كتابات فكرية

في رحاب الصوم  ( ١ – ٣ )

في رحاب الصوم  ( ١ – ٣ )

  • عارف الدوش

 الخميس6مارس2025_

قبل الحديث عن الصوم من المهم أن يستقبل الإنسان شهر رمضان المبارك وقد صفى قلبه من كل الأمراض النفسية والأحقاد ومسح منه كل الذنوب الباطنة .

 فقد سئل عبد الله بن مسعود كيف كنتم تستقبلون رمضان قال : لم يكن أحدنا يجرؤ أن يستقبل هلال رمضان وفي قلبه حقد على مسلم ويتبع ذلك أهل الله ( الصوفية ) بتصفية القلب مما سوى الله والشوق إلى لقائه والفرح بالنظر إلى وجهه الكريم في رمضان وغير رمضان ..

 والصوم عبادة روحانية وهو سر خاص بين العبد وربه وتحتل هذه العبادة الركن الرابع من أركان الإسلام وقد فُرض على المسلمين صيام شهر رمضان لقوله تعالى : ( شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هُدى للناس وبينات من الهُدى والفرقان فمن شهد، منكم الشهر فليصمه ) (١) .

 والصوم فرضه الله تعالى على عباده منذ أن خلق الإنسان لقوله تعالى: ( يا أيها الذين أمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب  الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ( ٢) 

 إلا أنه لا يعرف كيف كان يصوم الناس قبل الأديان الكتابية الثلاثة ( اليهودية والمسيحية والإسلام ) .. لكنه عرف عند اليهود والمسيحيون أنهم يصومون في أوقات معينة ومتعددة عن أصناف محددة من الطعام وفي ذلك يتدخل الإنسان بهواه  فليس هناك تحديد منظم حازم  وأيا كان الأمر فإن الصوم مشرع في كل الرسالات السماوية .

 ويتضح من ذلك أنه أمر فطري يحتاج إليه الإنسان في بعض الأوقات ليوازن بين مطالب الجسد والروح ( ٣) .

 ولكن ماذا يعني الصوم في اللغة وفي الدين الإسلامي؟ إن الصوم في اللغة يعني ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام،  ويدل كذلك على الصمت. (٤)

ولقوله تعالى : ( إني نذرت للرحمن صوماً…) (٥) .

ويجمع ” الحرجاني” بين المعنى اللغوي والشرعي للصوم فيقول : ” الصوم في اللغة مطلق الإمساك،  وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص وهو الإمساك عن الأكل والشراب والجماع من الصبح إلى المغرب مع النية ” ( ٦)

وإذا كان الترك أو الإمساك هو كف النفس عن مفسدات الصوم الظاهرة فإن النية هي قصد طاعة الله حيث أن الصوم لا يظهر بالفعل أو اللسان إنما هو نية في القلب وهنا تظهر عظمة وشمول وتكامل الدين الإسلامي الحنيف حيث جمع بين الظاهر المحدد بأوقات يتم فيها الإمساك المطلق عن الأكل وغيره والباطن الذي هو قلبي وسر بين الخالق والمخلوق  ( ٧) . 

وللصوم خصائص يتميز  بها هي :

 – ينفرد الصوم عن العبادات الأخرى  بأنه قيام بلا عمل  وإن كثرت فيه الصلاة والذكر  والتسبيح .

– يتميز الصوم بخلوه من الرياء،  لأن الإنسان لو قال. ( أنا صائم ) ولم يكن صائماً كان الرياء والكذب في القول وليس في العمل.

– أن الصوم عبادة روحانية تؤدى لله وحده ويوفر الصيام التحقق بإحدى الصفات الإلهية ” الصمدية” ولذلك قال تعالى في الحديث القدسي (الصوم لي وأنا أجزي به )

– أن الصوم اختبار وبرهان على قدرة الإنسان على انتزاع نفسه من ربقة الحاجات والمطالب الحيوانية  ومن ثم فهو رياضة ومجاهدة تؤدي إلى التوازن بين الروح والجسد، أي بين الأخلاق الإلهية والعادات الحيوانية.

– جعل الله تعالى للصائمين باباً خاصاً يدخلون منه إلى جنة الخلد اسمه  ” باب الريان ”  وفي هذا تشريف وتعظيم للصيام.

 – وضع سبحانه وتعالى الصوم  ضمن المقامات التي يمكن أن ينالها العبد في توجهه إلى الحق، فالقران الكريم يجدد هذه المقامات التي تبدأ بمفهوم الإيمان  فالقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق، والصوم،والحفظ …  الخ

والصوم من المقامات المتقدمة في الطريق إلى الله تعالى . ( ٨)

مفهوم الصوم عند أهل الله “الصوفية “

 إن مفهوم الصوم عند أهل الله “الصوفية ” يدخل ضمن آداب الطريقه وآليات السلوك في السير إلى الله وقد ذهب الجنيد البغدادي  إلى أن الصوم نصف الطريق.

ويذكر ” الهجويري ” أن الصوم يشمل كل الطريق لأنه في حقيقته زهد( ٩) ..  ويشمل الزهد فيما يتعلق بالصوم فرائض عديدة  منها حفظ البطن عن الأكل والشراب وحفظ العين عن النظر بشهوة والأذن عن سماع الغيبة والنميمة واللسان عن كلام الغفلة والدنايا والجسم عن  إتباع ملذات الدنيا ومعصية الله .

 والمعاني السابقة تندرج في الصوم الحق والذي يعني الفناء عن الإرادة والهوى وعدم الالتفات إلى الغير وهذا ما أطلق عليه أبو طالب المكي”  صوم الخصوص ” والذي يحدده بحفط الجوارح الست  (  البصر والسمع واللسان والقلب واليد والرجل )  عن أي أعمال فيها باطل أو فاحشة أو شبهة.

 بالإضافة إلى أنه يصل الصوم بالطهر  فعنده من صام عن الأكل والجماع وصام بجوارحه الست عن الآثام هذا بمثابة الطهر (١٠)

وبذلك تتحقق الصمدية في الإنسان،  ويصبح أهلاً للترقي إلى مقامات التمكين. 

والصوم يقوم على مخالفة الاحتياجات البشرية ومن ثم بدهر على الصائم أثار الحق فيه حيث استولى على قواه وهنا يمكن وصف الصائم بأنه ذو صوم ويستحق الصفة الصمدانية .. لكن الحق تعالى يسلب عن العبد هذه الصفة ويضيفها إلى نفسه لقوله تعالى “إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به.

_________يتبع

الهوامش :

 ( ١ ) سورة البقرة : ١٨٥

( 2 )  سورة البقرة : ١٨٣

(٣) الندوي: الأركان الأربعة ص١٨٠ وما بعدها

( ٤ ) ابن منظور : لسان العرب ص٢٥٢٩

( ٥) سورة مريم : ٢٦

( ٦) الجرجاني : التعريفات ص١١٩

( ٧) كرم أمين أبو كرم: حقيقة العبادة عند محيي، الدين بن عربي ص ٢٢٠

( ٨)  شلتوت : الإسلام عقيدة وشريغة  ص ١٢٦ والندوي : الأركان الأربعة ص ١٨٠وسورة الأحزاب : ٣٥

( ٩) الهجويري : كشف المحجوب ص٣٨٤-؛ ٣٨٥

( ١٠ ) أبو طالب المكي : قوت القلوب ج2 ص ١١٣

( ١١ ) ابن عربي – الفتوحات المكية – السفر التاسع ص ١٠٢- ١٠٣  

اقرأ أيضا:تجليات لـ عارف الدوش

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى