اخبار محليةكتابات فكرية

بعد عام .. ذكريات كتبها الأستاذ زيد بن علي الوزير

وثيقة تاريخية هامة بقلم الاستاذ زيد بن علي الوزير

بعد عام .. ذكريات كتبها الأستاذ زيد بن علي الوزير

الخميس29مايو2025_

بقلم الاستاذ والمفكر الكبير زيد بن علي الوزير رئيس المجلس الأعلى لاتحاد القوى الشعبية

(1)

بعد عام مضى، وشخصك الغالي-يا شقيق العمر- لم برح من عيني فكأنه غرس فيها، فأنظر إلى كل الأشياء من خلالك، واسترجع ما مضى من رحلتنا الطويلة التي قضيناها سنة بعد سنة نواجه قيضاً لافحاَ وهو الأكثر، وربيعاَ مخضلاَ وهو الأقل، فأستلهم منها زادا يدعم خطاي فيما بقي من عمري.

 وعلى ضوء حياتك الحافلة أراك ما برحت تشاركني في حل كل أمر صعب، وترافقني خطوة خطوة في الطريق الباقي نواجه معا مفاجئات الأيام القاسية، وأحلام الليالي المترفة، وكأننا لم نفترق ساعة من نهار.

ومع ذلك يظل حزن كظيمي، يعتلج في أعماقي، ويحتدم بين أضلاعي، احتدام بركان يتفجر ينبئ أنك قد رحلت، وتركتني أخب وحدي في طريق غامض يسوقني فيه أمل، ويدفعني فيه رجا، لتحقيق مبدأ لم يتغير، وعقيدة  لم يتبدل،وموقفا لم ينحرف سواء  أكانت مواسم قيض لافح ،أم رخيات ربيع وارف، كمثل ما كنا معا نسعد بما أوتينا، ولا نتبرم بما نلاقي من السجون والمنافي ونسعد أيضا بأنسام ربيع عابر فلا يثنينا عنما نحن فيه وذلك لأننا كنا نحمل رسالة نسعى في تحقيقها رغم شدة البلوى، ورغم طراوة النعيم، فلا البلوى أرجعتنا عما نحن ساعون إليه، ولا الطراوة أرخت أعصابنا فنمنا على سرر الوهم الناعم كنا نحمل فوق القيض وفوق النعيم. ذلك ما كنا نشعر به حقا وذلك ما حفظ خطانا من الزيغ السياسي كما اعتقد. لقد ربتنا والدتنا على هذا المنوال ووضعت خطانا في الطريق الصعب الذي أصبح بفعل ما نعتقده سهلاً

 هكذا تمدني  ذكرياتي معك يا أخي بموفور من الذخيرة  تساعدني على تلمس الطريق اللاحب بعيداً بعيداً عن بنيات الطريق فأسعى حاملا عنك ما حملته، وألقاك من خلالها صاحياً، وأجتمع بك نائماً، لأنك أنت تسكن ذهني ولا تفارقه؛ مراقبا لي عما افعله، تقبل إذا غفوت علي كفوح نسيم، فنتحدث كما كنا نتحدث، ونتحاور كما كنا نتحاور، ونختلف ونتفق، وفجأة تغيب عني،فأسعى باحثا عنك هناك وهناك ملتاعا بدون جدوى،وعندئذ أفيق على واقع مرير؛وقلب جريح، وفؤاد، مكلوم،أفرح في الليل بلقائك، وأحزن في النهار على فراقك، فأنت-حقيقة- في كلا الحالتين يا أخي لم تغب عني ساعة من نهار، ولا ساعة من ليل، وبين الفرح والحزن تمضي أيامي سريعة الخطى نحو مغيب محتوم لألتقي بك وبابي وأمي وأخوتي وأخواتي في رحاب رب كريم.

(2)

وفي أحيان كثيرة يلجم الحزن السنة فصيحة فتظل الكلمات تتأوه في أعماق النفس بدون أن تجد مخرجاً، تنغلق بحرارتها وسط ضلوع مقفلة تتقد في داخلها كما لو كانت في أتون مقفل. وهذا بالفعل ما أعانيه، فالكلمات تحترق،والحروف تتلظى وبصعوبة فائقة أجد قلمي يخط كلمات دخان قلب يتعذب فما أجده وليس لإيضاحه من سبيل، والعزاء الوحيد-كما سبق القول- هو اللقاء بكم عند رب كريم، فقد كتب عليّ أن أشاهد وفاة أخوتي وأخواتي العشرة واحداً بعد واحد، وحزنا بعد حزن حتى وهن القلب واشتعل الفكر شيباً.

ولكي اخرج من عقم التعبير عما أحس، فقد لجأت إلى أن استحيي تاريخه، أو محطات من تاريخه، منذ أن استقبلته الحياة،أو استقبلها، على إحدى ذرى جبل صبر الشامخ المطل على مدينة “تعز العز”وعلى سهول خضرا تمتد مسافات بعيدة حتى تلتصق بهضاب تعلو حتى تتصل بجبل التعكر العظيم. تاركا لأخوة أعزاء من كتاب اليمن الكبار المجال للحديث عن عمق عقليته، ورحيب رؤيته، وواسع تفكيره، وانصرف إلى مسبق أن أشرت إليه أي إلى استعراض مراحل من حياته الطويلة العريضة ليرى من يحب أن يرى ما قام به من صالح الأعمال

كتب والدي بخطه تاريخ أخي قاسم في غلاف {قرآن كريم}( ولد المولود السعيد بخير وقبول -والدته بنت أبو راس – “القاسم بن علي بن عبد الله” في يوم الاثنين الساعة السادسة وربع 13 القعدة سنة 55 [25 يناير 1937م] جعله الله قرة عين لوالده، ووالدته، والمسلمين، ومن أوعية الكتاب الكريم والعلم الشريف). واستجاب الله دعاء والده فكان قرة عينيهما، وقرة عين المسلمين، الذين اطلعوا على أفكاره وكان من أوعية {القرآن الكريم} والعلوم الإسلامية والمعاصرة.

لم أتذكر أيامي معه في “تعز العز”- كما كنا نسميها- ولا عندما انتقلنا إلى “صنعاء” والهجرة إذ لم يبق منها إلا صورا باهتة تحفظها ذاكرة أثقلت بأحداث جسام.ولكن برغم الذكريات بدأت تتفتح على أيامنا في “المحويت” حيث تحتفظ الذاكرة بصور واضحة، وليل منها صور غائمة.

عرف أخي قاسم منذ طفولته بالشجاعة الفائقة، بل وبعنفوانها، ففي طفولته المبكرة كان مغامرا متحديا  بل ومشاغبا وأذكر أن أحدهم أهدى “ضبعا” صغيراً لوالدي،فتربي في منزلنا لطيفاً ناعماً نسقيه حليباً ونطعمه لحماً، حتى أذا كبر استعاد وحشيته، فكنا في البداية نهرب منه إلى المقاعد العالية إلا “القاسم” فكان يقاومه حتى يمسكه من عرفه ويغلق عليه في غرفة. وظل الحال على ذلك إلى أن كبر “الضبع” -والذي يسمى في اليمن “العرج” -واستوت قوته، واستحال بقاؤه بيننا، افرد له في خارج المنزل قفص مغلق بأعمدة من حديد متباعد يقوم برعايته جندي يطعمه ويسقيه. وطالما سمعت والدي يثني على شجاعته ويصفه بالشجاع.

واذكر حادثة جرت تصدى لها وحده ونحن حوله بشجاعة فذة وذلك أن رجلا شابا عرف بشقاوته وطيشه، كان يتصدى لحاملات الماء على رؤوسهن، وبيده عصى طويلة رشق في أعلاها “مسمار” حاد كان يضرب بها تنكة الماء من الخلف فينساب منه الماء قليلا حتى يصل إلى الثقب فلا تصل إلى منزلها إلى وقد ذهب منها الماء الكثير. فلما عرفن غيرن طريقهن من باب بيته.

هذا الرجل كان عصبيا أحمق متعجرف متكبر لا يخاف من أحد، بل يخيف، ومن أسرة لها شأن في “المحويت”وقد بلغ به الطيش أن قتل “في يوم من أيام رمضان “مقوتا” فحكم عليه والدي بالقصاص ولم ينفذ الحكم بسبب قرب والده من ولي العهد احمد حيث نقلت محاكمته إلى صنعاء

وذات يوم ونحن وغيرنا نلعب قريبا من بيته إذ به يأتي إلينا مهدداً متوعداً لنا لسبب لا نعلم عنه شيئا وكدنا أن نتطاير خوفا منه يمينا وشمالا ،إلا “القاسم”  ففد تصدى بالصراخ عليه، والرد على كل كلمة بكلمة وحتى قرب منه يهدده بضربه فلم يخف منه، وكان في طاقة الشاب أن يوسعه ضرباً إلا انه لم يفعل ذلك” ربما خوفا من والدي فما لبث أن تراجع وعاد إلى بيته، وانتصر قاسم وأعجب به من حوله من الرفاق وأصبحت له شهرة. إنه فعلا لشجاع.

(3)

وتمضي الأيام وتهب الثورة الدستورية وننتقل إلى صنعاء”ثم لم تلبث أن سقط ذلك النور في هاوية ظلمات عهد جديد بعد ثلاثة أسابيع، وصودرت بيوتنا بما فيها من أثاث،وأموالنا كلها وأصبحنا لا نملك مالا ولا دارا، فسكنا مع أبناء عمنا في دارهم، وكان أخي القاسم هو الذي كان يواجه السيف “عباس بن الإمام يحيى” الذي أوكل إليه من الإمام “أحمد” معاملتنا وكان غليظ القلب قاسيا علينا وبقينا بدون دخل فكدنا نموت جوعا فذهب إليه القاسم ليطلب منه أن يقرر لنا ما نقتات به ماداموا وقد صادروا أموالنا فكان العباس يحتد في كلامه فيحتد “القاسم” في جوابه وعندما قال السيف  العباس: لا اقدر أن افعل لكم شيئاً  رد عليه” ولماذا فعلوك سيف إسلام وأنت لم تنفذ أمر الإسلام، فبهت العباس من جواب طفل فدعا “عامل السر وقال له انظر ما تفعل لهم فتقرر مالا ينقع غلة ولا يطفئ ظمئا.

(4)

وتشاء المقادير -ولله حكم غامضة- أن تسقط شقيقتنا “أمة الخالق” بمرض الكلى وليس من طبيب وليس من معالج فاضطررنا إلى انتقالنا إلى صنعاء بعد أن سمح لنا، فحاولنا أن نلتحق بمدرسة ابتدائية حكومية فلم يسمح لنا بالدراسة فيها،فكان “القاسم يقوم مبكرا ويخرج من البيت أيام الرد الجاف ولا دثار له من صقيع البرد فيذهب إلى “قبة المتوكل فيصلي ويلتحق بمسجد البلقة للدارسة حتى ينتهي منها ثم يذهب إلى السوق فيشتري ما يحتاجه البيت بحسب الدخل المحدود فيحمله على ظهره ويعود إلى البيت فكان القاسم الذي عرف بمشاغباته في صباه أصبح الآن من العقل والحكمة ما يجعله رجلا حكيما،

لم تسمح السلطات لنا أن ندرس في المكاتب الدراسية فكنا ندرس في حلقات المساجد وعندما تعرفنا على الأستاذ “عبد الله البردوني درسنا على يديه وكان القاسم أشد الأخوة صداقة بصحبة أستاذنا الشاعر الكبير عبد الله البردوني فتزود منه مالم نتزود به أنا وشقيقي محمد” وكان “مسجد البلقة” هو المكان الذي ندرس على يديه شيء من الأدب والتاريخ والنحو.

حقا لقد أصبح القاسم رحمه الله أبا صغيرا لأسرة معذبة، وعاقلا بعد طفولة جريئة، وصديقا حميماً لأستاذنا البردوني لا يكادان يفترقان يخرجان معا ملتحفان بـ “لحفة” واحدة يتدلى طرف منها علي يمين أحدهما والأخر على يساره لأنهما لا يملكان غيرها.

(5)

عندما أطلق أخي العباس من حجة للمرة الثانية رأى أن نلتحق بقاهرة حجة حيث كان بها بقية ما أبقى سيف الإمام أحمد من رجال “الثورة الدستورية من العلماء والأدباء والشعراء، وكانوا يُدرِسون من يصل من أولاد المساجين لزيارة آبائهم، حيث كانت بعض الكتب مسموحة بالدخول نتيجة مراجعة القاضيان عبد الرحمن الإرياني وعبد الإله الأغبري الإمام أحمد برغبتهما بتحقيق ديوان الشاعر الكبير “عبد الكريم  الآنسي ” ترجيع الأطيار” فسمح بما يرغبان في استيراده بشرط أن تعرض على نائبه أولا  فكان هذا بابا لتلح منه كتب بواسطة حارس تأثر بالثورة الدستورية،

راجع “العباس” السيف الحسن-نائب الإمام بصنعاء- بالسماح لنا بزيارة أخينا إبراهيم فوافق وأضاف والدراسة عند القاضي عبد الرحمن الإرياني، حتى نظل بالحبس مع المغضوب عليهم من الإمام وأسرته فسافرنا نحن الثلاثة “قاسم ومحمد وأنا فاستقبلنا الأخوة خير استقبال ودرسنا على أيديهم.

وهنا في هذا السجن ظهرت بالفعل عقلية القاسم المبشرة بنبوغ علمي، وبتفكير عقلي، حتى سموه “الفيلسوف الصغير” وكما قال الكاتب الكبير “حسن “حمود الدولة” أنه أثناء بقائه في السجن تكون “مشروع فيلسوف” وهنا أيضا تفجرت شاعريته البليغة، فأصبح شاعر هذه الأسرة بدون منازع من القرن السادس الهجري، وحتى أيامه، فهو شاعر هذا البيت لم يسبقه أحد ولا أظن يدركه أحد في المستقبل المنظور.

وليس ذلك فحسب، بل تفجرت عقليته السياسة في وقت مبكر، فعمل مع أخيه إبراهيم والقاضي عبد الرحمن الإرياني وغيرهم في أعمال سياسية كان فيها سكرتير منظمتين أنشأتا في السجن. ومن تلك الفترة تحمل المسؤولية مع أخيه إبراهيم في كل مراحل النضال من حزب الشعب إلى حزب الشورى إلى اتحاد القوى الشعبية حتى توسد في التراب شهيدا

وكان من طبيعته الإيثار فعندما مرضت زوج ابن عمه أحمد بن محمد الوزير وراجع الإمام احمد بالأذن بالسفر لزيارتها،والاطمئنان، عليها أجاب الإمام أحمد بالموافقة بشرط أن يكون أحد بديلاً عنه فتقدم القاسم فكان هو البديل السجين، وكم هي الإيثارات التي بذلها القاسم سواء أكانت عملية أو كتابية، فكم هي المذكرات والمشاريع والمراسلات التي صاغها ولم ينسبها لنفسه.

(6)

كان القاسم بن علي آخر من خرج من أخوته من سجن حجة فأخي “إبراهيم” خرج لزيارة والدتي بوضع أخي “محمد” بديلا عنه ثم أطلق سراحه، بعد أن سجن إبراهيم في سجن القلعة، ثم هرب الأخوة عباس وإبراهيم ومحمد من اليمن إلى عدن في القاهرة كما شرحته في مقالاتي صنع في اليمن في صفحتي في الفيس بوك   face book وتم نشرها في صوت الشورى ،وبقينا- أخي قاسم وأنا- في سجن بيت المؤيد بحجة بعد أن كانوا قد أنزلونا من القاهرة قبل ذلك. وفيما نحن هناك مرض أخي مرضا شديدا خفت عليه خوفا شديدا حتى أني كنت اسهر الليل أتابع صحته وكان الوهم يجعلني أحس وهو نائم بأن أنفاسه أنقطت، ومن شدة الخوف عليه أنني لم اعد اسمع أنفاسه تتردد ولا حركة في بطنه تعلو وتهبط فاندفع من الخوف فأوقظه من نومه فيستيقظ موهن الجفن فافرح لأنه مازال حيا. ثم شفاه الله فذقت بشفائه سعادة غامرة لم أسعد بمثله.

 بعد فترة مرضت والدتي في صنعاء مرضا شديدا فكتب الدكتور فينروني من ذات نفسه إلى الأمام يطلب منه إطلاق سراح أحد أولادها ليرعاها في مرضها الخطير فسمح الإمام بنقلي إلى سجن القلعة بصنعاء مع السماح بالتردد عليها صباحا مع المحافظ صباحا والعودة السجن مساء، وكانت لحظات ماحقة عشناها معا بين الفراق وبين الواجب وهي حالة عبر عنها هو في قصيدته الوداعية بما في نفسه وبما في نفسي أيضا

أأفرح أم ابكي الفراق فأنني      تلقيت ما قد كنت عمري أحاذره

تلفت لا يدري وقد غاب وعيه    أصباء يحسو أم لهيب يعاقره

(7)

وكان لهيبا بالفعل يعاقره وأعاقره، وبقينا على تواصل بريدي إلى أن قام الجيش بانقلابه على الإمام بقادة السيف عبد الله والثلايا ولجوء الأمير البدر بن الإمام أحمد مع الأستاذين الدستوريين أحمد بن محمد نعمان واحمد بن محمد الشامي إلى حجة وإطلاق جميع سجناء الثورة الدستورية ما عدى ثلاثة من أل الوزير هم العلامة محمد بن أحمد الوزير -شقيق إمام الدستور عبد الله بن احمد الوزير” -والعلامة “أحمد بن مُحمد الوزير”-مؤلف المصفى- وأخي قاسم إذ لم يجرأ الأمير البدر أن يطلق سراحهم بدون أن يستأذن أباه.

ومن حسن المقادير بالنسبة لنا بدأ واضحا أن الإمام قد استرخت قبضته على من بقي من الثورة الدستورية فوظفهم بمساعي الأمير البدر-ذي الاتجاه الإصلاحي-في وظائف شتى، وسمح لأخي القاسم بالسفر إلى الحديدة للمعالجة وبعد حين ترك وأمره فعاد إلى صنعاء حرا بدون أمر بإطلاقه. لقد انشغل الإمام بأسرته وترك الآخرين.

(8)

في صنعاء اجتمع بعض        الشمل المبدد والدتنا وأختينا “أم هاني” وحورية وقاسم وأنا، وانصرفنا نحن الاثنان نحو العمل مع الأخوين أحمد العماد وعلي الواسعي -الذي تحول بعد قيام حركة الجيش إلى حزب الإصلاح –على ضوء ما نتلقاه من نشاط أخواننا في القاهرة وعدن من أخبار: عن نشاط حزب الشعب وحزب الشورى، فكنا نعمل على تأسيس فروع له في صنعاء وتعز وإب والحديدة.

الاستاذ القاسم ين علي الوزير

وعلى حين غفلة ثار الجيش في صنعاء على بيت القاضي يحيى العمري وقضاة آخرين بلا سبب عرفته فأحرقت كتب وأحكام وأرقام وجاء الأمير البدر من تعز إلى صنعاء ودخلت القبائل صنعاء نجدة للأمير، وكان الأمير البدر يعالج أوضاع صنعاء هب الجيش في تعز فأحرق وسحل القاضيان الشهيدان الجبريان فأرسل الأمير القاضي البارع “محمد الشامي” فسكن الأمور, فلما بلغ الإمام أحمد وهو بروما يتعالج رجع إلى اليمن فسكنت أوضاع الجيش كما هو معروف، ولأمر لم اسع إليه ولا خطر في بالي عينني الإمام سكرتيرا أول في مفوضية بيروت وعاد الأخوان العباس ومحمد الرباعي إلى اليمن فعين الأخ عباس وزيرا مفوضا في “المغرب” بدون أن يسعى ولسبب لم يعرف إلا الأبعاد المؤدب من اليمن

(9)

 وبقي الأخوان قاسم والرباعي والخالان أمين وحمود ابوراس ينشطون في اليمن نشاطا بلغ حد القرار بقيام ثورة شعبية تنطلق من برط ، وفي  اجتماع النقيلين في بيت النقيب مطيع دماج تبنى المجتمعون إعلان الجمهورية الشعبية الديمقراطية فور انطلاق الثورة الشعبية فحمل القاسم هذا المشروع معه إلى عدن حيث التقى بالأستاذ والشاعر والمربي علي عبد العزيز نصر وأطلعه على الخطة ثم غادر إلى القاهرة ليعرض الخطة على أخيه إبراهيم وبقية الأخوة وهناك التقى بالفيلسوف الكبير “مالك بن نبي” وعايشه معايشة فكرية عميقة فتأثر به وبأفكاره إلى ما سبق له من غوص في دراسته للشيوعية واليسار تأسس اتحاد القوى الشعبية بالتفاهم مع أخوة “عدن”وتبني رسميا وأعلنا الجمهورية الشعبية الديمقراطية فكان أول حزب نادى بها في ميثاق حزبه. وكان قاسم والرباعي هما من توليا تبني الجمهورية.

(10)

وبينما كان اتحاد القوى الشعبية يعمل لقيام ثورة الجبل وإعلان الجمهورية قام بعض الضباط المتأثرين بالناصرية بالانقلاب على الإمام المنصور البدر بعد أسبوع من توليه الأمر، فلم يعد في الإمكان القيام بالثورة الشعبية لتدخل المصريين لتبني الضباط المتصلين بهم ودعمهم بقوات ضاربة ولقيام الملكيين بدعم من السعودية من ناحية أخرى. فأردنا الدخول إلى اليمن فمنع مكتب البيضاني في القاهرة سفر أي يمني إليها إلا بتصريح منه، فلم يتمكن أحد من السفر إلا من أعطي تصريحا بسفره وتيقن من ناصريته وإلا فسيقبض عليه المصريون في اليمن، لكن بعد أن أطيح بالبيضاني من اليمن بجهود أعضاء مكتب الرئيس بقيادة الأخوة الاتحاديين برياسة طه مصطفى وعضوية علي عبد العزيز نصر ومحمد الرباعي ومحمد الشاطبي وغيرهم، فانفتح الباب أمام اليمنيين للدخول إلى اليمن فدخلت الوالدة”بنت ابوراس وإبراهيم وقاسم، للنضال من الداخل وبقي عباس وأنا في بيروت.

نشط الأخوة الثلاثة وأعضاء مكتب الرئيس في دعم الجمهورية فرأس إبراهيم حملة لاسترداد منطقة إستراتيجية في بني حبش فاسترجعها وعاد إلى صنعاء بينما ذهب قاسم مع حملة برط بقيادة الشيخين “أمين ابوراس ومطيع دماج وبقي بها حتى تم إبعاد القوات الملكية من جوارها بما يكفل أمنها.

لكن المؤسف بالفعل ظهور الخلافات بين اليمنيين- اليمنيين وبين اليمنيين والمصريين، إلى السطح ولم تمض سنة حتى عقد مؤتمر عمران المناوئ باطنيا للمصريين وكان هذا المؤتمر جاء بعد لقاء في الراهدة بين القاضي “أحمد السياغي” اللاجئ في عدن والشخصية الكبيرة وبين القاضيين الإرياني والزبيري والشيخ سنان أبو لحوم” وكان رأي القاضي السياغي -كما أخبر أخي “العباس” بعد تفشيل مؤتمر عمران أنه تم الاتفاق معهم على تشكيل إمامة روحية في صعدة وحكومة مدنية في صنعاء لكنهم لم يعملوا بما اتفق عليه فلما سأله أخي عن السبب قال: عقليات فقيه.

وعقد المؤتمر وحضرته اللجنة المركزية في اتحاد القوى الشعبية واتخذوا من موضع في الجنات مكانا لهم للتداول وتوصلوا إل القرار السابع والعشرين الذي اغضب المصريين, وليس من شك أن المؤتمر نجح في أحياء الروح الثورية لكنه فشل في تماسكه وقد حاول الشهيد الزبيري إحياءه من جديد فذهب إلى عمران لكنه رجع خائبا وفي هذه الأثناء حصل خلاف بين الشهيد الزبيري واحد المشايخ المتنفذين حتى انه هدد الزبيري بإعادته إلى القاهرة فقال له “القاسم” -وكانت تربطهما صداقة عميقة- وكان وقتها هو الأمين العام “لو تخلى عنك من تخلى  فلن نتخلى عنك وسوف نقف معك وذهب إبراهيم والقاسم إلى النقيب “أمين ابوراس” وطلبوا منه الخروج معهم إلى برط فوافق مسرعا وهكذا غادروا سرا إلى برط

ومن ذرى برط عبر “القاسم” عن تراكم الأخطاء الإدارية، وأن الصورة لم تتغير إلا شكلا، فالمظالم مستمرة والحرية مقفلة إلا بتسبيح الحكم والوفود المصرية والسجون مستمرة والمخابرات قائمة على قدم وساق فدوي صوته بقصيدته الربيع الكاذب مطلعها

        تحية أيها النازح النائي          يهفو اليك بها شوق الأحباء

        النازحين بلا نأي على قلق       من الحياة فهم أشباه أحياء

لهم مع القدر المحتوم متعد      على تخوم غد للحق وضاء

         طوته الليالي فهو محتجز       لسوف يهدر شلالات أضواء

قالوا الربيع ولم تشرق بشائره     ألا لتسحقه أهوال أنواء

ولما سمعها الشهيد الزبيري امتشى بها وهو الشاعر الكبير قال له لم تعدو ما في نفسي)

وليس من شك أن تلك الخلافات قد أعطت فرصة للملكين أن تتقوى أجنحتهم وكان هذا ما يخافه الإتحاد فيعمل ضده مع آخرين كانوا يشاركونه هذا التخوف وكان خروج الأخوة إبراهيم وقاسم والزبيري والنقيب “أمين ابوراس إلى جبل برط من اجل هذا الغرض.

وتم إقناع الزبيري من قبل القاضي عبد الرحمن الإرياني وعبد السلام صبرة بالعودة إلى “صنعاء فعاد الشهيد وبعد قليل عادوا جميعا.

(11)

وانتقل إلى مرحلة أخرى من مراحل حياته وهي الزيارة التي قام بها الرئيس “السلال إلى موسكو وكان “القاسم ” بطلب من الأخ طه مصطفى قد وافق أن يسافر معه كمستشار للوفدـ وكان ينزل حيث ينزل الرئيس وكان هو الذي كتب خطبة الرئيس التي أعجب بها القاضي عبد الرحمن وبسبب ثقافته الواسعة وما كان يطرح من نقاش أعجب به ىالرئيس “خروتشوف” اعجاباً دعاه أن يستضيفه في البقاء في موسكو لمدة يحدده واهدي له عدة كتب، ولعل شرح القاسم للعدالة الاجتماعية وهو المطلع على كتب مؤلفي الفكر الشيوعي هو وراء استضافته. واعتذر قاسم بلطف لما يتطلب منه الموقف اليمني من حضور. ولم تعجب نتائج هذه الرحلة الرئيس المصري وبالخص عن تزويد الجيش اليمني بالأسلحة إلى اليمن بدون موافقة الرئيس جمال وكان الجانب السوفييتي يصر على كلمة الجنوب العربي لكن القاسم تذكر لبيات السوفيتي اليمني اثر زيارة الأمير البدر الذي نص بوضوح على ذكر الجنوب اليمني فجلب البيان وإذا فيه الجنوب اليمني. ولقد تعاون القاسم مع القاضي الإرياني تعاونا كبيرا في إنجاح المؤتمر مما أغصب عليهما الجانب المصري

(12)

        وانتقل إلى محطة أخرى وهي عن نشأة منظمة الشباب التي أدت في النهاية إلى خروج وفد السلام، وذلك أن القيادة المصرية دعت إلى إقامة منظمة تساند الموقف المصري يعقد في مقر وزارة الإعلام، وتحاشوا دعوة اتحاد القوى الشعبية، ولما علمت قيادته بذلك قررت حضوره وكان مطروحا  اختيار هيئة إدارية أو تنفيذية فرشح الاتحاديون “القاسم” لمنصب  أمانتها وكان الأخ “محمد الرباعي” الأستاذ “مساوي أحمد”-المعروف بصاحب الخطاب بكلمة واحدة(نموت جميعا ويحيى الإمام )- وخاطب الجميع  بجملة واحدة:( سلموا أمركم للإخوان-ويقصد الاتحادين- ووكلوا الله).ونجح في إقناع الحاضرين  بفهم عميق وحجة قوية. واعترض البعض محتجين بكيف تقوم منظمة غير رسمية؟ وأي شرعية يمكن أن تكون لها؟ فأجاب قاسم : إنها الشرعية الثورية التي على أساسها تحاول إعادة بناء مجتمعنا كله.) وضجت القاعة بالتصفيق وانضم إلى الترشيح الأخ “صالح عنقاد وعملوا جميعا على ترشيح قاسم وتم لهم ذلك ولما رأى المصريون ما حصل في الاجتماع هذا صرفوا النظر عن الفكرة من الأساس وماتت.

لكنهم لم يستطيعوا القضاء على الفكرة نفسها فما لبث الشباب أن تداعوا إلى خلق منظمة أخرى تنطلق منهم غير معتمدة على أحد سوى على نفسها وأرادتها، تلك هي:منظمة الشباب الذي يعود فضل إنشائها إلى المرحوم “عبد الله بن أحمد الكبسي” الذي كان نافذ الرأي في الشباب وهو الذي  قاد المظاهرات في “صنعاء” ضد الإمام “أحمد”والذي قاد المظاهرات تحت شعار “لا أعياد ولا احتفالات، إلا بتنفيذ القرارات” وكان صديقا حميما لأخي إبراهيم وذات يوم اقترح الأخ “إبراهيم” على الأخ “عبد الله الكبسي” أثناء حوار بينهما في منزلنا في الصياد على تنظيم الشباب والاستفادة من حماسهم وطاقتهم لحماية الجمهورية والثوريِّة من مغبة الانحرافات الخطيرة التي ستؤدي بروح الجمهورية، وتقضي تماما على روحها وبدأ يعمل من أجلها. فتم العمل على ذلك

  بعد فترة قصيرة تلقى الأخ “إبراهيم” دعوة لحضور اجتماع حول تكوين منظمة للشباب فتم الاجتماع وتقرر انتخاب لجنة تحضيرية لكي تشرف على انتخاب لجنة تأسيسية وأسفر عن فوز الأخ محمد الرباعي أمينا عاما، وصالح عنقاد وعبد الجبار غنيمة. ولم يحضر ذلك الاجتماع الأخ المرحوم عبد الله الكبسي لمرضه) وفاز أيضا الأخ أمين هاشم عضوا، والأخ” أحمد السنيدار أمينا مساعدا. واكتملت الترتيبات ولم يبق سوى الإشهار الرسمي. وفي يوم 25صفر1384 /5يوليو1964 عقدت منظمة الشباب افتتاحها في جو جد متوتر وذهب قاسم والعقيد علي سيف والقاضي  الارياني إلى”العمري” الذي كان يهدد بضرب الحاضرين فأقنعه العقيد علي سيف بالحضور وقد افتتح الحفل الأخ محمد الرباعي بكلمة طويلة ورائعة وبحسب رأي الأخ أمين هاشم فالمنظمة كانت جهدا اتحاديا ولاشك)

  ثم تكونت لجنة مكونة من “محمد عبده نعمان” و “احمد مساوى” و “قاسم الوزير” لصياغة الخطاب الذي سيلقيه الأستاذ “محمد عبده نعمان” باسم القوى الوطنية في مؤتمر شراره. وفي الأحد 17 رجب 1384/22 نوفمبر 1964 عقد المؤتمر،وكان مؤتمر شراره بمثابة مهرجان كبير تمثَّل فيه الشعب اليمنى بمختلف فئاته وألقيت الخطب باسم الضباط الأحرار والمشايخ والمثقفين، ألقى الأستاذ “محمد عبده نعمان” خطاب القوى الوطنية وأجمع الخطباء على التنديد بالوضع والدعوة على الحفاظ على المضامين الثورية  والروح الجمهورية، وعلى إبراز الإرادة اليمنية واعتمادها في اتخاذ القرارات.

وازداد التوتر بين الشباب وخاصة اتحاد القوى الشعبية وبين المصرين إلى مطالبتهم الرئيس السلال بحبسهم لكن الرئيس لم يوافق، على أنه كان سيوافق في النهاية أو لم يوافق فسوف يتم الاعتقال باسمه مكرها. فلم يعد أمام اللجنة المركزية إلا أن تأخذ قرارات المؤتمر، وتغادر صنعاء في طريقها إلى الخارج، لتنقل رأي الجمهوريين الأحرار إلى العالم العربي ليضع حدا لسيل الدماء المهجورة.وخرج وفد السلام من “صنعاء” تلقاء “عدن” يحمل مهمة النظام ضد قوة الزناد في مهمة صعبة الغاية.

في عدن عقد الوفد مؤتمرا صحفيا أوضح مطالبه ولخصها في شعار (الماضي المظلم لا يعود، والحاضر الدامي لا يستقر والمستقبل يقرره الشعب) وطير برقيتين إلى كل من الملك فيصل والرئيس ناصر يطلب منهما الأذن بالوصول أليهما لعرض وجهة نظره في السلام العادل فرحب فيصل ولم يجب ناصر فطارا إلى جده وقابلهم الملك وعرضوا عليه وجهة نظرهم في السلام وخروج الجيش المصري وإيقاف المساعدات للملكيين  وعدم التدخل في اليمن وإقامة علاقات أخوية مع الجميع فوافقهم الملك، وكلما هو مصر عليه هو خروج الجيش المصري من اليمن ومنها طاروا إلى بيروت وعقدوا مؤتمرا صحفيا كان له ضجة كبري تداولته وسائل الأعلام العربية والدولية وهاجمته الصحف  الناصرية واتهمته بالشيوعية وسمت بعض الصحف قاسم بـالرئيس الروسي بولغانين لأنه قام بنشاط هائل مع الأخوين البعثيين منح الصلح و الياس الفرزلي ووالصحفي المشهور ميشال أبو جودة وغيرهم من اليساريين  وبعد أن طاف وفد السلام أو كما أطلقت عليه الصحافة اللبنانية بالقوة الثالثة توزع أعضاؤه في كل من عدن وجدة والرياض يسعون كلهم للسلام العادل وفق ذلك العنوان الماضي المظلم لا يعود والحاضر الدامي لا يستقر والمستقبل يقرره الشعب في مؤتمر يمني شامل بعيد من أي نفوذ خارجي مهما كان شكله أو نوعه وكان ممثلوه يحضرون أي مؤتمر يعقد في الداخل ويطرحون رؤيتهم للحل وكان هذا العنوان يلقى قبولاً حسناً في الأوساط السياسية والإعلامية.

(13)

وفي الداخل عقد مؤتمر خمر لمعالجة الوضع المتوتر، ولم ينجح بل كان تفشيله سببا لفرار كثير من المشايخ إلى السعودية بما فيهم أعضاء بارزين في لجان المؤتمر مثل “حسين المقدمي”  و”محمد الفسيل” الذين وصلا إلى بيروت لعقد مؤتمر صحفي يوضحان هدف ما أطلقت عليه الصحافة اللبنانية “الجمهوريين المنشقين ولم يعدو ما كان يطرحه وفد السلام وبشكل قاس ضد المصريين والرئيس السلال وعادا إلى الطائف ليلتحقا بالجمهوريين المنشقين الذين كانوا قد وصلوا إلى الطائف  وألتقاهم الأخوان إبراهيم وقاسم وتم التفاهم معهم على عقد اتفاقية الطائف التي دعت إلى قيام دولة مؤقتة تتشكل من حكومة من الشباب المثقف ومن برلمان يمثل فيه كل ألوان الطيف اليمني يعمل على عقد مؤتمر يمني شامل بعيد عن أي نفوذ خارجي مهما كان شكله ونوعه وخرج المؤتمر بميثاق الطائف الذي كان يعتبر أيضا المخرج الوحيد للمصريين  والسعوديين من مأزقيهما وبموافقة الملكيين، على الدولة من الناحية القانونية لا الواقعية ألغيت الملكية. واستقبلت ميثاق الطائف اليمني بموافقة المئات من اليمنيين من أهمهم الأستاذ أحمد محمد نعمان وابنه محمد الذي وصل إلى جدة حاملا رسالة من والده الأستاذ نعمان والقاضي الإرياني والأستاذ العيني يعلنون فيها تأييدهم لاتفاقية الطائف[1]. وفي خلال ذلك كان أخي قاسم يشارك في كل اجتماع ويقوم بدور كبير في إصلاح أي خلاف بين المؤتمرين الشخصية أو في المصطلحات القانونية والتشريعية باعتباره الأوسع ثقافة إسلامية ويسارية ويمينية.

وكاد المؤتمر أن ينجح لولا عاملين اثنين الأول هو وصول الرئيس ناصر إلى جدة وصدور البيان الداعي إلى اجتماع الجمهوريين والملكيين في مؤتمر حرض الأمر الذي أعاد للملكيين وجودا بعد أن كان قد الغي في مؤتمر الطائف. والثاني عدم موافقة الدولتين المصرية والسعودية والجناح الجمهوري الحاكم على قيام المؤتمر اليمني المستقل، وكان من أسباب عدم الموافقة عليه نهوض اليسار اليمني وتألقه والذي تمثل بقيادة المرحوم …  الذي دافع عن صنعاء قي حصار صنعاء فأحسن الدفاع، وكان الخوف من شعبيته أن اختلفت القيادة السياسية معه ودار القتال بينهما انتهت بمصرعه. وباستشهاده تفرد الجناح اليميني بالحكم.

الاستاذ القاسم يلقي إحدى محاضراته

ومن خلال هذا الجناح اطمأنت المملكة السعودية إليه فكانت المصالحة على أن يدمج أشخاص ملكيون في الحكم وهذا ماتم. وتشكلت الوزارة الخليط وطلبت صنعاء من اتحاد القوى الشعبية المشاركة في الحكم في المجلس الوزاري وفي الحكومة، ولكنه رفض أي مشاركة تنبثق من “الغرف الرسمية داخلية وخارجية” وأصر على موقفه بأنه لن يشارك إلا من خلال مؤتمر شعبي حر مستقل تنبثق عنه حكومة جمهورية دستورية مستقلة.

(14)

بخروج الجيش المصري من اليمن وباعتراف السعودية ساد السلام  ربوع اليمن إلا من مناطق هنا وهناك تلاشت تباعا، وبذلك تحقق للاتحاد هدف من أهدافه ولكن قيام مؤتمر يمني شامل حر ومستقل وبعيد عن أي نفوذ خارجي لم يتحقق، ولو تحقق وخاصة بعد انهيار الملكية لما شهدت الحكومة ذلك الصراع المرير بداء بتولي القاضي عبد الرحمن رئاسة المجلس الجمهوري بغد انقلاب عسكري وقبلي على الرئيس السلال، وما لبث الرئيس الإرياني أن وجد نفسه  “حكماً” لا “حاكما” يقضي معظم وقته يصلح ما بين المتخاصمين، ومن يقرا مذكراته يخرج منها بانطباع كامل بأنه كان ضحية من جاء به. وأخيرا أطيح به من قبل هؤلاء الذين جاءوا به بتحريض ودعم مالي من السعودية وجاء الرئيس “إبراهيم الحمدي بتأييد من المملكة لكنه حاول التخلص منها بالتوجه جنوبا من أجل الوحدة بين الشطرين فلقي مصرعه على ما هو معروف وبعد أن حظي بشعبية لم يحظ بها رئيس جمهوري وخلف الرئيس الغشمي ولم يمهل فلقي مصرعه، وخلفه الرئيس صالح بدعم قوي من المملكة ومن الأمريكيين وعرف عهده باغتيال خصومه من ناحية وبكرمه الذي اسكت الأفواه عن مظالمه. واستمر حكمه طويلا، وفي أعوامه الأخيرة قامت حركة أنصارالله كرد فعل على النفوذ الوهابي فدخلت السعودية وصالح في حروب ستة خرج منها منتصرا، ثم زحف جنوبا فدخل صنعاء وتعز وعدن، على أن دول الجوار رأت في ذلك خطرا ماحقا فدعمت خصوم أنصار الله دعما قويا ودخلت في حرب ضروس لمدة سبع سنوات لم تحرز السعودية وحلفائها إلا انفصال الجنوب الذي تمزق بين قوى مختلفة هي انعكاس للممولين الكبار.

أخرج من هذا الاستعراض بأن قيام حكومة يمنية منبثقة من مؤتمر وطني شامل بعيد عن أي نفوذ خارجي كان الأسلم والأصح. لأن النفوذ الخارجي الذي كان يقيم الرؤساء ويخلعهم نتيجة استفراد جناح وتم إقصاء بقية الأجنحة ولأن ن رؤساء قبائل معروفة استغلت السلطة لمصلحتها، ولو كانت الحكومات قد انبثقت من قاعدة عريضة لما تمكن الخارج من عزل رئيس وقتل أخر ونفي ثالث بدون أن يجد من يقف ضده.

(15)

في ظل السلام قرر الاتحاديون العمل لدعم جمهورية شعبية عن طريق نصح الحاكم بالرسائل والكتب والمقابلات الشخصية والتوجه نحو الشعب نفسه كما فعل المرحوم عباس بن علي الوزير الذي ترك صنعاء وتوجه إلى بني ظبيان فشق فيها الطرق وبنا مدرسه وأصلح بين أهلها وبينهم البين ثم انتقل إلى خولان فشق طريقا في الجبل للسيارات وبنا له بيتا ومسجدا هناك وبقي يرشد الناس ويصلح بين الناس وانتقل إلى ربه وهو يصلح بين بني ظبيان والسهمان

وبقي إبراهيم يؤلف الكتب يشرح فيها مبادئ اتحاد القوي الشعبية ويحاضر وكذلك كان القاسم يكتب المقالات ويحاضر في المراكز ولم يقتصرا على ما يجري في اليمن وإنما مد بصره إلى ما يجري في العالم الإسلامي من خطوب، كتب القاسم فعبر عن مأساة فلسطين” بقصيدة “صوت  في المناحة(ديون مجموعات شعرية143) وعن “البوسنة والهرسك مقاطع من ملحمة سراييفو” (ص174) أشعارا باكية نائحة لعلمهما أن ما يمس أي قطر إسلامي هو نتيجة خطة عامة، فالدفاع عن هذه أو ذاك هو دفاع عن الكل بناء على القاعدة القرآنية {إن هذه أمتكم امة واحدة}.

الاستاذ القاسم مع شقيقه المفكر الإسلامي إبراهيم بن علي الوزير

بقي القاسم يناضل عن القيم الناجحة بكل ما يملك من مواهب شعرا-وهو الشاعر الكبير- ونثرا وهو الكاتب البليغ، ولعل من يقرأ كتابه “حرث في حقول المعرفة” قراءة متبصرة يدرك انه كتب كتاباً مماثلا ً لكتب “رسو””العقد الاجتماعي” الذي كان أحد الأسباب في قيام الثورة الفرنسية.

ومن يقرا ديوانه “مجموعات شعرية”لا يطلع على تحليقه شعره العالي من الناحية الفنية، ولا من ناحية انسجام الكلمات مع بعضها بعضا كلحن ليس فيه نشاز،وإنما يغوص في الأوجاع الأخوية القريبة والبعيدة وكأن كل وجع جرحا في وجدانه فيبكي رحيل أهله وأصدقائه اليمنيين ومن شاركوه في المسيرة كقصيدته في مرثاه الشاعر الكبير الاتحادي علي عبد العزيز نصر”حييت قبرك عن بعد( ص174)و قصيدته“أحزان الشفق” في مرثاة رفيق العمر أخاء وجهادا ابن عمه “أحمد بن محمد الوزير”، (ص188).وكم كان حزنه على شاب يتيم صارع الحياة ولم يثنه عسر الحياة عن الكد والجهاد فدرس وتخرج،وبدأت الحياة تبتسم له،فتقدم بطلب يد شريكة حياته وفجأة هجم عليه السرطان فأرداه شهيدا، فحزن الشاعر عليه حزنا بليغا عبر عن أحزانه عليه بقصيدته الباكية “سلام على علي”(ص196) كذلك أحس بسهم جارح عندما سمع بوفاة ابن بعض الرفاق تباعا إلى رحمة الله رثاهم حزينا بقصيدة الفراق الحزين (ص211 وما بعدها) وكذلك قصيدته سلام على طه ، (ص195) ، كما بكى العلامة “أحمد بن مُحمد الوزير أبرز رواد التنوير الأوائل بقصيدة سماها العلم الذي انطوى (ص319) وقصيدته جئت بالدمع اعتذر بكى فيها صديقه  النبيل الشاعر”أحمد بن علي زبارة (ص 225) وكان مصابه الأليم بالاتحادي الخلوق “أحمد يحيى المداني موجعا فعبر عن ذلك عن ذلك بقصيدته “الفقيد الذي لم يفقد.( ص 231)تلك كانت مشاعره نحو رفاقه وبني عمه رفاق الجهاد

ولقد ابتلي قلبه الحنون بحادثتين أصمت فؤاده الأولى عندما سمح له بالخروج من السجن إلى الحديدة للمعالجة فزار مقبرة الصديقة ليزور قبر شقيقته “أمة الخالق” فسكب على ضريحها قلبا سائلا وعينا باكية سماها على قبرها(ص441) وليست هذه الأحزان الذي انصبت على قلبه الحنون كافية بأن تنهكه ـ فقد تلقى بعد تلك سهما أصاب قلبه فأدماه، وذلك عندما تلقى-كان بعيدا عنها- خبر مصرع أبنته المثقفة وهي في ريعان الشباب وعلى وشك أن تتزوج في حادث صدام في طريق المدينة المنورة فاعتصم بالله وصبر صبر الفرسان وفي قلبه نواح مكتوم  وجرح يصيح وعبر عن حزنه بقصيدتين الأولى كتابات على ضريح سمية: نزيف قلب(ص265) والثانية كتابات على ضريح سمية: تقرير عن حالة نفسية(289)

كل تلك الأحزان اليمنية أصابت قلبا صبورا صامدا، ولكن أحزانه لم تتوقف عند أهله ورفاقه، بل مد بصره إلى الأفق الإسلامي فيرثي رجاله الأوفياء ويشاركهم أحزانهم، وعندما استشهدت حرم الأستاذ المؤمن “عصام العطار”بيد المخابرات السورية وكانت من التقوى على درجة عظيمة شارك زوجها المجاهد المؤمن بقصيدة صدى الرحيل (ص251)  وقصيدته “وغاب فارس عن الميدان” يرثي فيها المفكر الإسلامي المصري “محمد المسماري(ص297). وكقصيدته “صلاة الشعر” في رثاء الأستاذ الشاعر المعروف”عمر الأميري”(ص310) وكذلك قصيدة سلام عليك يرثي بها العلامة الكبير “خالد محمد خالد”(ص320) وانظر أيضا قصيدته “أوليس غير الحزن؟” في رثاء صديقه “هارون المجددي(ص337) وانظر قصيدته في ذكرى عبد العزيز الرفاعي(ص355). وكذلك قصيدته في رثاء الدكتور “معروف الدواليبي”(ص366)

كل تلك المصائب كانت تنزل عليه بين الحين والأخر فيتلقاها بقلب صبور والذي لفت نظري أنها على كثرتها تتناول موضوعا واحد هو الرثاء إلا أن لكل مرثاه معان لم تتكرر في مرثاة أخرى مما يعني أننا أمام موهبة لا تفنى معانيها ولا تتوقف إبداعها.

وقد اخترت عمدا الإشارة إلى مراثيه بالتحديد لا من أجل أن احدد ملامح شخصيته العامة، ولكن من أجل أن أصل إلى الحديث عن إنسانيته والتي عبر عنها في أكثر من قصيدة، ولعل قصيدته “عنواني” تكشف رؤيته الأنانية ومن الخير أن أسجلها هنا

قالوا: تغربت مختارا فقلت لهم            كنتُ “المُغَرب” في أهلي وأوطاني

 قالوا: عجبنا تركت الدار آهلةً           فقلت: لكن بقطعان وذئبان

 قالوا: ومنصبك المرموق؟ قلت لهم:     حمل من الزور في أكناف طغيان

قالوا وجاه على النعماء سابغة؟          فقلت: من تحتها آلام نيران

قالوا: فأهلك؟ قلت: الله يكلؤهم           قالوا: ونفسك؟ قلت: الله يرعاني

قالوا: وماذا إذاً؟ قلت” اتركوا رجلاً                من غير أقطاب ذاك المحفل العاني

إني أهاجر لاخوفاً ولا طمعاً              لكن حفاظاً على نفسي كانسان

أصيح في الفوات الربد علَ صدى       يعيد رشداً لرعيان وقطعان

 لا تلتمسني عند القوم مثلهم و          ألقاك في ساحة الجُلّى وتلقاني

 قالوا ” وعنوانك الآتي. فقلت لهم:        الحق حيث يكون الحق عنواني[2]

ولابد لي من الطواف عن إنسانية الإنسان في قصيدته”الرصيف التائه”وهي من الشعر الحديث المدور الذي يجيده إجادة تامة.

                مشيت في الشارع تائها

بحث عن مطارق الأبواب

                وقفت عند كل باب

                                يلا يد تدق

                فتشت في الأسواق

                                عن الذين لايطففون الكيل والميزان

                أمسكت كل عابر

                هززته محاولا إبلاغه السؤال

هز إلي رأسه المكدود … هز رأسه بلا جواب

وواصل الذهاب والإياب

 وحين حدَقت وجته بلا لسان

 أغمضت غينيّ لكي أكون قادرا على المسير

 سددت أذنيَّ لكي أكون قادرا على السماع

وكي أكون قادرا على الكلام

 طويت- خلف أطباق فمي- لساني

ورحت ذاهبا وآيبا أعذب الرصيف

أركض في صفوفهم:

أبحث مثله عن الإنسان

في الإنسان[3]

        هذا هو القاسم بن علي الإنسان كما عرف نفسه والسياسي كما عرفته وهذا هو الشعر الذي قل أن يرتفع إليها الشعراء إلا في بين الحين والحين كما قال شاعر بليغ

كلما ضاقت البرية ألقت            عبقرياً أو شاعراً أونبيا

أما المفكر فلم أتعرض له تاركا المجال لأخوة كرام تولوا ولعلي أعود إلى الوقوف مع ديوانه الذي أعتقد أن من لم يقرأه لن يعرف القاسم والشاعر والمفكر.

        ولقد مضى إلى ربه سعيدا كما دعا له والده في لحظة قدومه إلى الدنيا ومات شهيدا حميدا وتركن اردد مرة أخرى

        مال أحبابه خليلاً خليلاً          وتولى اللدات إلا قليلا

        نسلوا أمس من غبار الليالي     ومضى وحده يحث الرحيلا

وإلى أن ألقاك وتلقاني عليك السلام ورحمته وبركاته.

اقرأ أيضا:الأستاذ النعيمي يكتب عن الضوء الذي لا ينطفئ

رابط العدد الخاص لصحيفة الشورى

هذه المادة والتي تعتبر وثيقة تاريخية هامة نشرت في العدد الخاص من صحيفة الشورى والتي صدرت بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة الاستاذ القاسم بن علي الوزير يوم الثلاثاء20مايو2025


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى