حاجة السعودية إلى السلام في اليمن

حاجة السعودية إلى السلام في اليمن
الثلاثاء 2 ديسمبر 2025
عاد الحديث مجددًا عن” خارطة الطريق” الخاصة بالسلام في اليمن، التي كانت الأمم المتحدة قد أعلنت عن صياغة شبه نهائية لها في ديسمبر2023، عقب عملية تفاوضية معقدة تلت إعلان الهدنة وخفض التصعيد بين اليمن وتحالف عاصفة الحزم بقيادة السعودية منذ أبريل 2022.
وتمهيدًا لإعلان الهدنة التي توافقت مع حاجة أمريكا والغرب للحد من تداعيات أزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، أدخلت السعودية تعديلًا مهمًا في مفاصل تركيبة حكومة المنفى، بإزاحة عبدربه منصور هادي، وإحلال ثمانية من الأطراف والفاعلين اليمنيين المحسوبين على السعودية والإمارات بدلا عنه، وكان لافتًا أن بيان إعلان ما يسمى بالمجلس القيادي قد فوض رئيس وأعضاء المجلس بالتفاوض مع أنصار الله لوقف الحرب والتوصل إلى حل سياسي، تنتهي بموجبه ولاية المجلس الجديد ومدته الانتقالية.
قبل إعلان الهدنة بين اليمن والسعودية بشهر واحد، احتضنت الصين مفاوضات إيرانية سعودية، أفضت إلى إعلان اتفاق تاريخي ينص على عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وفسر المراقبون إعلان الهدنة والتهدئة في اليمن؛ نتيجة لاتفاق طهران-الرياض، المعلن في بكين 10 مارس 2022، وهو ما نسفته حالة الجمود في مسار السلام بين صنعاء والرياض منذ 7 أكتوبر 2023، ومشاركة اليمن وأنصار الله في معركة إسناد غزة سياسيا وعسكريا.
والآن، وقد توقفت حرب الإبادة الصهيونية على غزة، على رغم الشكوك بشأن صمود ونجاح خطة ترامب المتوافق عليها عربيا ودوليًا، فقد تعالت الأصوات التي تتساءل عن مصير حالة اللا حرب واللا سلم بين اليمن والسعودية، وهل يمكن أن تستمر على هذا النحو من الجمود والغموض؟ وما هي أوراق كل الأطراف الفاعلة في النزاع، التي قد تدفع بخيار التصعيد العسكري من جديد، أو تفرض حالة من السلم والتسوية، التي طالما انتظرتها اليمن بعد عشر سنوات من الحرب والعدوان والحصار؟
في هذا التحليل، نستقرئ حالة السعودية نفسها، وهي الطرف الذي يتحمل وزر الحرب على اليمن والجرائم الجسيمة بحق الآلاف من المدنيين، بالإضافة إلى ما نجم عن عدوانها من تخريب للبنية التحتية، وتعطيل للتنمية، وتصدعات في الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي، وبوصفها الطرف الرابح من السلام والقادر على الدفع بالتسوية السياسية بين الأطراف اليمنية إلى الأمام.
وهنا نسأل أيضا: هل لا تزال السعودية تراهن على الحرب مع اليمن وتدفع إليها؟ وما مصلحة الرياض في استمرار حالة اللا حرب واللا سلم؟ وإلى أي مدى يمكن للرياض الاستفادة من السلام والاستقرار في اليمن مستقبلا؟ وقبل ذلك، ما الثمن الذي قد يتكبده آل سعود إن هم راهنوا على الحرب والخيار العسكري من جديد؟
الحرب التي أرادتها السعودية:
حين أعلنت السعودية عن تحالف عدواني للحرب على اليمن، بتفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تقديرات الرياض أنها بصدد حرب خاطفة ومحسومة، وتتفرق مسؤولية دمائها على قبائل التحالف، غير أن الفشل الذريع قد جعل من حكام الرياض في موقف غير مسبوق من الخزي وانحسار المهابة، فقد خاضوا حربًا بقيادة أكبر وأغنى دولة في المنطقة على دولة شبه منهارة، ولا مكان للمقارنة بين قدراتها العسكرية والاقتصادية أو علاقاتها الدولية مع السعودية ودول التحالف، وبينما كانت فرص إيقاف الحرب والخروج منها متاحة في الشهور الأولى لما يسمى بعاصفة الحزم، إلا أن الرياض انتهجت الانتقام من كل الأطراف اليمنية بمواصلتها للحرب وتعطيلها للسلام.
كانت السعودية قد دخلت هذه الحرب بهدف احتواء التغيير الذي شهدته اليمن بعيد ثورة 21 سبتمبر الشعبية وتصدر أنصار الله المشهد اليمني، وهي الحركة التي أعلنت عن استعادة قرار اليمن واستقلال سياسته عن الهيمنة السعودية والوصاية الخارجية، الأمر الذي رأت فيه الرياض خروجًا من ” بيت الطاعة ” الذي سكنته صنعاء منذ سبعينيات القرن الماضي، وكلما حاولت الخروج منه، كلما عادت إليه من جديد.
السعودية التي تُعد فاعلًا متدخلًا في اليمن منذ الحرب اليمنية السعودية في 1934، كانت على الدوام تعمل على احتلال الأراضي اليمنية وقضمها كلما لاحت الفرصة، كما سعت بكل إمكاناتها المالية إلى إضعاف قوة الدولة اليمنية، فقد تدخلت على الضد من ثورة 26 سبتمبر 1962، وحاربت الجمهورية، لكنها صالحت الجمهوريين بعد أن خسرت المعركة العسكرية، وحين احتوت كل الأنظمة الحاكمة في شمال اليمن قبل الوحدة، فقد كانت على مواجهة سياسية وثقافية مع الدولة الاشتراكية في جنوب البلاد، لكنها تصالحت مع الاشتراكيين في حرب صيف 1994، بهدف القضاء على الوحدة التي كانت ترى فيها عامل قوة للجمهورية اليمنية بنظامها الديمقراطي الوليد، الذي شكل بدوره عامل جذب لعلاقات يمنية خارجية دون الحاجة للمرور عبر البوابة السعودية.
وفي إطار سياسة التدخل السعودية، كانت المبادرة الخليجية، واحتواء ثورة 11 فبراير الشبابية في 2011، ولما تمكنت الرياض من إعادة ترتيب المنظومة الحاكمة في صنعاء، جاءت المتغيرات من حيث لا تحتسب، ما جعلها هذه المرة تتدخل باستخدام القوة الغاشمة، حين باشرت عدوانها العسكري على اليمن في 26 مارس 2015، بتواطؤ مع أطراف يمنية، معظمها عاش أو تعايش مع الهيمنة السعودية، وأسلوبها في شراء الولاءات عبر المال السياسي، وغيره من الأدوات المعلنة والخفية.
وإذ فشلت السعودية في هذه الحرب ولم تتحقق أهدافها المعلنة، فإنها قد أطالت من زمن الحرب لتحقيق أهداف مستترة في القلب منها إضعاف اليمن وإفقاره وتهشيم وحدته واستقراره سياسيا واجتماعيا، وبالموازاة هدفت الحرب إلى إشغال الشارع السعودي عن مخطط الانقلاب السياسي والاجتماعي الذي تصدره محمد بن سلمان، حتى أمكن له الاستحواذ على مقاليد الحكم في الرياض، وإقصاء كل منافسيه.
بيد أن جبهة اليمن المفتوحة، قد صارت في النتائج أكبر عائق اليوم أمام مشاريع بن سلمان ذات الطبع الاقتصادي والاستثماري، بالإضافة إلى مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي تقوده الرياض عربيًا وإسلاميًا، إذ انتصبت اليمن قوة إسناد لغزة وفلسطين، ما أربك حسابات الرياض، التي رضخت للضغط الأمريكي، بشأن تجميد الهدنة ومسار السلام مع اليمن خلال معركة طوفان الأقصى.
اللا حرب واللا سلم الخيار المثالي للرياض:
تمضي الرياض في مشاريعها الاقتصادية الكبرى ورؤية 2030، وتنسج علاقاتها مع كبرى دول العالم، وتنفتح على خصوم الأمس، وتخفض جناح الذل لعدو الأمة الصهيوني، وتعقد اتفاقًا مع إيران، ومعاهدة عسكرية مع باكستان، وتدفع الجزية بأرقام فلكية للبيت الأبيض، لكنها في المقابل تبدو متعنتة أمام جارها الجنوبي، الذي لا تنظر إليه إلا كمصدر تهديد لأمنها واستقرارها، وحائلًا دون سياستها المشرعة على تل أبيب، وهي إذ تتريث في الاستجابة لخيار السلام، تحاول كسب المزيد من الوقت، وإطالة حالة اللا حرب واللا سلم مع صنعاء، فهذا بالنسبة لها هو الخيار المثالي، الذي يجعل اليمن يسير إلى حتفه مبطئا، فيما يشرب آل سعود النخب مع أسيادهم وأتباعهم جذلا بما يصنعون.
لقد أدت حالة اللا حرب واللا سلم أكثر من ثلاث سنوات إلى تعقيد حالة الانقسام السياسي اليمني-اليمني، وتردي الأوضاع الاقتصادية في عدن وصنعاء، وعلى رغم الانفراجة فيما يتعلق بتسيير الرحلات الجوية من وإلى مطار صنعاء الدولي، إلا أن هذا المكسب تبخر بعد العدوان الإسرائيلي على الطيران المدني اليمني.
وأكثر من ذلك، فإن الرياض وجدت نفسها في استراحة من هموم وتبعات الملف اليمني، وما تقتضيه متطلبات واستحقاقات السلام، التي تبلورت فيما يعرف بـ ” خارطة الطريق “، كما أن حالة العجز والفشل والشقاق لدى منظومة الارتزاق اليمنية بأحزابها ومكوناتها قد منح السعودية مساحة أكبر من النفوذ والتحكم بالشأن الداخلي والخارجي لليمن، وإن ظهرت تدخلات أمريكية وإماراتية عملت على تقاسم حصة النفوذ فيما بينها وبين الرياض.
لم يحدث خلال هذه المدة ما يعكر صفو حكام آل سعود، إلا من تهديدات أطلقها السيد عبدالملك الحوثي بشأن بعض السياسات الاقتصادية التي استهدفت حياة ومعيشة الملايين من أبناء اليمن، فانصاعت الرياض مرغمة، وأرغمت بدورها حكومة المنفى على التراجع، لكن إلى حين.
ولا شك أن ثمة مكاسب آجلة وأخرى عاجلة صبت في خانة المكاسب التي جنتها صنعاء من حالة التهدئة، إلا أن المراوحة بين الحرب والسلام ما تزال في صالح الرياض، التي تحاول اللعب على حبال التوتر الإقليمي، والعمل مع الأمريكي والإسرائيلي على محاصرة صنعاء، وإشغالها بجبهات متعددة تغدو معها الرياض مجرد ملف هامشي، وهذا ما لا تقبله الغالبية في الشارع اليمني.
مستقبل “خارطة الطريق“:
في هذه الأجواء لا تبدو الرياض في عجلة من أمرها بشأن إنفاذ خارطة الطريق في اليمن، على الأقل في ظاهر الأمر، فهي لم تعلن عن موقف إيجابي حتى الآن من مبادرة صنعاء والرئيس مهدي المشاط، الذي دعاها – في خطابه بمناسبة ذكرى ثورة 14 أكتوبر، الشهر الماضي – إلى مغادرة حالة خفض التصعيد، والانتقال إلى إنهاء العدوان ورفع الحصار عن اليمن بالكلية، وتنفيذ استحقاقات السلام المتوافق عليها.
وإذ تحاول الرياض أن تظهر أكثر تماسكًا، فإنها تدرك أي ثمن ينتظرها في حال انزلقت مجددًا إلى التصعيد العسكري، فقدرات اليمن العسكرية غدت أكثر فتكًا، وحالة الغليان في الشارع اليمني، بما في ذلك الكثير من المناطق في المحافظات الجنوبية، كلها عوامل تصب في خانة إنهاء ملف الحساب مع السعودية والثأر من عدوانها وتدخلها السافر في الشأن اليمني، ثم إن المخطط الصهيوأمريكي في المنطقة يقوم على التفكيك والتقسيم وتجزئة المجزأ، ولن تكون الرياض بمنأى عنه. أضف إلى ذلك تأثير الحرب في الأوضاع الاقتصادية والمشاريع التي يقدمها بن سلمان في إطار تعزيز شرعيته بوصفه حاكمًا وحيدًا للمملكة.
ولا شك أن الرياض قد راقبت ولا تزال تطور القدرات العسكرية اليمنية في معركة إسناد غزة، وهي قدرات هجومية لا تقوى المنظومة الدفاعية السعودية على ردعها في أية مواجهة مقبلة، ولا شك أن هذا المتغير المهم والمفصلي الذي يراكم من مخاوف أعداء صنعاء، يفرض أن تكون الرياض أكثر استجابة لخيار السلام، والإسراع في الاستفادة من السقف المتوازن الذي تعرضه صنعاء وأنصار الله، فالمتاح اليوم من حلول، قد لا يكون متوافرًا غدًا؟ وأي رهان على التدخلات الأمريكية الإسرائيلية، هو رهان على الوهم، كما دلت كل وقائع المواجهة مؤخرًا في البحر الأحمر، التي فرضت على الرئيس الأمريكي المتغطرس ترامب تنفيذ استدارة حادة، وابتلاع هزيمة قاسية، مع التخلي عن إسرائيل، لتواجه قدرها بمفردها في اليمن، وهي الحليف الأول لواشنطن في المنطقة.

