كتابات فكرية

المهندس عبدالعزيز محمد سعيد الأغبري .. الإنسان والمناضل

المهندس عبدالعزيز محمد سعيد الأغبري .. الإنسان والمناضل

  • قادري أحمد حيدر

الأحد13أبريل2025_

بدء الحديث عن المهندس والصديق عبدالعزيز محمد سعيد الاغبري، بالإنسان والمناضل، هو ما يليق به ويستحقه عن جدارة، فهو قبل كل صفة ومعنى، إنسان فيه شرف ونبالة وعمق المعنى الإنساني، لأن من لا يمتلك صفة الإنسان وروح الإنسانية العميقة في وجدانه وعقله، لا يمكن أن يكون أي شيء له معنى في الحياة، ناهيك عن أن يكون مناضلاً. لقد تم ابتذال كلمة ومعنى ومفهوم “المناضل” من كثرة استخدامها في غير مكانها، حتى صار بعض الفاسدين والمستبدين والذين بدون أخلاق، في عداد “المناضلين”؛ ومن المهم اليوم إعادة الاعتبار لكلمة ومعنى ومفهوم “المناضل”، وتخليص الكلمة مما علق بها من ادران ابتذال وضعها في غير مكانها، ولمن لا يستحقها، وهي الملاحظة الصادقة التي دائماً ما يرددها ويعلق عليها ناقداً وساخراً الكاتب والشاعر المبدع، والمناضل، عبدالكريم الرازحي.

إن عزيز، كما يحب أن ندعوه ونسميه نحن أصدقاؤه ورفاقه هو ذلكم الإنسان والمناضل بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

طيلة نصف قرن لم أسمعه يتحدث عن نفسه وأدواره السياسية والحزبية والوطنية، بل هو حيي ويخجل من أن تمتدحه بكلام يعنيه، ويوصفه حقيقة كما هو، ويستحقه عن جدارة.

 هكذا هو عزيز في كل حين، وما يزال يحمل في أعماق ذاته كرامه كبرياء الشجعان.

عزيز، كصديق وإنسان، وقائد سياسي ، من طراز مغاير.. مؤتلف مع القيم الكبرى، نوعية نادرة من الأصدقاء فصيلة دمهم تهب نفسها للجميع بدون استثناء وبلا حدود..

 هو/ هم متعة للروح، وتاج على رأس الصداقة.

عزيز – وأمثاله – واحد من ذلكم النوع الفريد من الأصدقاء.. هو كتاب تحتاج للعودة إليه مراراً للإستئناس به، ولاستشارته حول معنى الصداقة باعتبارها قابلة للمحبة والتغيير.. صداقة وجدت لتعيش، لأنها حاملة لشروط استمراريتها في داخلها، لم ولن تؤثر عليها عاديات الزمن، لأن لا مصلحة شخصية ولا مادية من ورائها، سوى تعميم محبة الإنسان. 

 عزيز من الأصدقاء الذين توصف صداقتهم أنها عابرة للزمن وهم من يطلق عليهم “الملهمون”، لأنهم لم يتصالحوا مع ثقافة النرجسية الفاسدة، والنجومية الإعلامية الزائلة.

هناك أسماء أصدقاء/ رفاق عشت معهم أو اقتربت منهم لفترة قصيرة من الزمن، وجمعتك بهم علاقة سياسية وفكرية وحزبية مشتركة لفترة تطول أو تقصر، وتبقى صورهم محفورة في ذاكرة العقل والقلب.. تجدهم يعودون إليك دون استئذان وتلتقي بهم في كل حين عبر شريط ذكرى وذاكرة لا تبلى ولا تمحوها مسافات الزمن، بل هي تتعتق أكثر في قاع الذاكرة مقتحمة أوقات حياتك الخاصة والعامة، بتفاصيل حياتية يومية تركت أثرها فيك رغماً عنك، وتذكرك ببعض ما يحدث اليوم.

 لا علاقة لسيل هذه الذكريات بمكانة هذه الأسماء وأدوارها صغرت أو كبرت في حياة المجتمع والبلاد، لأن ما يبقى من كل ذلك في الذهن والنفس، وفي أعماق ذاكرة الوجدان، إنما هي بعض التفاصيل ، بل وتفاصيل التفاصيل الحياتية الإنسانية اليومية والعادية، التي لا تكاد ترى. وما أكثر وأجمل مثل هذه الذكريات الصغيرة والنبيلة مع عزيز الإنسان.

هناك أسماء كثيرة وكبيرة مرت في حياتك وتعرفت عليها: من قيادات الأحزاب، ومن رجال الدولة، ومن رجال الأعمال، وبعضهم تتردد أصداء أسمائهم النجومية على شاشات الإعلام في مناسبات كثيرة، أسماء تبوأت – بعضهم – مواقع مسؤولية حكومية، وزراء رؤساء وزراء، قيادات عسكرية، وفي مواقع عليا في الدولة.. على أنه، ورغم ارتباطك ببعضهم بعلاقات معينة مختلفة سياسية واجتماعية وشخصية، لا تجد نفسك وأنت تذهب باتجاه الأمام نحو الزمن الآتي، تتذكر العديد منهم إلا بصعوبة وكأنه النسيان  الإنساني، يأبى إلا أن يحذفها من خارطة شريط الذاكرة..  نسيان يطاردك ويلاحقك ليفرض نفسه على ذاكرة عقلك ليمحوها أو يجعلها في أصغر حيز من مساحة الذاكرة، مساحة تتضاءل لتجعل معه حالة التذكر عصية على الاستعادة. ذلك أن ما يبقى في الذاكرة هو الوجداني في عمقه الحياتي الإنساني، ما يبقى هو البساطة وروح التواضع وكرامة الجمال الإنساني القابع في داخل مكنون جوهر هذا الإنسان أو ذاك.

 وعزيز، من هذا الجمع الكريم والنبيل.

 قبل نصف قرن تعرفت على السياسي والمثقف/ المهندس، عبدالعزيز محمد سعيد الأغبري، واحد من الأسماء والرموز القيادية التي تركت أثراً طيباً في نفوس جميع من عرفوه.

 بداية علاقتي به جاءت وكانت بصور عابرة في منزل أحد الأصدقاء/ الرفاق، المبدعين الكبار، وهو في حالة اختفاء، ثم عرفته مباشرة بعد ذلك كمسؤول/ أو سكرتير أول “لحزب الطليعة الشعبة”, في محافظة الحديدة حين قدم إليها شبه متخف، حين كنت أعود إلى الحديدة في العطلة الجامعية لأجد نفسي ضمن قيادة المنظمة التي كنت فيها سابقاً والذي صار هو المسؤول الأول فيها، بعد د. سلطان الصريمي.

وكان سكنه في “عشة”، من القش لا سقف لها في ذلك الجحيم الفوار من الحر الشديد في صيف الحديدة الطويل.

عشة هي سكنه الدائم الذي اختاره بنفسه.

عبدالعزيز شخصية نادرة على مستوى القيمة الأخلاقية والإنسانية والنضالية. إنسان جاد وصادق وصارم على مستوى الأداء الحزبي، كان على اطلاع عميق واسع بالفكر الماركسي دون ادعاء مقارنة بالكثيرين – في ذلك الحين – وكان يبذل جهداً مضاعفاً ليكون كذلك؛ شخصية قيادية تجمع بين صفة السياسي والمثقف بجدارة، وهو ما تكتشفه وأنت تحاوره حول قضايا معرفية وفكرية إشكالية وسياسية عميقة.

 شخصية عقلانية موضوعية وواقعية لا مجال للرومانسيات الفائضة عن الحاجة ولا مكان للغموض النظري المفتعل في قاموسه الفكري والسياسي والثقافي واللغوي، واضح ومحدد ودقيق في حديثه، يذهب للسؤال والمعنى حتى نهايتهما، فضلاً عن سرعة بديهيته، كما يتميز بعدم سكوته عن الخطأ وعلى الضيم.

عبدالعزيز محمد سعيد “عزيز”، يجمع بين الفكر والفعل بقوة، وممارساته اليومية تدل عليه، وتؤكد صدق أقواله، لا يعيش حالة انفصام المثقف “الثورجي”، الذي يتعاطى بروحية وعقلية ترفية مع الفكر ومع السياسة؛ الفكر في وعيه وعقله وفي منطق تفكيره قضية ومسؤولية، وللفكر لديه دور تفسيري وتغييري في الوقت نفسه.. هذا ما كان يقوله سلوكه اليومي/ العملي وهو متوج بصمت الكلام الجميل، الصمت الذي يقول كل شيء له معنى، دون ضجيج البراميل الفارغة.

 كان من رواد الانتقال إلى الفكر الاشتراكي العلمي في تنظيم “حزب البعث العربي الاشتراكي” من بداية النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، مع جملة من الأسماء الرواد في هذا الاتجاه.

 ما زلت أتذكر مرة كيف صوب سهام نقده ومبكراً للدور التدميري الاستبدادي للطاغية حافظ الأسد، في قلب تجربة البعث، كان ذلك في دردشة حوارية في “عشته”, في الحديدة، حول انقلاب حافظ الأسد، على قيادة وتاريخ حزب البعث؛ حافظ الأسد، الذي أوصل سوريا إلى هذا المآل الذي تعيشه اليوم، ولم أسمع منه كلمة مديح فارغ حول ما قام به حافظ الأسد، كان مثل زرقاء اليمامة يرى البعيد في كل شيء.

عزيز لا يناقش إلا في ما يعرف ويفهم، أو يبقى صامتاً مستمعاً، هذا شأن الكبار الذين يحترمون الفكرة، ويجلون معنى الحوار، ويقدرون الآخر الذي يقف أمامهم.

من أجمل عاداته الإنصات لمن يتحدث معه، دون أن يتجاهل أو ينسى محاورته – الآخر-  في تفاصيل تفاصيل ما يقوله، اتفاقاً واختلافاً، من خلال حوار ونقد الحجة بالحجة، والمحاورة الأدبية العقلية المفتوحة، دون تعصب. هكذا عرفته، اتفقت معه واختلفت، على أنه في كل الحالات يكون جاهزاً وفي قمة الاستعداد للدفاع عن رأيه بلا حدود.. هكذا عرفته وأحببته كصديق ومناضل وإنسان قبل كل شيء.

 الله ما أنبلك يا عزيز، أيها العزيز والكبير، في زمن الأقزام .. زمن فقدان العزة والكرامة الشخصية والوطنية، زمن الانهيارات الكبرى في القيم.

 مثل هذه الأسماء هم من ينطبق عليهم قول الحلاج:

والله ما طلعت شمس ولا غربت

إلا وحبك مقروناً بأنفاسي

ولا خلوت إلى قوم أحدثهم

إلا وأنت حديثي بين جلاسي.

فما أكثر حضورك أيها العزيز، عبدالعزيز، في جلسات رفاقك الودية.

إنه وأمثاله حضور إنساني مضاف في الحضور.. هم / هو شيء، من روح الصداقة.

حتى وأنت لا تتواصل معهم/ معه، إلا في المناسبات، يبقون يحتلون المساحة الأكبر والأعمق في ذاكرة الروح.. يحتلون كل مناسبات وقتك وأيام حياتك، هذا هو عزيز ومثله من الأصدقاء هم من يبقون جذور سنديانية راسخة في ذاكرة الروح.. ذاكرة الصداقة.

في تواصلي قبل عدة أيام مع الصديق والأستاذ الجليل والقدير، عبدالرحمن غالب الفقيه الجبلي/ البناء، وهو من أشرف وأنبل قيادات الحركة الوطنية اليمنية منذ الخمسينيات قال: عن عزيز – والكلام لغالب – فوجئت قبل عقود طويلة، وأنا أبني بيتي الذي كان حينها في منطقة جغرافية نائية من مدينة صنعاء، بالرفيق والصديق عبدالعزيز محمد سعيد، ووجدته وبالصدفة يسكن بجوار المسكن الذي ابنيه، وهو مسكن اقرب لما يمكنني تسميته  بالكشك أو العشة، هذا في صنعاء وهو نفسه ما عرفته عنه مباشرة في الحديدة، وهو المهندس القادم من أوروبا الشرقية، ويحمل شهادة الهندسة في الالكترونيات.

 مرة سلمني الحزب سكينا صغيرة أتوماتيكية للدفاع عن النفس في فترة اشتداد الحالة الأمنية، بعد تعرض الصديق والرفيق المخفي قسرياً على محمد خان، لحالة اعتداء مبرح من أحد الضباط، وكنا معا ضمن “قيادة الفرقة الطلابية”، وما حصل هو أنني لا أعرف كيف أضعت تلك السكين لأنني لم أحملها يوماً معي، ولا أعرف كيف أتعامل مع هكذا أدوات، فضاعت مني تلك العهدة الثمينة، فانُتدبَ القائد الحزبي عبدالعزيز للمجيء إلينا  في قيادة الفرقة الطلابية، ليبحث معنا بعض الأمور الحزبية والوطنية، ومنها التحقيق في كيف أضعت السكين، وهي عهدة أمانة حزبية، الحفاظ عليها جزء من الحفاظ على النفس، وسمعت من عزيز كلاماً نقدياً تنظيمياً، حول ذلك التفريط بالسكين/ العهدة، جعلني لا أقبل بعدها أي عهدة من هذا النوع.

التحق عزيز بخلايا حزب البعث في عدن بين عامي ٦١- ١٩٦٢م، تقريباً، وخرج من عدن للدراسة في سوريا، ومن ثم إلى جمهورية المجر  بجواز عماني ما يزال يحتفظ به،، وهو من الطلاب الذين انتدبوا من طلاب الخارج لحضور أعمال مؤتمر “الإتحاد العام للطلبة اليمنيين” في صنعاء، والذي عقد في “نادي الضباط” عام، ١٩٦٩م، والذي ألقى فيه الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني، كلمته الشهيرة التي قال فيها:

“الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة، وهي مرفوضة سواء جاءت بقرون الشيطان، أو بمسوح الرهبان”.

وكان عبدالعزيز في حينه نائب أمين عام الاتحاد العام للطلبة اليمنيين، للشؤون الخارجية.

 عاش عزيز في قلب قضايا الوطن والمجتمع والحزب، في مساره التطوري والتحولي كله، ولم يبذل أي جهد للحفاظ على موقعه في قيادة الحزب الاشتراكي، ومع أول تجربة في هذا الاتجاه فضل أن يكون خارج  لعبة اللجنة المركزية طواعية، وهو المركز/ الموقع الذي كان يتهافت ويتمسك به، بل ويسعى إليه الكثيرين، ولذلك عاش كبيرا  في قلب الوطن والحزب وفي ذاكرة الأصدقاء وبعيداً عن الأضواء الإعلامية والنجومية السياسية.

الصداقة عند عزيز ليست كبرياء جوفاء بين الأصدقاء، ولكنها صداقة لا تقبل جرح الأحاسيس والمشاعر بين لأصدقاء، أو الضغط على أوتار أعصاب الصداقة، بما يخرجها عن كونها صداقة لتتحول إلى ضدها.

سلام الله عليك أيها العزيز .. سلام الله عليك أيها القائد النبيل/ الإنسان، والمناضل والصديق.      

اقرأ أيضا للكاتب :قادري أحمد حيدر يكتب عن الكتابة النقدية في الزمن القاتل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى