اخبار محليةكتابات فكرية

دمعة حزن في الذكرى الأولى لرحيل “القاسم بن علي الوزير”

دمعة حزن في الذكرى الأولى لرحيل “القاسم بن علي الوزير”

بقلم الأسيف : حسن حمود الدولة

يصادف يوم 20 مايو 2025م الذكرى الأولى لرحيل القاسم بن علي الوزير، إنها لذكرى رحيل أليمةٍ على نفوسنا، لكنها ملهمة، حقا لأنها ذكرى رحيل رجل حول آلام السجون وشظف العيش إلى شعلة فكر تنير دروب الأمل، ذكرى رجل النضال والفكر، الذي ولِد في بيت عرف بجهاده وتحديه للاستبداد والطغيان، والتطلع لبناء دولة يمنية حديثة، إنها الذكرى الأولى لرحيل رجل استثنائي لا يجود الزمن بمثله إلا في القرن مرة، أو مرتين، ذكرى رحيل مفكر ينبت الأمل في تربة المعاناة، في هذه الذكرى، نتذكر القاسم كرمز للحرية والعدالة، مدافعا عن الحق ومؤمنا بأن الكلمة هي أداة التغيير. سوف يبقى إرثه الفكري والأدبي محفورا في ذاكرة الأجيال، كمصدر إلهام لكل من يسعى لبناء يمن جديد يتسع للجميع.

تمر علينا الذكرى الأولى لرحيل “القاسم”، الرجل الذي لم تكن حياته سيرة شخصية فحسب، بل ملحمة وطنية كتبت بدماء التضحيات وأنوار الفكر.

تمر علينا هذه الذكرى الحزينة لنتذكر رجل حول سجونَ الطفولة إلى منصة لإطلاق الأسئلة الكبرى، وجعل من الألم مفتاحا لفهم معنى الحرية، ذكر رحيل إنسان ولد في بيت شيدت جدرانه بالجهاد والنضال، حيث اعتقل والده الأمير “علي” ابرز قادة ثورة 1948 الدستورية فتحولت زنازين السجن إلى مهد لوعيه المبكر، في تلك العتمة، حيث كانت القضبان تغلق على الجسد، بدأ عقله يشرع نوافذَه نحو آفاق الفكر.

ونحن في هذه الذكرى نتذكر “القاسم” كإنسان عاش محبا للثقافة، مناضلا جسورا، مسكونا بالأمل والقلق. لقد ترك تأثيرا عميقًا على مجتمعه وجيله، حيث ألهم الكثيرين من خلال أفكاره ورؤاه. وكان بحق صوتا لكل من يعاني، وعازفًا دائما على أوتار الأمل، حتى في أحلك الظروف. فلنتذكر قاسم بن علي الوزير ليس فقط كأديب وكاتب، بل كمنارة فكرية تدعونا جميعا للعمل من أجل عالم يسوده العدل والحرية، حيث يكون للإنسان مكانته الحقيقية. لنستمر في نشر أفكاره ونشر الوعي الذي دعا إليه، لعلنا نكون جزءا من الحركة التي أرادها، ونسهم في تحقيق حلمه في النهضة العربية.

في هذه الذكرى الحزينة لا نجد أفضل من تذكر بعضا محطات الفقيد النضالية التي تمتد من أواخر أربعينيات القرن العشرين وحتى منتصف القرن الواحد والعشرين، حيث لم يعرف الفقيد ولا إخوته خلالها الاسترخاء  أو الاستكانة أو مهادنة الطغاة، وكان الفقيد – رغم صغر سنه مقارنة بعمر أشقائه – مرجعا يعتدون برأيه ونصائحه فقد كان سياسيا محنكا ومناضلا جسورا، ويتمتع بهدوء الطبع ورزانة في غير تكبر حتى لقبه الأحرار في سجن حجة ب:الفيلسوف”.

رحل “القاسم” في زمنٍ يئن فيه الوطن تحت وطأة الحروب، ويصبح سؤال الذكرى إلزاما: كيف نحول إرث هذا المفكر إلى فعلٍ يومي؟ الجواب ربما نجده في كلماته الأخيرة: “لا تنشغلوا ببناء التماثيل للعظماء، بل اجعلوا من حياتكم نصبًا حيًا لِما آمنوا به.

فالقاسم لم يكن حكيما فحسب وبل وداهية من الدهاة، لكنه يتوارى عن الأضواء فيتحمل قسوة الحياة وشظف العيش بصبر ورباطة جأش فيحول حياة المعاناة والبؤس إلى جهاد، يتكيف سريعا مع الظروف مهما كانت قاسية حقيقة عانى هو وأشقاؤه مرارة الغربة، وشحة مصادر الرزق منذ أن كان فقيدنا في الحادية عشرة من عمره حيث بدأت حياته في غياهب السجن مع إخوته بعد اعتقال والدهم الأمير “علي” احد شهداء قادة أحرار ثورة 1948م الدستورية،  وكان طيب الله ثراه من أبرز بناة اليمن الحديث وتعلموا من مدرسة الأحرار أن الكلمة أقوى من السيف، وقد حدثني أستاذنا الجليل “زيد” مد الله بعمرة معاناتهما حين سجنا في غرفة مظلمة لا يدخلها الضوء بعد إطلاق سراحهما بتوسط من العلامة “القاسم العزي” لم يقو نظرهما على رؤية الضوء إلا بعد مرور ساعات من خروجهما من تلك الزنزانة.

نعم كان “القاسم” منذ أن كان في السجن مشروع فيلسوف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فكان منكبا على الاطلاع والتزود بالعلم حيث جمع بين الثقافتين الإسلامية والغربية، واستلهم من تجاربه وآلام مجتمعه جهاده ليعبر عنه شعرا ونثرا.

 إن شغف الفقيد باليمن لم يكن مجرد عاطفة، بل كان رسالة حياة، ودعوة للتلاحم والتضامن، وللوقوف ضد الظلم والفساد ودعوة ستظل تتردد أصداؤها على أجيالنا القادمة.

 وكان قلمه كان سلاحا في معركة الفكر والثقافة، حيث عبر عن هموم الوطن وآماله يقلمه الرشيق وشعره البليغ ، فقد كان شاعر أل الوزير بلا منازع حسب شهادة أستاذنا “زيد” مد الله بعمره فلم يكن لقب ب:”الفيلسوف” ذلك اللقب الذي أخرجه من “فيلسوف بالإمكان” إلى “فيلسوف بالقوة “إذا لم تكن ذلك اللقب مجرد لقب عابر، بل كان انعكاسا لرؤية استثنائية حولت الثقافةَ التقليدية إلى معاصرة، أي لم يكن لقبا مجرد إشارة إلى ذكائه ونبوغه المبكرين فحسب، بل كان تجسيدا لرؤيته العميقة للعالم من حوله.

إذا ستظل ذكرى “القاسم” حية في قلوبنا، كفيلسوف حالم، وكمدافع عن حقوق الإنسان، وكمنارة تنير دروب النضال، كما سيظل حيا بيننا من خلال ارثه الفكري حيث كان من أبرز الكتاب الذين ساهموا في تطوير الأدب اليمني الحديث، وكان شعره يعكس حبه للوطن وكان همه هو الهم العام، تمر هذه الذكرى لترسخ يقينا أن العظماء لا يرحلون، فالقاسم – الفيلسوف، الثائر، الحالم – ما زال حاضرا في كل قصيدة تنشد للحرية، وفي كل حوار يدعو للعدالة، وفي كل محاضرة يتطلع من خلالها إلى بناء دولة مدنية، فذكرى “القاسم” ليست مجرد حنين للماضي، بل دليل يضيء درب النضال… درب لن يسكت عنه اليمنيون حتى يتحقق هذا الحلم الذي ضحى من أجله الأحرار وفي طليعتهم الراحل “القاسم” وأشقاؤه.

لقد رحل “القاسم” عنا جسدا لكن فكره باقٍ.. لأن الشموع التي أشعلها القاسم لن تطفئها رياح الظلام، نعم رحل جسدا، لكنَ سيرته أصبحت منهجا فليست الذكرى مجردَ مرثية تكتب، بل دعوة إلى :”حرث في حقول المعرفة” كما أراد، فليكن رحيل “القاسم” دافعا لنا كي نقرأ محاضراته ودراساته المنشورة وتلك المنسية، وننشر وعيه بين الشباب، ونحارب معه بالكلمة كما حارب.

فليبقَ القاسم – كما أراد – جمرة تحت الرماد، تذكرنا أن العظماء لا يغيبون، بل يصيرون نجوما تضيء للثوار دروبهم في الليالي الظلماء

فلنتذكر “القاسم” ليس فقط كأديب وكاتب، بل كمنارة فكرية تدعونا جميعا للعمل من أجل عالم يسوده العدل والحرية، حيث يكون للإنسان مكانته الحقيقية. لنستمر في نشر أفكاره ونشر الوعي الذي دعا إليه، لعلنا نكون جزءًا من الحركة التي أرادها، ونسهم في تحقيق حلمه في النهضة العربية.

 لقد كان سجن حجة بالنسبة له ولأشقائه مدرسة تلقوا مبادئ العلم على يد الأحرار وتشربوا العلم في هذه الظروف القاسية، وشاهدوا معا مصرع الابتسامة، وسقوط أول ثورة دستورية في الجزيرة العربية. وبعد الخروج من السجن، عانى هو وإخوانه من شظف العيش، والتشرد والغربة بعد حياة مرفهة في كنف والدهم السخي الكريم “الشهم” الذي لا يضاهيه في الكرم سوى شقيقه الأكبر “محمد” ويكفي أن نستدل بشهادة المناضل الأستاذ محمد الغسيل لنقف على مدى قسوة تلك الظروف الذي قال إنه زار شقيقهم الأكبر الراحل المفكر الإسلامي الكبير “إبراهيم” في القاهرة، فوجد رفيقه في النضال يعيش في الغربة وهو لا يملك قوت يومه بعد أن قطعت عليه المساعدة الحكومية، حد انه كان ينتظر إلى أن يحين وقت الظلام ليخرج متلصصا لعله يجد في برميل زبالة ما يسد رمق جوعه لكن مع كل تلك المعاناة فإن عينيه كانتا تشعان بإيمانٍ لا يقهَر. وكان له عزيمة لا تلين، وأمل لا يفتر، وعزة نفس وإباء وشموخ وإصرار بمواصلة ثورة الأحرار في شمخ لا يعرف الذل ولا الهوان. 

في ظل هذه الظروف الصعبة وفي بلد الغربة، واصل أبناء الشهيد الأمير “علي بن عبدالله الوزير” السير على خطى الأحرار، وهي ظروف شكلت وعيهم مبكرا، وجعلت منهم رموزا للصمود والتحدي.

كان “القاسم” بحق رمزا للحرية والعدالة، منافحا عن الحق، متطلعا لبناء دولة مدنية، مؤمنا بأن الكلمة هي أداة التغيير، ولذلك لم يكن قلمه مجرد أداة للكتابة، بل كان سلاحا في معركة الفكر والثقافة، حيث عبر عن هموم الوطن وآماله في محاضراته ومقالاته وشعره، علاوة على ذلك، فقد كان كغاندي والمفكرين الأفذاذ الذين لم يحرصوا على طباعة إنتاجهم الفكري، ولو لا حرص شقيقه الراحل الأستاذ “إبراهيم” لما رأى ديوانه الشعري النور، وكذلك لولا أن شقيقه العلامة الأستاذ “زيد” قام بجمع بعض بحوثه ومحاضراته ودراساته ودفع بها إلى المطبعة في كتاب بعنوان “حرث في حقول المعرفة” المشار إليه أنفا لحرمنا وحرمت الأجيال من إنتاج الفقيد الفكري المكتوب. وكان رحمة الله تغشاه يؤمن بأن النضال السياسي والاجتماعي يجب أن يكون مرتبطًا بالنضال الفكري والثقافي، وأن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تحقق إلا من خلال التحرر من الجهل والتخلف، وستظل الأجيال تتذكره كرمز للنضال السياسي والفكري والثقافي.

وها نحن اليوم، بعد عام على رحيله، نستعيد ذكرى شاعرٍ حول آلام الأغلال إلى أناشيد حرية، ومفكّرٍ رأى في المعرفة سلاحًا لإسقاط القيود. وهو نفسه الذي لخّص فلسفته فقد تعلم من السجن أن الحرية تُولد من رحم المعاناة، وأن القلم أقوى من كل القيود،  فالقاسم” طيب الله ثراه كان يؤمن بسلاح الكلمة، ويؤمن بالثورة الفكرية، تلك الثورة التي تأتي كقطرات الندى أي أنها ثورة لا تعرف لعلعة الرصاص، وطقطقت المجنزرات ودوي المدافع، وأزيز الطائرات بل ثورة مستمرة تخترق جلاميد الجهل فتذيبها كما تذيب قطرات الندى جلاميد الثلوج، ولذلك قال: “القاسم” بأن الاستعمار لا يرحل بالدماء، بل بالأفكار التي تحرر العقل من أغلال الخوف”.

وفي ختام هذه الدمعة السخينة في الذكرى الأولى لرحيل فقيد الوطن الكبير “القاسم بن علي الوزير بجدر بنا أن نعرج على ما كتبه أخوه المفكر الكبير أستاذنا “زيد” مد الله بعمره وما قال عنه صديقه منذ الشباب الدكتور “عبدالعزيز المقالح” طيب الله ثراهما، وسنبتدئ بما قاله أستاذنا العلامة “زيد” مد الله بعمره ومنحه دوام الصحة والعافية في مقدمة “حرث في حقول المعرفة” حيث قال:

“تقوم شخصية القاسم بن علي الوزير على نواحٍ متعددة ومبدعة، فهو شاعر كبير يقف جنبًا إلى جنب مع الشريف الرضي وبدوي الجبل، يشهد به ديوانه ‘مجموعات شعرية’، ويشهد له جماعة من النقاد العرب الذين أعرفهم وبهروا به، وهو شاعر هذا البيت بلا منازع. وهو إلى جانب ذلك أديب بليغ الأسلوب، ناصع الكلمة، عميق الفكرة، تشهد بها أبحاثه ومحاضراته في هذا الكتاب – يقصد كتاب ‘حرث في حقول المعرفة’ وفي اعتقادي – والكلام لا يزال للأستاذ زيد حفظه الله – وبعيدًا عن عواطف الإخاء، أن لديه القدرة العلمية المتمكنة، والتجرد التام من أي انتماء إلا للعلم وحده، وله اطلاع واسع على تاريخ الفكر الإسلامي، والتراث الغربي المعاصر وقضاياه ومفاهيمه، وعلى تاريخ الفكر الغربي ومساره منذ نشأته المبكرة، وعلى مضمون مسار الفكر الماركسي… وله اطلاع واسع على عمالقة الفكر والأدب قديمًا وحديثًا.”

في شهادة الأستاذ “زيد” عن أخيه “القاسم” تختلط دموع الأخوة بصرامة الناقد، فلم يكن المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ “زيد” مجرد شقيق يكتب عن شقيق، بل كان شاهدًا على رحلة إنسانٍ لم يفارقه منذ أن وعيا الحياة، فصارا جسدًا واحدًا بقلبين. حين يضع الأستاذ “زيد” حفظه الله أخاه في مصاف الشريف الرضي وبدوي الجبل، فهو لا يمنحه لقب “شاعر كبير” فحسب، بل يرفعه إلى مرتبة النبوغ الذي يتخطى الزمان والمكان، وكأنه يقول: “هذا أخي الذي حمل سيف المعرفة فصار أشبه بالأساطير”. لكن اللافت هنا هو إصراره على أن رأيه في أخيه “بعيدًا عن عواطف الإخاء”، وكأنه يخشى أن تُختزل عظمة فقيد الوطن “القاسم” رحمه الله في دمائهما المشتركة، لا في إرثه الذي صار ملكًا لكل قارئ. إنه يدفعك إلى تصديق أن الحب هنا ليس عاطفة عمياء، بل هو حصيلة عقل أدرك أن شقيقه كان معجزة فريدة.

من خلال هذا الوصف يتبين لنا بأن الأخوة بينهما لم تكن مجرد صدفة ولادة، بل كانت شراكة وجودية، فكانا ظل بعضهما البعض فالقاسم طيب الله ثراه كان ظل الأستاذ “زيد” الذي لا ينفصل، ومستشاره في كل خطوة، حتى في تلك اللحظات التي لا تحتاج إلى كلام فقد أرسل إلى الأستاذ زيد حفظه الله رسالة صوتية قبيل رحيل ” القاسم” بأيام قال فيها أنه “لا يستطيع تخيل حياته إذا ما فارقه “القاسم” فإنه لا يتحدث عن فراقٍ عادي، بل عن انهيار جبلٍ كان يستند إليه، ليس في الأمور اليومية، بل في تفاصيل الحياة نفسها. تحوّل كل لقاء بينهما إلى مرثية صامتة، فالصمت كان لغةً أكثر بلاغة من الكلمات، عينان تلتقيان لتحكيان تاريخا من السفر معًا في السجن والزنزانة المظلمة التي جمعتهما حتى أنهما بعد أن أفرج عنهما بتوسط من العلامة “القاسم العزي” لم يقو نظرها على رؤية النور إلا بعد مرور ساعات من خروجهما ، فحياتهما كانت دروب معرفة وحزن وغربة وكأني بالأستاذ “زيد” وهو يلتقي بأخيه في المستشفى وهو يمسك بيد أخيه كمن يحاول إيقاف الزمن، بينما كان “القاسم” يعلّمه كيف يودعه بابتسامة الراضي بقضاء الله وقدره، يعلمه وهو يعرف مدى الحزن الذي سيحدث على شقيقه إذا ما قضى الله أمر.

ولو لا قوة الإيمان والصبر وتحمل المشاق لدى أستاذنا العلامة المفكر “زيد” حفظه الله الأستاذ “زيد” التي اكتسبها عبر رحلة نضال مضنية منذ أن وعى الحياة حتى تعود على الأحزان والمآسي والآلام كعادة عنده. وما كتبه عن شقيقه بحروفٍ من نور.

وما ذكره الأستاذ “زيد” في تلك السطور المذكورة أنفا عن تنوع معارف فقيد الوطن “القاسم” الواسعة على الفكر الإسلامي والغربي ليس سردا أكاديميا، بل هو إشارة إلى أن القاسم كان جسرا بين حضارتين -الإسلامية والغربية- ، وكأنه يقول: “انظروا إلى هذا العقل الذي حوّل السجن إلى مكتبة، والوجع إلى إبداع”. حين يتحدث عن كتاب “حرث في حقول المعرفة”، فإنه يربط بين عنوان الكتاب ومصير أخيه الذي حرث في أرض المعرفة بقلب مجروح، فأنبتَ زهرا لا يذبل. وفي النهاية، تبقى كلمات أستاذنا العلامة “زيد” حفظه الله أشبه بمرآة تعكس صورة أخ لم يمت، بل صار قصيدة تقرأ كلما مر عاشق للعلم أو مهاجر في دروب الأدب.

وبعد أن تعرفنا على شخصية الفقيد “القاسم” طيب الله ثراه في الجنة من خلال ما كتبه عنه أخوه علامتنا المفكر “زيد” حفظه الله نستمع إلى ما قال عنه رفيق دربه وصديق عمره الشاعر الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح (رحمهما الله)، الذي وصف مسيرة “القاسم” المضنية  عرضا أثناء قراءته التحليلية لبعض قصائد ديوان فقيد الوطن “القاسم” “مجموعات شعرية”- “الشوق يا صنعاء” و”أزهار الأحزان” و” لم تشرق الشمس بعد” وفد كتب الدكتور عبدالعزيز بقاله الرشيق الذي جمع بين صدق المشاعر وعمق التحليل، فقال:

“كان القاسم قد بدأ كتابة قصائده في أواسط خمسينيات القرن الماضي في السجن وهو فتى في الرابعة عشر من عمره، بعد أن اقتيد جميع أفراد عائلته من الذكور – شيوخًا وكهولًا وأطفالًا – إلى السجن إثر فشل الثورة الدستورية 1948م، وقطعت رؤوس بعض أفراد هذه العائلة وفي مقدمتهم والده رئيس مجلس وزراء الثورة، علي عبدالله الوزير. أما من نجا منهم فلم يسلم من عذاب السجن وترويعاته، حدثٌ تراجيدي بالغ القسوة، قلما يتكرر إلا في عصور الظلام التي تطحن الإنسان تحت أرجل الاستبداد.”

“وفي غياهب الزنزانة، حيث يمسي الزمن ثقيلا كالحجر، تبلورت موهبة الفتى الذي تحول إلى شابٍ واعٍ، يلتهم كل كتاب يتسلل إلى السجن، من كتب قديمة وحديثة، وكانت لجبران خليل جبران – كما لمصطفى الرافعي – مكانةٌ خاصة في وجدان السجناء؛ ففي أدب الأول وجدوا صدى ثورتهم الرومانسية على القيود، تعبيرا عن أشواقهم للتغيير ورفضا لكسر أجنحة الحرية،- استعارة من كتاب جبران الموسوم ب”الأجنحة المكسرة”- وفي فلسفة الثاني استلهموا خيالا يحلق فوق جدران السجن إلى عوالم الإبداع المُطلق.”

لكن القاسم لم يكن صاحب قصيدة فحسب، بل كان إنسانا استثنائيا جمع بين الودّ العميق والكاريزما الأخاذة، يخطف الأضواء بهدوئه لا بصرخاته. عرف عنه نفوره من الأضواء وتواضعه في الظهور، حسب شهادة علامتنا الأستاذ “زيد” مد الله بعمره، فظلت إبداعاته الشعرية حبيسة الأدراج إلا نزرا يسيرا نشر هنا وهناك، بينما انصرف بجهدٍ صامت إلى التحصيل الفكري والبحث وإعداد الدراسات. ولو دون ما لديه من مخزون فكري لأغنى المكتبة العربية بإنتاج فكري فلسفي وسياسي ، وبحسب شقيقه المفكر والمؤرخ العلامة “زيد” حفظه الله فقال “ولكن كما يقال لكل مفكر آفة ، وآفة “القاسم” أنه – كان- لا يجب أن ينشر كتابا، ولا مقالا، ولا محاضرة، ولا شعرا ” ، وبالتالي فما خلّف من دراساتٍ ومحاضراتٍ قيمة لا تمثل إلا نزرا يسيرا من فكره تتجاوز بأهميتها ما جمعه في كتابه الفكري الموسوم ب:”حرث في حقول المعرفة”، الذي يظلّ بابًا مفتوحًا لفهم عقل رجلٍ حوّل محنته إلى منحة، وسجنه إلى جامعة.

وقد تناول كاتب هذه السطور بعضا من فكر القاسم وبخاصة تلك البحوث القيمة التي تضمنها كتابه القيم الموسوم ب: “حرث في حقول المعرفة” مستلهمًا من تجاربه وآلام مجتمعه ليعبر عنها في كتاباته النثرية والشعرية، كما تجدر الإشارة إلى أن العلاقة القوية التي ربطت بين فقيدنا “القاسم” وأخيه المفكر “زيد” مد الله بعمره كانت نموذجا للتلاحم الفكري والروحي. فكان توأم شقيقه “زيد” يخوضان معا غمار الحياة، وهي علاقة تظهر كيف أن الأفكار تتجاوز حدود الزمن والمكان، كما أن القاسم نسج علاقات مع مفكرين من مختلف المشارب الفكرية، ومن مختلف الأقطار العربية والأجنبية، مما ساعد في تشكيل مجتمع فكري متماسك، وجعلت تلك الصداقات منه مفكرًا موسوعيا. كما أنه أسهم، وساهم في تعزيز الحوار الثقافي وتبادل الأفكار، وكان له بصمته الخاصة في صياغة “الميثاق الوطني” الوثيقة الأدبية للمؤتمر الشعبي العام. كان “القاسم” رضوان الله عليه بحق رمزا للحرية والعدالة، مدافعا عن الحق، متطلعا لبناء دولة مدنية، ومؤمنا بأن الكلمة هي أداة التغيير، ولذلك لم يكن قلمه مجرد أداة للكتابة، بل كان سلاحا في معركة الفكر والثقافة، حيث عبر عن هموم الوطن وآماله في محاضراته ومقالاته وشعره. علاوة على ذلك، فقد كان كغاندي والمفكرين الأفذاذ الذين لم يحرصوا على طباعة إنتاجهم الفكري، ولو لا حرص شقيقه الراحل الأستاذ “إبراهيم” لما رأى ديوانه الشعري النور، وكذلك لولا أن شقيقه العلامة الأستاذ “زيد” قام بجمع بعض بحوثه ومحاضراته ودراساته ودفع بها إلى المطبعة في كتاب بعنوان “حرث في حقول المعرفة” المشار إليه أنفا لحرمنا وحرمت الأجيال من إنتاج الفقيد الفكري المكتوب.

عاش “القاسم” حرا أبيا لا يعرف الانكسار بتعبيره فالحريةُ حسب “القاسم” تولد من رحم المعاناة، والمثقف الحقيقي هو من يرى في الظلام بصيصَ فجر،الحريةُ ليست هتافًا في الميادين، بل ضميرٌ يستيقظ في قلوب الفقراء”.

تغمد الله “القاسم” بواسع الرحمة والمغفرة واسكنه فسيح جناته جوار الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا وعظم الله أجر أستاذنا الجليل العلامة “زيد” وأولاد الفقيد وكل اتله وذويه وعصم قلوبهم بالصبر والسلوان وجعلنا وإياهم من: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) صدق الله العظيم.

 اقرأ أيضا:افتتاحية صحيفة الشورى الورقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى