اخبار محليةثقافة وسياحة

عدن والاستقلال الثاني.. حين يعيد التاريخ إنتاج نفسه

عدن والاستقلال الثاني.. حين يعيد التاريخ إنتاج نفسه

 الثلاثاء 9 ديسمبر 2025-

يقول كارل ماركس في مستهل كتابه الثامن عشر عن برومير لويس بونابرت: يحدث أن يتكرر كل حدث كبير في التاريخ مرتين… المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمهزلة. ويقول الفيلسوف جورج سانتاينا: ” من لا يعرف تاريخه محكوم بتكراره”.

اختار الدكتور سامي عطا هذه المقدمة في مستهل محاضرته بعنوان: عدن وذكرى الاستقلال الوطني 58، التي نظمها مركز آفاق اليمن للأبحاث والدراسات بصنعاء، تزامنا مع احتفال شعبنا برحيل آخر جندي بريطاني من اليمن في 30 نوفمبر 1967.

المأساة هي الحدث الأصلي الجاد، الملحمي، الثوري، الذي يحدث غالبًا لأول مرة ويدفع ثمنًا باهظًا، أما المهزلة فهي المحاكاة الباهتة، المشوهة والمسيَّسة لذلك الحدث؛ إذ تعود شخصيات ورموز الماضي، ولكن في شكل كاريكاتوري يفتقر لروح المأساة الأصيلة وجديتها.

واليوم -ونحن نحتفي بذكرى الاستقلال- نشهد في جنوبنا مشاهد تبدو كأنها إعادة لشخوص وأفكار الماضي، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: أي نسخة نعيش اليوم؟ أهي تكرار للمأساة الملحمية لثورة أكتوبر ونضال الاستقلال، أم هي مهزلة لمشاريع استعمارية كنا نظن أننا دفناها إلى الأبد؟

وفي محاولته للإجابة عن السؤال الصعبّ استعرض الأستاذ بجامعة عدن سامي عطا المشاريع الاستعمارية التي حدثت خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في مدينة عدن. وقال إن شعار “عدن للعدنيين ” ومشروع ” اتحاد الجنوب العربي” ، كان يقف خلفها الاستعمار البريطاني محاولا طمس الهوية اليمنية، مشيراً إلى أن المناضل الوطني الكبير عبدالله عبدالرزاق باذيب، لعب دوراً مهما في الدفاع عن الهوية اليمنية، وأسقط تلك المشاريع الاستعمارية التي هدفت لسلخ الجنوب عن هويته الحقيقية، باعتبار” اليمن بلدا واحدا موحداً شمالاً وجنوباً”. وأوضح الدكتور عطا أن المشاريع الاستعمارية الأصلية هي (المأساة)، بمعنى أنها كانت خطيرة، وواجهها الشعب بتضحيات جسيمة. واستدل على ذلك بـ مشروع (اتحاد الجنوب العربي)، الذي كان هدفه الصريح تفكيك الهوية للشعب اليمني، وشكل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا لمستقبل الجنوب، فواجهته ثورة شعبية عارمة (14 أكتوبر) قدمت فيها تضحيات وشهداء.

أما مشروع (عدن للعدنيين) فكان مأساة اجتماعية؛ لأنه، خلق انقسامات طبقية وجغرافية حقيقية ومؤلمة في النسيج الاجتماعي، وكان أداة لإدارة الاختلاف لصالح القوى المستعمرة، على قاعدة (فرق تسد).

وأما المهزلة، فهي ما نشهده اليوم من محاولات لإعادة إنتاج مشاريع الأمس اليوم، فهي (مهزلة) في أنصع تجلياتها، أو نسخة كاريكاتورية من المأساة الأصلية. وكما كانت مأساة الأمس مشروعا استعماريا بآلة عسكرية وإدارية كاملة، مدعومة من إمبراطورية عظمى (بريطانيا)، فإن النسخة الحالية يتصدرها سياسيون يعتمدون على دعم إقليمي متقلب، دون مشروع دولة حقيقي، وفي خضم صراعات داخلية لا حصر لها. إنه (اتحاد) بلا مضمون، و(استقلال) بلا سيادة حقيقية، إنه محاكاة باهتة للمشروع الاستعماري الأصلي، لكن بدون قدرته ولا وضوحه.

مهزلة (عدن للعدنيين):

في نسختها الأصلية بداية خمسينيات القرن الماضي، تبنت جمعية عدن للعدنيين الشعار المأساة، وما ينطوي عليه من تمييز اجتماعي-اقتصادي حقيقي فرضته ظروف الاستعمار.

واليوم يحضر الخطاب الطائفي الجهوي المنقوص، وما يفتقره من أساس اقتصادي واجتماعي الذي ميز النسخة الأصلية، فتحول إلى مجرد شعار لاستقطاب سياسي ضيق، ووسيلة لتبرير الإقصاء في وقت صار الجميع فيه ضحايا، “نزعة مناطقية في ثوب يدعي الحداثة والمدنية” !

لكن لماذا تحولت المأساة إلى مهزلة؟

يعزو عطا هذا الانحراف إلى عدة عوامل:

– فقدان البوصلة الأيديولوجية: الثورة والاستقلال كانا مشروعًا تحرريًا وطنيًا (مأساة جادة). اليوم، المشاريع تفتقر لهذه الروح التحررية الجامعة، وتحولت إلى أدوات لمصالح ضيقة (مهزلة).

– غياب القيادة التاريخية: القيادات التي واجهت الاستعمار كانت تمثل مشروعًا نضاليًا حقيقيًا. الكثير من القيادات الحالية هي (نسخ مقلدة تافهة) تفتقد للشرعية التاريخية والرؤية الاستراتيجية.

– الارتهان: المأساة كانت مواجهة مع المستعمر مباشرة. المهزلة هي لعبة بالوكالة، مما يجعلها أقل مصداقية وأكثر تعقيدًا.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، كيف نكسر حلقة التكرار؟

هنا تأتي الإجابات المستندة إلى عمق سياسي فكري وفلسفي، ومن منطلق خبرة ذاتية يجملها الدكتور عطا في الدعوة إلى ” مشروع وطني جامع ” يتجاوز إرث الماضي كله، ماضي الجنوب وماضي نظام 7/7 الذي كان كارثيًا على اليمن، والدعوة لمشروع دولة تعترف بالجميع، على قاعدة استلهام روح الاستقلال الحقيقي، ويكون عنوان الدولة العريض: السيادة ورفض التبعية والوصاية. وتأكيدا على ما سبق فإن ذكرى الاستقلال (المأساة الملحمية)، يجب أن تذكرنا بما لا يجب تكراره من مشاريع فاشلة. كما يجب رفض (المهزلة) ورفض إعادة إنتاج مشاريع الماضي الفاشلة.

وختم عطا محاضرته بدعوة مراكز الأبحاث والدراسات، لتبني مشاريع تعزز الوعي الوطني في الأوساط الأكاديمية والشبابية، والاهتمام بتوثيق ذاكرة اليمن التاريخية بما يضمن حفظ إرثها للأجيال القادمة، معتبرا أن إحياء ذكرى الاستقلال ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل فرصة للتأمل في مسار الدولة وتحديات الحاضر والمستقبل.

  • نجيب العصار – مركز افاق اليمن للدراسات والأبحاث

اقرأ أيضا: لماذا تلعب الإمارات دورًا تخريبيًا في المنطقة العربية؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى