غزّة: المجتمع الذي صنع زمن طوفان الأقصى
غزّة: المجتمع الذي صنع زمن طوفان الأقصى
غزّة: المجتمع الذي صنع زمن طوفان الأقصى
سلام أبو شرار
اجترح الفلسطينيون منذ فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حدثًا تاريخيًا مفصليًا في تاريخ صراعهم مع “إسرائيل”، ليس فقط بالمعنى العسكري والإجرائي على الأرض، بل أيضًا على المستوى القيمي لهذا الصراع الممتدّ منذ ما يقارب مئة عام.
فمشهد اقتحام الأراضي المحتلة عام 1948 على يد مقاتلي القسام، ليس فقط ما رأيناه في صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بل هو أيضًا ما تراكم خلفه من منظومة قيمية أفلتت من الهلاك الذي أحدثته “الحداثة” (وجه الاستعمار الناعم) في المُدُن والناس.
لم يكن يخطر لـ “إسرائيل” في أسوأ كوابيسها أن الحصار الذي أطبقته على غزة عام 2006 عقب اختطاف المقاومة للجندي جلعاد شاليط سينقلب في وجهها مرات ومرات، لكن المرة الأشد كانت الأخيرة في “طوفان الأقصى”.
حاصر الاحتلال قطاع غزة، وشنّ ضده حروبًا عدةً صبَّت فيها جنونها التدميري لمحو ما أمكن من أحياء وعائلات وبُنىً تحتية، محاوِلًا بمراكمة الحصار والدمار أن يرسل القطاع سنوات إلى الوراء على محور الزمن، ليس بالمعنى المادي فقط، بل وبالمعنى القيمي أيضًا.
زمن القتال، قبل لحظته:
ما حصل في اليوم الأول من “طوفان الأقصى” كان انعكاسًا لما كان يُنْسَج في مجتمع غزة طيلة سبعة عشر عامًا من الحصار، جعلته أبعد عن صورة “المدينة الحديثة” التي دأبت السلطة الفلسطينية -مثلًا لا حصرًا- على تجسيدها أداةً استعماريةً في رام الله على سبيل المثال.
خلقت غزة زمنها الاجتماعي/ الجماعي الخاص بها رغم كل ما اكتنفه من صعوبات ومشاق يومية تكبدها أكثر من ميلوني فلسطيني، وملأته بما يغذي مشروعها الاستراتيجي في المقاومة، المحمول على أكتاف رجالٍ هم نفسهم الذين يتكبدون المشاق اليومية.
في هذا الزمن الخاص الذي يجوز أن نصفه بالموازي للأزمان التي تحياها الجغرافيات المحيطة بالجيب الجغرافي الأعلى كثافة سكانيًا في العالم، والذي أريد له أن يكون سجنًا، ظهر عيانًا ما تكاتف في الخفاء ليَلِدَ لنا لحظة الفعل الفلسطيني المقاوم الأهم في تاريخ القضية الفلسطينية – السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
استثمرت غزة عزلها عن العالم، وعن خطط “سلام فياض” الاقتصادية، في خلق نموذج حضري ينمو في الزمن على نحو مختلف عمّا حصل في المدن التي أفسدتها تلك الخطط. وفي حين كانت تتضخم مظاهر “الحداثة” في الضفة ومدنها لهاثًا وراء “مشروع الدولة”، كانت غزة تكابد لنيل الاحتياجات الأساسية من ماء وكهرباء ودواء وإعمار بعد كل حرب طاحنة.
وفي أتون كلّ هذا، نشأت بُنىً اجتماعية قادرة على ترسيخ عمليات التفكير والتخطيط والفعل طويل الأجل، خلافًا لما خلقته المُدن الحديثة التي أنتجتها السياسات الليبرالية في الجغرافيات التي تحيط بغزة من إعلاء للقيم الفردية والاستهلاكية، والتي لعبت عبر محور الزمن دورًا تراكميًا في تكبيل قدرات المقاومة في الضفة الغربية بالتحديد، عدا عمّا أفسدته أيضًا في قدرة الجماهير العربية على التحرك الحر طويل الأمد.
وهذا ليس اتهامًا، بل هو محاولة للبحث في إجابة لسؤال: كيف نقرأ نحن الذين لسنا في غزة، جنون “إسرائيل” التدميري لمحوها بالمعنى الحضري والإنساني أيضًا؟
يفتح لنا هذا فضاءً لفهم أن “إسرائيل” وهي تحاول أن تمحو غزة بنيرانها، تريد أن تقتل الأمل الكبير الذي دقت به غزة باب كل قلب حر في العالم، ظنًا منها أن التاريخ متوقفٌ في وعي الإنسان العربي عند صورة “إسرائيل” الحديدية، دون أن تدرك حتى اللحظة أن فجر السابع من تشرين حمل تحوُّلًا عابرًا للجغرافيا، قادرًا على مساس الناس قيميًا إلى حد عميق يجعل كل ما كان قبله ليس كما سيكون بعده.
وبذلك فإنها في إمعانها في التدمير والقتل لن تستطيع إعادة العقل الحر إلى سجن كَيِّ الوعي وقهره بالدم. وإنما تعكس فشلها الاستراتيجي الذي تفشَّى في جيشها إلى الحدّ الذي دفع بعض الجنرالات المتقاعدين للمطالبة بإعادة بنائه من جديد.
ونتنياهو، المأزوم سياسيًا منذ ما قبل الحرب، يحاول الخروج من الحرب بصور كثيرة، منها صورة السياسي الوفي لأبيه الروحي في السياسة، جابوتنسكي، الذي تقوم كل فكرته على قتل الأمل في نفوس العرب الذين رأوا بأمّ أعينهم مصداق كلمة الأسير محمود العارضة، أحد أبطال نفق الحرية، حين قال: “هذا الوحش وهم من غبار”.
تراكم الزمن، سرعة اللحظة، تحول الوعي:
هذه المرة الأولى التي تحيا فيها النفوس المنتمية للقضية الفلسطينية لحظةً زمنيةً حقيقيةً تأخذ فيها المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة لتهاجم، وتوقع خسائر فادحةً من الضربة الأولى. وهنا يشكّل الحيز الزمني عاملًا فارقًا جدًا في الوعي العربي المقاوم لـ “إسرائيل”، ففي حين استطاعت المقاومة في أكثر من خمسين يومًا من الحرب عام 2014 أَسْرَ جنديين إسرائيليين، استطاعت في بضع ساعات أن تأسر ما يزيد على تسعين جنديًا إسرائيليًا حسب اعترافات الجيش الإسرائيلي حتى لحظة كتابة هذا التقرير (أثناء تحرير هذا التقرير أعلن الجيش الإسرائيلي عن ارتفاع عدد أسراه لدى المقاومة إلى 199). وبهذا فإننا أصبحنا أمام نموذج مقاومة يتحرّك عبر محور الزمن بسرعة مفاجئة، مستندًا إلى مخزون تراكمي عالٍ من القيم والعقيدة القتالية، تاركًا “إسرائيل” في حالة انهيار وتخبّط وعجز أمام مقاتلين نشأت قوتهم الأيديولوجية والقتالية في جغرافيا محاصرة، لكن في زمن حر، كاسرين الحصار وممتدين إلى الجغرافيا التي كانت تعتقد أنها محصنة.
جاء هؤلاء المقاتلون من أنسجة اجتماعية تعالت على جريمة العزل عن العالم، وعرفت كيف تستنبت منه واحةً من القيم العليا، تحميها من التشرذم وتلاشي معاني القرب وتفشي الانعزال بين أفرادها وغياب اليقين طويل الأجل، كما هو الحال في فقاعات “المُدُن الحديثة” التي سعت “الدولة” لإبادتها فِكْرًا، ثم ما تبع ذلك من إبادات بأشكال أخرى، لتظل في تشظٍ مستمر يحول دون أن تنتظم في سبيل أي فعل استراتيجي تحرري من هيمنة الليبرالية، التي تتخذ في فلسطين شكل “إسرائيل” وكل “السلطة الفلسطينية”، وفي بقية الدول العربية تتخذ شكل الأنظمة المتواطئة.
وفي حين لازَمَت نموَّ المدن الحديثة، والتي منها رام الله التي أكتب في مساحتها هذه المادة الآن، تحولاتٌ كبرى في القيم، وغيابُ اليقين في ظل سرعة التحولات والارتباكات في حياة الناس وما يجرّه هذا من تغيرات مستمرة في ظروف الحياة والعمل، وانتفاء الآجال الطويلة في أي شيء، فإن هذا يدلل على ما يتحدث عنه فرنان بروديل في فلسفة استبطان رؤية للزمن يتراجع فيها التركيز على مساره التاريخي الأطول.
ومن هنا فإنه وفي هذا الزمن الجاري، كان لغزّة زمنها الخاص الذي نجت به كل مرة رغم ويلات الحروب والحصار والدمار، وغرست فيه أبناءها، يتربوّن ويستعدّون، ويتحركون بالضرورة في نسيج اجتماعي حاضن -رغم كل آلامه- حتى قدَّم لنا إرادة القتال الباسلة التي رأيناها جميعًا فأحيت فينا الأمل بالممكن والقدرة.
وحين أقدمت غزة على تقديم نموذج القتال الذي نتج في زمنها الخاص الممتلئ بقيمها الخاصة التي نجت من وباء المدينة الحديثة، وجدت الليبرالية العالمية المصطفة وراء “إسرائيل” -وجهِها في الشرق الأوسط- نفسها عاريةً في مأزقها الدائم والمعتاد: العجز عن التوفيق بين الوجه الديموقراطي والجوهر الرأسمالي المتوحش والقائم على الحرب. وبحسب زيجمونت باومن فإن هذا المأزق يشكّل معالم السياسة الليبرالية الواضحة على محور الزمن، والتي تقوم على تقديم الآني الجاري على التاريخي والمستقبلي، وهي بذلك تحتكم لتقديرات المصالح ودورات الانتخابات متعاميةً عن دورة التاريخ نفسه.
السرعة والسياسة
في ظلّ حدث بضخامة فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والذي سيلقي بظلاله على المدى الطويل على مصالح الليبرالية العالمية في عالم عربيٍّ حطَّم أمامه مقاتلو القسام بالتجربة والبرهان، لا بالشعارات، عنجهية “إسرائيل”، وعرُّوا ضعفها المختبئ وراء ترسانة الميركافا والتكنولوجيا، أصبحت الليبرالية العالمية كلها، على اختلاف اللغة التي تنطق بها، أمام مأزق دورة التاريخ، وهو ما لا تستطيع التعامل معه إلا بالحرب، في محاولة لإيقاف امتداد هذه الدورة إلى جغرافياتٍ أخرى بمساحات أكبر من جيب جغرافي كقطاع غزة.
من منطلق هذا الخوف يمكن لنا أن نفهم أيضًا لماذا دفعت أمريكا للمرة الأولى بحاملات طائراتها إلى المنطقة، وتدخلت على هذا النحو الذي لم يسبق لها أن فعلته في مواجهات سابقة بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بل والعرب عمومًا.
إن السرعة التي تحركت بها المقاومة في الساعات الأولى للمعركة أشعرت “إسرائيل” والقوى الليبرالية من خلفها بجدّية التهديد وحجمه. وهي سرعة ستظلّ تلقي بظلالها على الفعل السياسي للاحتلال كما للقوى الليبرالية العالمية، من حيث إنها كسرت وللأبد ما سعت “إسرائيل” لتكريسه في قطاع غزة لا كجغرافيا فحسب، بل أيضًا كزمن إجرائي تمارس عليه تحركها السريع بين حالتي السلم والحرب لتحقيق المكاسب الأمنية والسياسية على حد سواء.
وإن كانت المدينة بالمعنى الحديث صيغة للتحكم بالناس، فإن غزة أفلتت من هذه الصيغة حين حولتها “إسرائيل” إلى سجن كبير، ولأنها نجحت في الإفلات وبناء إيقاعها الزمني الخاص المنضوي على مؤشرات كثيرة على طبيعة مجتمعها، فإنّ “إسرائيل” الآن تمحو بجنون أحياءَها ومعالمها الحضرية، لإبطاء حركة هذا المجتمع مرةً أخرى في محور الزمن. وهو محو سيفشل مرةً أخرى، تمامًا كما فشل فيما مضى، ولم يستطع أن يحبط “طوفان الأقصى”.
لقد قدمت غزة، بوصفها مجتمعًا حضريًا نموذجًا ملموسًا وناجحًا للقوة والمبادرة القتالية، على المستوى الداخلي، قبل أن يكون على مستوى تحطيم السياج المحيط بها، وهو ما يُقوِّض في الوعي الإنساني هيمنة الرأسمالية وقواها الاستعمارية على الفضاءات والأفكار والموارد في المجتمعات العربية المحيطة. ومن ثمّ فإنه نموذج قادر على إلهام الجغرافيات حول غزة لاستعادة وعيها بالزمن، واقترانها بمنطق المجتمع وتنظيم قواه واستثمارها، وتحطيم أوهام الفردية، وفتح الأفق على اتساعه لممارسات المقاومة على اختلاف مستوياتها.
إن “إسرائيل” لا تريد لهذا الإلهام أن يمتد، لأنه ببساطة يهددها في أهم مورد من موارد الوجود: الزمن.
اقرأ أيضا:قمة السلام..أم قمة الذل والهوان