي عشر من فبراير 2011م، قدم المفكر العروبي الإسلامي الأستاذ القاسم بن علي الوزير قراءةً استثنائيةً لطبيعة تلك التحولات، راصدًا إياها كـ”انفجار للغيظ المكبوت” الذي تحوّل إلى ثورة سلمية باهرة. ما يميز هذه الثورات – بحسبه – ليس مجرد حدوثها، بل اختيارها لأسلوب اللاعنف رغم أن التاريخ يربط الثورات عادةً بالعنف. فهي إذن إضافة جديدة لقاموس الثورات العالمية، تختلف حتى عن حركة غاندي التي كانت مقاومةً سلبيةً ضد مستعمر خارجي، بينما الثورات العربية هجوم سلمي ضد طغيان داخلي، يعتمد على قوة التضحيات والصبر في مواجهة الرصاص.

لكنه طيب الله ثراه نبه إلى أن غياب الرؤية المشتركة للمستقبل شكل خطرا داهما على هذه الثورات. فالشعوب اتحدت ضد النظام القديم، لكنها تفتقر إلى تصور موحد للنظام البديل، مما فتح الباب أمام مخاطر جمة منها عودة النظام القديم بأشكال جديدة، بدعم من قوى الهيمنة الخارجية.

رغم هذه التحديات، فقد كان “القاسم” رضوان الله عليه يرى أن الثورات حققت انتصارا جوهريًا: إسقاط “عامل الخوف” الذي كان أداة النظام الأساسية. فبزوال الخوف، انفتح المجال لاستعادة الكرامة والإرادة الشعبية. لكن الضمان الوحيد لاستمرار الثورة – يؤكد – هو بقاؤها في يد الجماهير، عبر فعل يومي يقظ في الشارع والمصنع والجامعة، يقاوم محاولات الاحتواء والانحراف.

هكذا قدم لنا فقيد اليمن والأمة العربية والإسلامية “القاسم بن علي الوزير” رؤية تنبؤية جمعت بين تحليل اجتماعي عميق وإيمان بقدرة الشعوب العربية على صنع مصيرها، محذرًا من تحول الثورة إلى مجرد صراع بين نخب جديدة، بدلا من أن تكون تحررًا حقيقيًا من الاستبداد بكل أشكاله.

خامسا: في دراسته القيمة بعنوان: “مراجعات وتأملات فكرية في مفترق قرنين”

قدم “القاسم” رؤية تحليلية للتحولات العربية حيث تناول فيها مسيرة العالم العربي عبر قرن كامل (1909-2009)، بوصفها صراعا بين تيارات ثلاث: إصلاحي تجديدي يسعى للنهضة، وتقليدي منغلق على الماضي، وتغريبي يقلد الغرب دون وعي، وسلط الضوء على التناقض بين الشعارات البراقة (التحرير، الوحدة، التقدم) والممارسات الفعلية للحكام العرب الذين أفرغوها من مضمونها بغية ضمان بقائهم في كراسي الحكم .

كما رصد طيب الله ثراه في الجنة تحولا مأساويا من الحلم بالتحرر من الاستعمار إلى الوقوع في فخ التبعية، ومن التطلع للوحدة العربية إلى تعميق التجزئة، ومن الاندفاع نحو الحداثة إلى انتكاسة الفكر.، لكنه كان رحمه الله يرى في المقاومة الثقافية والسياسية، وفي صحوة الشعوب العربية، بذورا لتجدد قد يفضي إلى صحوة جديدة، رغم كل التحديات والعقبات.

كما أكد “القاسم” رحمة الله تغشاه إلى أن الاحتكاك بالغرب خلال القرن التاسع عشر أفرز تيارين رئيسيين: تيار الإصلاح والتجديد، الذي مثلته مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، والتي دعت إلى إحياء الاجتهاد الفكري والديني، وربط العلوم الدينية بعلوم العصر، وفتح باب الحوار مع الحضارة الغربية دون ذوبان الهوية، وتيار التقليد، الذي انقسم إلى تقليد ماضوي (التمسك بتراث عصور الانحطاط) وتقليد غربي (تقليد مظاهر الحداثة دون جوهرها)، مما أدى إلى جمود فكري وسياسي. يبرز الكاتب كيف أن الاستعمار لم يكن غزوا عسكريا فحسب، بل شمل هيمنة ثقافية وتعليمية هدفت إلى تفكيك النسيج الاجتماعي، عبر فرض قيم استهلاكية ومناهج تعليمية تخدم مصالحه، مما ولد أزمة هوية عميقة. يحلل الوزير محاولات السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لإنقاذ إمبراطوريته عبر الجامعة الإسلامية كإطار يوحد الشعوب تحت مظلة الخلافة، لمواجهة التوسع الاستعماري، وإثارة الصراعات بين القوى الأوروبية لإضعافها وشراء الوقت. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل بعد الإطاحة به عام 1909، وسيطرة حزب “الاتحاد والترقي” الطوراني، الذي حول السياسة إلى “تتريك” قسري، مما أطلق شرارة النزعات القومية المتنافرة، مثل العروبة في المشرق العربي. يرصد الكاتب كيف تحولت الثورة العربية الكبرى (1916) إلى “خديعة تاريخية”؛ إذ استغلت بريطانيا أحلام العرب بالاستقلال، ثم جزأت المنطقة عبر اتفاقية سايكس-بيكو، لتصبح دويلات هشة تحت الهيمنة الاستعمارية.

ورغم سقوط المشروع الوحدوي، بقيت الفكرة حية في الوعي الجمعي، لكنها اصطدمت بالقطرية المصطنعة وأنظمة ديكتاتورية حولت الشعارات إلى أدوات لشرعنة الحكم. يفرق الوزير بين التحرر (كهدف سلبي: التخلص من الاستعمار) والحرية (كفعل إيجابي: بناء مؤسسات ديمقراطية وعدالة اجتماعية).

وأشار إلى أن العالم العربي حقق التحرر السياسي الشكلي، لكنه وقع في فخ التبعية الاقتصادية والثقافية، حيث حلت “العبودية للأنظمة” محل “العبودية للاستعمار”، مدعومة بثقافة قمعية أخمدت الحريات وحولت المواطن إلى “رقم” في معادلة السلطة. لطما أنتقد “القاسم” المقلدين للحداثة الغربية الذين تجاهلوا خصوصية التجربة العربية، فدعوا إلى قطع كامل مع الموروث الديني، متناسين أن الحداثة الأوروبية نفسها تأثرت بتراثها الإغريقي والإسلامي. في المقابل، يؤكد أن مشروع الإصلاح الإسلامي (الأفغاني وعبده) قدم رؤية متوازنة تجمع بين العقل والوحي، وتستلهم التراث دون جمود، مما يشكل أساسا لحداثة عربية متميزة ثم يقدم لنا رؤية تفاؤلية رغم الإحباطات؛ فالهزائم كهزيمة: (1967) أيقظت روح المقاومة، وأثبتت أن الأمة قادرة على استعادة زمام المبادرة، كما في انتصارات المقاومة.

سادسا: رؤية “القاسم” في الحرب على اليمن التي لم تخمد بعد:

لقد وقف الأستاذ قاسم ضد الحرب على اليمن؛ ففي مقال له بعنوان “إيقاف الحرب وتحقيق السلام ليستا قضية واحدة”، دعا فيه إلى إرساء السلام في اليمن وفق رؤية عادلة لا يختلف عليها اثنان، لكتها السياسة التي ما دخلت في شيء إلا أفسدته حيث تحضر المصالح. ويعلو صوت تجار الحروب وكان مما قال في هذا المقال الذي يعتبر خارطة طريق لوقف الحرب ،: (إنّ الخطة المثلى والأدعى إلى النجاح والتوفيق هو أن يجتمع لذلك كل الساعين لإقامة العدل. وكل العاملين لتحقيق السلام؛ أي كل من يرون الرأي ذاته ودون استثناء، أو إقصاء لأيٍ كان فردًا، أو حزبًا، أو هيئة، أو جماعة فعالة. فإذا اجتمعوا تدارسوا الأمر بكل جوانبه وخلصوا إلى “مشروع” متفق عليه بينهم تتكوّن على أساسه “كتلة” تنهض بالأمر دون تجاوز لفئة أو تحيّز لجهة.)

وقال طيب الله ثراه في الجنة أيضا : ( لقد آن للجميع أن يستشرفوا أفق مستقبل جديد؛ وذلك بالتداعي إلى كلمة سواء، ورأي جامع يؤلّف وحدة موقف منبثق من وحدة تصوّر يسفر عن عقد اجتماعي ليس بين الحاكم والمحكوم فحسب، بل بين قوى المجتمع كلها؛ عقد قائم على العقيدة الواحدة التي تجعل المؤمنين إخوة، وعلى الوطن الواحد الذي يجعل المواطنة المتساوية أساس تلاحمه ووحدته وعلى العدل الشامل الذي يحرسه ويصونه).

سابعا : موقف القاسم من الحضارة الغربية:

إن ما كتبه الأستاذ قاسم، وخاصة موقفه من الحضارة الغربية التي يقف منها كثير من الناس بين طرفي نقيض كما يقول الأستاذ قاسم- رحمه الله-، حيث يصدر أحدهما عن “عقدة الخوف”، وهو الذي يتوجس من الحضارة الغربية، ويراها كلها شرا محضا، وبين الآخر الصادر عن «عقدة نقص»، وهو يرى أخذ هذه الحضارة برمتها، والمشي في ركابها بخيرها وشرها- يضعه ضمن قلة قليلة من المثقفين العرب ذوي المرجعية الإسلامية المستنيرة التي تتوسط بين أمرين؛ وذلك في رؤيته لمحاسن الحضارة الغربية، وضرورة الاقتباس منها، وفي الوقت نفسه عدم الغفلة عن نقائصها التي تتعارض مع قيمنا، والتي قد تودي بهذه الحضارة إلى هوة الانحلال والفناء.

يقول حكمة بليغة وقاعدة معيارية لقياس أخلاق المجتمع فقال طيب الله ثراه انه : “تقاس أخلاقية المجتمع بمدى إمكانية ضمان شروط الاعتراف المتبادل بين الأفراد”. ونرى أن مسئوليتنا جميعا هو التعريف وحسن التقدير في إبراز ما لهؤلاء الأعلام من آثار قيمة خدموا بها وطنهم اليمن وأمتهم العربية والإسلامية بفكرهم المستنير ومواقفهم الوطنية النبيلة.

وهنا نقف على مدى عمق تفكير القاسم وقدرته على تأسيس مشروع حضاري من خلال بيئة الفكر الغربي بما يتوافق مع طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية، وهو يسترشد بفلاسفة الإسلام الذين هضموا المنطق والفلسفة اليونانية، وقدموا رؤية فكرية عظيمة لكنها وئدت وتم إحراق كتبهم.

ثامنا:ردود القاسم على أسئلة في حلقة نقاشية نظمها مركز الحوار العربي في واشنطن:

حيث تحدث المفكر اليمني “القاسم بن علي الوزير” عن موقف العرب من الحضارة الغربية، معرفا الحضارة بأنها بناء على رؤية صديقه العالم الاجتماعي الجزائري “مالك بن نبي” رحمهما الله، حيث وصفها “القاسم” بأنها مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح للمجتمع أن يقدم لأفراده المساعدة في كل مراحل حياتهم، كما أوضح أن الحضارة الغربية تعتمد على فلسفة مادية تلغي دور الدين وتعتبر الأخلاق ناتجة عن التطور، وتهدف إلى القوة من أجل القوة كما أشار في هذا الحوار الذي استمر زهراء الساعة وأكثر أشار “القاسم” طيب الله ثراه إلى أن الحضارة الغربية استلهمت أبعادها من حضارات سابقة، منها البعد العلمي من حضارة الإسلام في الأندلس، كما دعا إلى أن يكون موقف العرب من الحضارة الغربية مبنيا على التكامل والتفاعل، مع الاستفادة من جوانبها الإيجابية مثل الحريات العامة والتقدم التكنولوجي، ومعالجة أمراضها وانحرافاتها. وقد حدد “القاسم” ثلاث عوائق تقف أمام دخول العرب في موكب الحضارة: فترات الانحطاط الحضاري والثقافي، الاستعمار الغربي، والحكم العسكري والدكتاتوري. أكد على ضرورة إيجاد تيار عقلاني عربي متنور لتشكيل فلسفة حضارة عربية جديدة. في المناقشة، أكد الدكتور محمد الفنيش أن العالم العربي يمر بمرحلة ركود كمقدمة للنهوض، استنادًا إلى نظرية توينبي حول التحدي والاستجابة. أما الدكتور صادق سليمان فرأى أن العرب والمسلمين ليسوا خارج موكب الحضارة، بل في حالة حضارة معطلة تحتاج إلى جهود لتنشيطها وإنعاشها. إعادة صياغة الأسئلة والإجابات بطريقة أكثر جاذبية.

وفي رده على سؤال: ما هو تعريفك للحضارة وكيف ترى الحضارة الغربية؟ أجاب “القاسم” بأن الحضارة هي مثل الجسم الحي الذي يمدنا بكل ما نحتاجه منذ الطفولة حتى الشيخوخة – المدرسة، العمل، المستشفى، وكل ما يجعل حياتنا أفضل. أما الحضارة الغربية، فهي كالطفل الذي يلعب بالألعاب المادية ويهمل الأخلاق والدين.

هي تسعى للقوة من أجل القوة، وهذا ما جعلها تنتج أسلحة تستطيع تدمير العالم عشرات المرات! ففي رده على سؤال: كيف ترى موقف العرب من الحضارة الغربية؟

رد القاسم قائلا: يجب أن نتعامل مع الحضارة الغربية كما نتعامل مع جيراننا – نأخذ منهم ما هو جيد ونتجنب السلبيات. نستفيد من الحريات والتقدم التكنولوجي، لكننا نحتاج أيضًا أن نحافظ على هويتنا ونصحح انحرافاتهم مثل الاستعمار والهيمنة.

وفي رده على سؤال: ما هي العوائق التي تقف أمام دخول العرب في موكب الحضارة؟ أجاب بأن : العوائق كثيرة، لكن الرئيسية ثلاث: أولاً، فترات الانحطاط الحضاري والثقافي التي عانينا منها. ثانيا، الاستعمار الغربي الذي أوقفنا. ثالثا، الحكم العسكري والدكتاتوري الذي أخمد الحريات والإبداع. لنخرج من هذا الجمود، نحتاج إلى تيار عقلاني متنور يبني فلسفة حضارة عربية جديدة.

ورد على سؤال: كيف ترى مستقبل الحضارة العربية؟ فقال طيب الله ثراه أن: “المستقبل يبدأ بالتضحيات والعمل الجاد. نحن بحاجة إلى أن نلتفت إلى داخلنا ونبني من جديد، ونستفيد من تجارب الحضارة الغربية دون أن نقع في أخطائها. النهوض سيأتي، لكنه يحتاج إلى جهد مستمر وتفكير عقلاني.”

وفي رده على سؤال: هل تعتقد أن العالم العربي خارج موكب الحضارة؟: فرد بالنفي لكنه انه قال بأن الركود هو مجرد مقدمة للنهوض. كما قال توينبي، كل الحركات الكبرى تبدأ بمرحلة الاعتكاف. نحن في مرحلة الركود الآن، وهذا يعني أن النهوض قادم.

وفي رده على سؤال: هل تتفق مع هذا الرأي؟ سليمان: لا، العرب والمسلمون ليسوا خارج موكب الحضارة، بل في حالة حضارة معطلة. نحن بحاجة إلى جهود لتنشيطها وإنعاشها، وأن نقتبس من الحضارات الأخرى مثل العلمانية والديمقراطية لنطلق العنان للابتكار والإبداع.

ومما سبق يتبين لنا بأن فكر “القاسم بن علي الوزير” ما يزال ضروريا لفهم أزمات الواقع العربي اليوم، من فشل تجارب الربيع العربي إلى استمرار الأنظمة الشمولية. فمفاهيم مثل “القابلية للاستبداد” و”تزييف الوعي” تظل مفاتيحَ تحليلية ناجعةً لتشخيص العلل العميقة، كما قدَم نموذجا فكريا يتجاوز الثنائيات المُتعاركة بين سلفيةٍ جامدة وعلمانيةٍ منقطعة عن السياق، ساعيًا إلى تأسيس رؤية إسلامية تنويرية تتفاعل مع العصر دون ذوبان. ورغم ذلك، فإن معظم إنتاجه الفكري ما يزال مخطوطًا أو مغمورًا، مما يستدعي جهودا أكاديمية لجمع تراثه وتحقيقه ودراسته كمدرسةٍ فكريةٍ مستقلة. رسَمَ منهجًا إصلاحيا يبدأ بإيقاظ الضمير الفردي كمدخلٍ حتمي للتغيير الجماعي، مؤمنًا بأن نهضة الأمم تنبع من استثمار الطاقات الكامنة في داخلها، لا من تقليد النماذج المستوردة. نادى بتأسيس كيان دولة عصرية تقوم على سيادة القانون وتكافؤ الفرص، معتبرًا أن غياب العدالة بوابةٌ مفتوحةٌ على كل أشكال الفساد والتبعية.

وقد لاحظنا كيف قام بتشريح ظاهرة الاستبداد، حيث قدم تحليلا نفسيا واجتماعيا عميقا، مركزا على العلاقة الجدلية بين الطاغية والجماهير. فالديكتاتور – بحسبه – “لا يصل إلى السلطة إلا بوجود شعب مستعد للعبودية”، معتبرا أن الهيمنة تمارس عبر أدوات متعددة، أبرزها تزييف الوعي عبر التعليم والإعلام، وتفكيك الروابط الاجتماعية لخلق مجتمعٍ منعزل وضعيف. أما مشروعه النهضوي فقد ارتكز على ثلاثية “الإنسان – المكان – الزمن”، حيث دعا إلى بناء إنسان جديد يتحرر من الخرافة والتبعية، وسياسةٍ عادلة تقوم على مبدأ الشورى كبديلٍ عن الديمقراطية الغربية التي رآها جوفاء في سياقاتها المُستوردة، وزمنٍ منتجٍ يستثمر في البناء بدل إهداره في صراعاتٍ عقيمة.

تاسعا وأخيرا: قراءة في شعر القاسم المنشور على صفحته على الفيسبوك:

يتميز شعر “القاسم بن علي الوزير” بالتلقائية والبعد عن التكلف، كما يرى صديقه الدكتور عبد العزيز المقالح طيب الله ثراهما في الجنة حيث اعتبر صديقه من الشعراء الذين يذهبون في كتابة الشعر مذهب التلقائية، فلا تشعر وأنت تقرأ قصيدة من قصائده بأنه يتكلف في الصياغة أو التقاط المعنى، بل ينساق مع سجيته مسترسلاً كالنهر الذي يجري في واد منبسط.

في شعره، نجد تناغم الألم الوطني مع صوت الثورة على الظلم، فجاءت قصائده مرآةً لعذابات اليمن وقضية العرب الأولى “القضية الفلسطينية”، حاملًا هم القدس بلسان امتزج فيه الحزن بإرادة التحرير، فلم يكن الشعر عنده مجرد تعبير وجداني، بل سلاحا فكريا يحارب به التهميش ويعيد تشكيل الوعي الجمع، كتب شعره بعذوبةِ لغة أبي القاسم الشابي، ورقةِ بدوي الجبل، كما وصفه شقيقه علامة اليمن المفكر والمؤرخ والأديب “زيد الوزير” مد الله بعمره.

حيث مزج بين بلاغة التراث العربي وروح المقاومة المعاصرة، معتبرا أن الكلمة ليست أداة جمالية فحسب، بل خطابا نقديًّا قادرًا على تفكيك الاستبداد. وفي مؤلفاته، جمع بين التحليل الاجتماعي الدقيق والنقد الثقافي الجريء، كما في مقاله “الفقه في غفوة والعقل في إجازة”، الذي هاجم فيه الجمود الفكري الذي يعيق حركة النهضة.

شعر القاسم الحواري:

من الأمثلة البارزة على شعره الحواري هذا المقطع من قصيدة طويلة تدور بين مواطن وطاغية:

“وأنا يا مولاي

أضحك منك ومن نفسي

أبكي منك على نفسي

أبكي منك عليك…

أعرف أنك لا تبصر إلاَّ نفسك

لا تعشق إلاَّ نفسك

كم أرجو أن تخرج منها مرة…

فتراها من خارجها

إذ ذّاك ستعرف عنها

ما يعرفه كل الناس!”

هذه الأبيات تعكس رؤية “القاسم” – طيب الله ثراه في الجنة – النقدية للسلطة والاستبداد، وهي رؤية تشكلت عبر معايشته الشخصية للقمع والسجن، شعره ليس مجرد تعبير جمالي، بل هو موقف وجودي وإنساني من سماته حضور “القاسم” في موقف التجرد، “إنه عبارة عن حضور في حضرة اللغة، الفكر الخالص، وإقامة علاقة بديلة مع عناصر اللغة، الفكر بدلا عن العلاقة التي كانت تربط الذات بالآخرين، وهذا يعني أنه حضور للذات في منطقة الغياب، أو العمى عن الواقع، حيث يتحقق للإنسان في هذا المقام تجاوز الماضي، ونسيان وضعه الانطولوجي الذي كان قبل الآن، ليدخل في وضع له الآن”.

وقبل أن نواصل قراءة القصائد والمقطوعات التي نشرها القاسم على صفحته بعيد عما تضمنه ديوانه “الثلاثية الشعرية: (الشوق والحزن والإشراق) الصادر عن دار المناهل عام 2011م، وهو يضم ثلاث مجموعات شعرية: “الشوق يا صنعاء”، “أزهار الأحزان”، و “لم تشرق الشمس بعد”، هذه الثلاثية تعكس مسيرة الشاعر وتجربته الحياتية الغنية.

فالشوق يا صنعاء: يعبر عن الحنين إلى الوطن والمدينة التي شكلت جزءاً أساسياً من هويته. هنا يظهر الوزير كشاعر المكان الذي يحول الجغرافيا إلى حالة وجدانية.

القاسم يعزي نفسه:

كما أن معاناة “القاسم” التي عبر عنها في جل قصائده لم تكن مجرد ذكريات أليمة، بل كانت وقودا لقصائده التي حوَّلَ فيها الألمَ إلى فنٍّ مقاوم أولا: طيف الموت أو طيف المساء يقول بيتين وكأنه كان يرى ان وقت رحيله قريب فيقول:

ويوحشُني طَيْفُ المساءِ لأنّه

يذكّرني أنَّ الغُروبَ قريبُ

ومنْ عاشَ في رأْدِ الضحى لم يكن له

سوى النورِ إلفٌ والضياءِ حبيبُ

البيتان يعكسان صراعًا نفسيا عميقا بين الخوف من الموت والتشبث بالحياة، حيث يتجلى طيف المساء كرمز قاس لقرب الغروب الذي يحيل إلى النهاية المحتومة، وهنا نجد “القاسم” يربط ذاته بالنهار وضيائه، جاعلا من النور إلفًا وحبيبا، لكن هذا التعلق يزيد من وحشة المساء الذي يذكره بحتمية الرحيل. الغروب هنا ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل تحول إلى استعارة مؤلمة للموت، تُظهر قلقًا وجوديا من المجهول، وتناقضًا بين ألفة الحياة اليومية ورهبة الفناء. النبرة الحزينة التي تلوح خلف الأبيات تكشف عن وعي الشاعر المسبق بقرب رحيله، لكنها تحتفظ بشغفٍ خافتٍ تجاه جمال العالم، كأنه يحاول التوفيق بين قبول المصير الإلهي وحنين الروح إلى البقاء في ضياء الدنيا. هذا الجمع بين الرؤية الفلسفية والوجدان الجريح يجعل النص تأملًا إنسانيًا يلامس أعماق النفس في لحظاتها الأكثر هشاشةً وصدقًا.

وفي ذات السياق يقول الشاعر بأن الموت فنا من فنون الشعر فيقول:

يكتب الموت كل يوم من الشعر

فنوناً تهمي أسى وتــــــــروع

بعض أوزانه النواح وبعــــض

من قوافيه في القبور ضجـــيع

ما وضعنا يدا على الجــرح إلا

سال جرح على الشفاء منـــيع

كـــــــــــــل يوم مودع لحبيب

بعض نفسي يمضي وبعض جزوع

هذه الأبيات تكمل اللوحة النفسية التي بدأها الشاعر في البيتين السابقين، حيث يعتبر القاسم الموتَ فنا شعريا بحد ذاته، يحوله إلى نصٍّ مأساوي تتناثر فيه ألوان المعاناة والجمال معا. فإذا كان المساء والغروب في النص الأول رمزين للرحيل الوشيك، فإن الموت هنا يتحول إلى “شاعر” ينسج من فنون الرثاء والأسى قصيدة يومية، تقاس بأوزان النواح وقوافٍ تُدفن في القبور. يبدو الموت عند “القاسم” كعملية إبداعية قاسية، تخلف جرحا لا يندمل، وفقدانا يتكرر كل يوم، كأن الحياة قصيدة يكتبها الموت بأحرف الألم، وتنتهي بلحظة صمت مطلق.

فالقاسم رضوان الله عليه كما رأينا قد أحال الموت فنا من فنون الشعر في ظل صيرورة الوجود والعدم والولادة في عالم الكون والفساد، حيث يصبح الفقدُ جزءا من إيقاع الكون نفسه. فـ”الجرح الذي يَسيل عند لمسه يرمز إلى عجز الإنسان عن تجاوز فكرة الفناء، حتى حين يحاول إخفاء ألمه، بينما “القبور الضجيع” و”النواح” تجسِّدُ الصراع بين الجسد الروح، وكأن الموت يُعيد تشكيل الذات إلى أجزاءٍ: بعضها يذوب في العدم، وبعضها يبقى مقيداً بالجزع. هكذا يُحوِّل الشاعر الموتَ من حدث عابر إلى سرديةٍ وجوديةٍ متواصلة، تلتقي فيها الرمزية الصوفية (الغروب، الليل، الضياء) بالتشكيل الجمالي للألم، فتصير النهايةُ فناً، والرحيلُ إبداعاً مُرا يعيد تعريف معنى البقاء.

القاسم يكتب بقلم البندقية:

لم يكن القاسم مفكرا فحسب، بل كان شاعرا حول الكلمة إلى سلاح، ففي قصيدته “البندقية لا الكتاب”، يهجو انقلابَ الثورة إلى ديكتاتورية:

“البندقية لا الكتابْ..

باتت طريق الضاربين إلى الغد المجهول

في وحل الترابْ

الخوذة السوداء تملي ما تشاء وعندها فصل الخطابْ”.

وفي قصيدة أخرى يخاطب اليمن:

“يا يمنُ، كم أرسلتَ للتاريخِ أغنيةً

تُثني الجبالُ، وتُطربُها الرمالُ

سأظلُّ أندبُ جرحَكَ بالكلماتِ حتى

يُورقَ الشوكُ، ويعتذرَ السفاهُ”.

ويوحشُني طَيْفُ المساءِ لأنّه

يذكّرني أنَّ الغُروبَ قريبُ

ومنْ عاشَ في رأْدِ الضحى لم يكن له

سوى النورِ إلفٌ والضياءِ حبيبُ

في هذين البيتين يخبرنا الراحل بأن المساء يحمل في طياته لوعةَ الفراق، وكأن الغروبَ شاهد على زوال كل جميل، فالنفس تأنس بضحى الحياةِ حين تشرق فيها جذوة الأمل، لكن من ألفوا النور لا يركنون إلّا إليه، وكأنّما الظلامُ غريبٌ عن قلوبِ المُؤمنينَ بالضياء.

القاسم مخاطبا مدينته “صنعاء”

وما اروه ذلك الحنين الذي خاطب به مدينته المفضلة” صنعاء” حيث يقول:

صنعاء هل في الندى السمح اسمارُ

كما مضى من ليالينا وسمارُ؟

وهل رخى العشايا مثل عادتها

شعر واشواق عشاق واسرار؟

تفدي الحسان الجميلات التي التحفت

بمئزر الليل..أرواح وأبصارُ

توهجت بالشهي العذب واختبأت

خلف الدخان وتفشى سرها النارُ

ينساب كالمرء من عال مآذنها

في هداة الليل تسبيح وأذكارُ

أما الطغاة فتاريخ تردده

شوامخ من روابيها وأغوارُ

مروا عليها فجرح غير منطمسي

على الجبين وفي العينين اكدارُ

فهو يفتقد إلى صنعاء وليالي السمر فيها فيتساءل أين ليالي صنعاء التي كانت ترويها الأسرار وتزيّنها الأنوار؟ أين العشاق الذينَ كانوا ينسجونَ من أشواقِهم قصائد كالندى؟ لعل الزمن الغادرَ أخفى تلكَ الأسمارَ وراءَ دخانِ الأيام، لكنّ النارَ التي تحت الرمادِ تُذكَرُ ولا تُنسى.

القاسم يقصف بقصائده الطغاة:

لقد كان شاعرا هزَّ عروشَ الطغاة بقصائده ففي إحدى هذه القصائد يقول:

أما الطغاة فتاريخ تردده

شوامخ من روابيها وأغوارُ

مروا عليها فجرح غير منطمس

على الجبين وفي العينين اكدارُ

هكذا كان “القاسم” يرسل شعره شواظ من لهب يكوي به الطغاة كما أنه كان ينظر إليهم بأنهم كالسراب يمرونَ ولا يَبقون، لكن جراحَهم تنقش على جبينِ الزمنِ كوصمةٍ لا تُمحى، وعيونُ التاريخِ تذرف غضبا على مَن ظنوا أن القلاعَ تُخلّدُ أسماءَهم، لكنها ستخلد سقوطهم.

“القاسم” يختزل مصير الظالمين في بيتين فيقول :

القصيدة الثامنة: ساعة اليقظة:

حسبُ الظالمون أنْ سوف ينجون

وهيهات يفلت الظالمونا

إن يوماً – ولم يعدْ ببعيدٍ-

سوف يأتي عليهم أجميعنا

لن يفر الطغاة من غضب الله

ولن يدرك النجاة الهاربونا

«القلاع» المشيدات حصونًا

سوف تغدو مقابرًا لا حصونا

و«الكنوز» المكدسات احتياطًا

سوف تدعو لكانزيها المنونا

والسياط التي بأيدي الطواغيت

ستذكي عزائم الثائرينا

والسجون الملأى سينسل منها

ألف جيلٍ لا يرحم الباطشينا

قد تنام الشعوب حينا.. ولكن

تصرع البغي يقظةُ النائمينا

إنها لصرخة مدوية في وجه الظالم يرسلها شواظا من نار فيقول له : يا مَن تظنُّ أنَّ الجبالَ حصونٌ تُنجيكَ من قدرِ السماء، اعلمْ أنَّ يومَ الحسابِ قاب قوسين، فما أغنتْ عن فرعونَ جنودُه، ولا أنجتْ قارونَ كنوزُه، والعدلُ الإلهيُّ بحرٌ لا يُبقي لسفنِ الظلمِ إلّا الغرقَ.

نحن من يصنع مشاكل الحياة فيقول:

إنا لنلقي على الدّنيا مآسينا ونحن

في كل يوم، نصنع السَّببا !

بِعْنا الدماء التي سالت مقدسة

بعنا المصير .. الذي مازال محتجبا !

نعم أيها الفيلسوف الحكيم في كل يوم نصنع سببا للدمار ومبررا للتدخل الخارجي ، فالمتسلقون أيها المجاهد الجبار والشاعر الأريب هم من حولوا دماءَ الشهداءِ إلى سلعةٍ تباعُ في سوقِ النفاق، وصرنا ندفنُ مصيرَنا بأيدينا كالغافلين، وكأنّما الدنيا مرآةٌ نرى فيها وجوهَ الخائنين، فمتى نعودُ إلى أنفُسِنا قبلَ أن تُباعَ الأوطانُ وتضيعَ الأمانة؟

أوجاع الوطن المزمنة:

ما وضعنا يدا على الجــرح إلا

سال جرح على الشفاء منـــيع

كـــــــــــــل يوم مودع لحبيب

بعض نفسي يمضي وبعض جزوع

آه كم عانى فقيدنا من جراح وطنه فالجراحُ التي نُضمّدها تفيضُ ألمًا جديدًا، وكأنّما الأيامُ سكاكينُ تَجرحُ في الصمت، فكلُّ فراقٍ يُذكّرنا بأنّ جزءًا منّا يغيبُ معَ الراحلين، لكنّ الجزعَ لا يليقُ بقلوبٍ تعلمُ أنَّ البكاءَ على الأطلالِ لا يُعيدُ الأحباب.

القصيدة الثانية: مقطوعة الأكدار

العاكفون على السلاح عبادة

الراكعون على الجهاد السجـــــد

القارئون الموت رتل بعضه

ناجٍ وجودٌ بعضه مستشهــــــد

الثابتون على العتاق كأنها

في بدر ترتجل الحتوف وتنشــــد

أولئك الذين سجدوا لغير اللهِ في محرابِ السلاح، وظنّوا أنَّ الدمَّ قربانٌ يُقرّبُهم إلى الجنة، إنَّ سيوفَهم تُنشدُ قصائدَ الموتِ في ليلِ المعارك، وكأنَّ أرواحَهم أوراقٌ تتساقطُ في عاصفةٍ لا تبقي إلّا جذعَ الشجرةِ الواقفةِ كالصخر، لكنّ الصخرَ يُفتَّتُّ مع الزمن.

القصيدة الخامسة: أحزان الشاعر

أخفي الجراح بنفسي وهي قاتلة

وأمنح الناس مني الوجه جذلانا

فليشرب الناس من كأسٍ مشعشعة

وأحتسي دون خلق الله نيرانا

يا مَن يرى الوردةَ الحمراء باسمة

دمي جرى في عروق الورد ألوانا

أخفِي دمعَ القلبِ خلفَ ابتسامةٍ كاذبة، وأقدّمُ للناسِ شرابَ الفرحِ بينما أحتسي سمَّ الألمِ وحدي. دمي الذي سالَ في جذورِ الوردِ جعلَ ألوانَهُ تُشبهُ نارًا تتأرجحُ بين الجمالِ والألم، وكأنَّ الحياةَ وردةٌ حمراءُ نعشقُ رائحتَها رغمَ أشواكِها.

“القاسم” يرثي حال الأمتين العربية والإسلامية:

بعنا الخيولَ على الميدان مُسرجةً

بعنا السيوفَ وبعنا الشعرَ والأدبا

ولو قدرنا لعبنا كل عابرةٍ

من النشيم تضم العطرَ منتحبا

لم يبق شيء بأيدينا لمدخر

حتى الكرامة بعناها لمن طلب

بعنا الخيولَ التي كانت ترفعُ رؤوسَها كالرايات، وبعنا السيوفَ التي كانت تُنشدُ قصائدَ الفخر، حتى الشعرَ صارَ كلمةً تُباعُ في سوقِ النفاق. لو استطعنا لبعنا ريحَ الشمالِ التي تحملُ عطرَ الأزهار، ولم نتركْ للكرامةِ إلّا ذِكرًا يُروى في أحاديثِ الندم.

المراجـــــــــــــع:

1-صفحة “القاسم على الفيسبوك

2-المسار السنة العاشرة: العدد الثاني1430هجرية 2009م

3- حرث في حقول المعرفة لفقيد الوطن “القاسم”

4-صحيفة صوت الشورى الإلكترونية.

5- مقالين للكاتب في ذات الخصوص.

اقرأ أيضا:جولة سريعة في وجدان الشاعر الراحل قاسم بن علي الوزير

نشرت هذه المادة في العدد الخاص من صحيفة الشورى بتاريخ 20مايو2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى