اخبار محليةثقافة وسياحة

الأغبري يكتب عن الشاعر القاضي الذي غادر الدنيا بعد انزوائه وتصوفه لسنوات

الأغبري يكتب عن الشاعر القاضي الذي غادر الدنيا بعد انزوائه وتصوفه لسنوات

الاربعاء5مارس2025_   توفي فجر الاثنين في أحد مستشفيات مدينة عدن جنوبي اليمن، الشاعر عبد الله قاضي (1955-2025)، بعد تجربة إبداعية تمثل منعطفا إنسانيا مختلفا في مسيرة الأدب اليمني المعاصر سطرها هذا الشاعر، الذي اختار الانزواء والابتعاد عن الأضواء والضوضاء حد الزهد في نشر قصائده؛ ليمثل في تصوفه مرحلة متقدمة في علاقة الحياة بالإبداع والعكس؛ بل لعله أعاد الاعتبار للتصوف، بأن عاشه زاهدا في كل شيء.

حدسه الشفيف مكنه من رؤية ما لم يره غيره؛ فقرر في غمره تصوفه الانزواء والعزوف عن التفاصيل والابتعاد عن العناوين؛ فلم يهتم بما يهتم به الكثيرون من مظاهر ومجاملات وعلاقات تحت مبرر الحضور، فآثر الابتعاد والاستمرار في كتابة القصيدة، التي كان يقٍرأها أصدقاؤه ممن كان يلتقيهم؛ وبعض هؤلاء اجتهدوا وجمعوا بعضها، ونشروها في ديوان باسم «ندى العشب الجاف».

بقيت علاقته الإنسانية مع الآخرين من زملائه وغيرهم في أرفع منزله من النقاء والمحبة، ممسكا بما تبقى لديه من إنسان أفلته الكثير، بينما ظل قاضي ممسكا به متسلحا بحماه لعقود من التشرد الذي لا يمكن أن نحمله مسؤوليته؛ لكن المرض لم يمهله، والمستشفيات لم ترحمه؛ فكان الموت دربه الأخير بعد عمر من التشرد والانزواء والتعبير الجلي عن الجمال؛ لقد كانت حياته تعبيرا جليا نقيا عن إنسانية؛ الإنسان في عظمة التجاهل والتغافل والترفع والبحث عن الذات المسكونة بالحب.

«رحل الشاعر عبد الله قاضي بعد عمر من المكابدة والتشرد في طريق اختار بعضه بنفسه، ووجد نفسه في بعضه الآخر. أحد أبرز من كتب قصيدة النثر في اليمن، عاش في العقدين الأخيرين حياة زهد وانكفاء بعد أن ملأ أيامنا وسهراتنا ومجالسنا الأدبية صخبا وحياة»، يقول الروائي علي المقري.

عُرف قاضي بنهمه الشديد للقراءة، وهو اللغوي المتمكن، فصقلت القراءة رؤيته وبرت عافية روحه، فظل مرتبطا بالكتاب والكتابة، كثنائية لا يمكن لأي مبدع أن يكون إنسانا حقيقيا بدونهما؛ فالكِتاب نافذة لمعرفة العالم وقبل ذلك الروح، والكتابة قناة للوجود والتعبير عنه.

ينتمي عبد الله قاضي إلى الجيل المؤسس لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ويمثل جيله أحد أهم أجيال الأدب اليمني المعاصر.

الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين نعته، وقالت «إن اليمن خسر برحيل الشاعر عبد الله القاضي واحدا من أهم أساطين القصيدة اليمنية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي»، منوهة «بتميزه النقدي واللغوي، كنتيجة طبيعية لقراءاته النوعية المتواترة على مدى عمره الإبداعي». وأشار البيان «إلى ما تمتع به الشاعر الراحل من زهد، لدرجة لم يفكر في نشر نتاجه الإبداعي، لولا إسهام بعض أصدقائه في جمع بعض قصائده، ونشرها في ديوان بعنوان «ندى العشب الجاف» الذي يعكس عظمة تجربته الإبداعية».

وتطرق إلى «عمل الراحل باحثا في مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء، وعلاقته الإنسانية الرفيعة بعدد كبير من مبدعي اليمن، وحرصه على الابتعاد عن الأضواء، وتصوفه الذي رفع من منزلته الإنسانية كثيرا».

عبدالباري طاهر رئيس الهيئة العامة اليمنية للكتاب السابق، اعتبره «من أهم وأروع مبدعي القصيدة الحديثة، حيث كان يكتب قصيدته بدم القلب، وماء الضمير، ويمتلك بصر نبي، وبصيرة زرقاء اليمامة. وأضاف أن «ديوانه الذي لا يضم إلا النزر اليسير من شعره أنضج ما أنتجته الشعرية الحديثة في خاتمة القرن العشرين في اليمن».

«شاعر لا يحب الظهور. زاهد في الصورة، وبعيد عن الأضواء. عبد الله قاضي فقيه لغوي، وعالم صوفي في أدبه وسلوكه ورؤاه. غاب عن الأضواء، ولكن غيابه حضور أبدي وخالد. يقول طاهر «قصائد ديوانه «ندى العشب الجاف» لم يلق الاهتمام والقراءة والنقد. ويضيف «الديوان شاهد ملكة شعرية قلَّ نضيرها. فعبد الله أحمد قاضي شاعر متعدد المواهب، يمتلك أدوات المعرفة والإبداع والشعر. واسع الخيال والاطلاع. لغته العربية مكينة ومؤصلة، ولكن للأسف الشديد قسوة الحياة، والواقع الموبوء دفع بشاعر كبير كابن القاضي للانزواء والعزوف».

الشاعر والناقد محمد اللوزي نعاه بكلمات مثقلة بحزن شديد قائلا: «غادرنا لنتحسس أنفسنا، ونسأل عن هذا الجور الذي ما انفك يلاحقنا، من فقد إلى فقد، ومن ألم إلى آخر، أي حزن نحن فيه؟! وأي مرارات تقع فينا؟! فلا نجد ما نداري به وقتنا المتلاحق حد التعب. عبد الله قاضي، المرهف المشاعر، النبيل في أخلاقه، وفي فلسفته لحياته التي اختارها، بزهد، وتقشف، وحب إطلاع، ونهم قارئ لا يكل من التزود بالمعرفي، ليرى العالم من زاوية متبتل في محراب الحرب. عبد الله قاضي الذي أحببناه شاعرا يفيض جمالا، ومتكلما يصوب الفكرة في الاتجاه الصحيح، فنصغي بكل حواسنا لكلمة منه، لنراها أبعد عمقا وأكثر رهافة. له شجونه وشؤونه الخاصة به، والتي جعلته متميزا وفريدا بين زملائه».

يقول الشاعر الراحل في مقابلة أجراها معه الصحافي علي سالم ردا على سؤال، هل ما زالت لك صلة بالشعر؟» أجاب: ليست لي صلة بأي شيء. لا بالشعر ولا بغيره. صلتي الوحيدة بالموت. إنه الصديق الوحيد الذي أحاوره دائما. الشعر كان الوجه الآخر للموت. وقد تقابلنا الآن وجها لوجه. لقد توافقت مع الموت أكثر مما أتوافق مع الشعر».

من قصائده نقتطف: يا طير الألفة/ يا قمر الفرح الأزرق/ يا نجمي المتواري خلف غيوم الفرقة والهجر/ بالله تعال/ فأنا وحدي/ في الليل وفي الريح وفي الأنواء/ منفيا في خبت الكلمات/ وغريبا تنكرني الأوجه والساحات/ وتهرب من وقع خطاي الطرقات/ فتعال تعال/ بالله تعال/ لا تتركني وحدي/ أتسكع في أرصفة الشجن اليابس/ أسأل عنك الغرباء وأبناء الليل ورواد الحانات/ وأفتش في الظلمة عنك زوايا اللوكندات/ منفيا وحدي/ أندب صبحا مات/ فتعال تعال/ بالله تعال.

أحمد الأغبري _ القدرس العربي

اقرأ أيضا:سلطان الصريمي .. بين نبيل هائل سعيد أنعم والدكتور حمود العودي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى