اتحاد القوى الشعبيةاخبار محليةنافذة على كتاب

الأستاذ زيد بن علي الوزير يؤرخ لحقبة زمنية مهمة من تاريخ اليمن تحت عنوان صنع في اليمن 1_ 17

الأستاذ زيد بن علي الوزير يؤرخ لحقبة زمنية مهمة من تاريخ اليمن تحت عنوان صنع في اليمن 1_ 17

  • أعد المادة للنشر : عبدالرحمن مطهر
  • الثلاثاء5 نوفمبر 2024_ كتب الأستاذ القدير زيد بن علي الوزير نائب رئيس المجلس الأعلى لاتحاد القوى الشعبية اليمنية عدة مقالات حتى تحت عنوان ” صنع في اليمن ” تحدث في الحلقات الأولى عن اتحاد القوى الشعبية ونشأته باعتباره أول حزب يمني ، صنع في اليمن ، حزب يمني النشأة والفكرة والمشروع، و أول حزب يمني يتبنى النظام الجمهوري في قانونه.

كما تحدث الأستاذ زيد عن حقبة مهمة من تاريخ  اليمن ، وهي مرحلة الثورة الدستورية وما تلاها عن المعاناة الكبيرة التي قاساها هو وأخوته وأخواله من آل أبو راس والكثير من الثوار.

وأكد الأستاذ زيد بن علي الوزير بأن مقالاته هي فقط من اجل التاريخ واستخلاص العبر والعظات، حتى لا تتكرر المظالم بين الناس، وحتى لا تختفي الجرائر عن أعينهم في طي النسيان فلا يتجنبونها ولا يستفيدون من عظاتها، كما يقول .

مضيفا ،أنه ما كان يرغب في الحديث عنها، ولكن ليستفيد من ينوي الظلم كي يتجنبها، ويتجنب آثامها ويعرف أنه بمظالمه يعلِّم الناس كيف يظلمونه، وأن مظالمه دروسا يطبقونها عليه إذا دال أمره.

قائلا أن المظالم التي أنزلت كانت على من لم يبلغ سن الرشد ولم يتجاوز الثامنة من عمره، ولم يكن شريكا في العمل لقيام الثورة الدستورية. أما الذين قاموا بالثورة فقد اعدم كبار قادتها وسجن البعض وتشرد البعض، فما بال الرضع والأطفال والنساء والعجزة.

وتابع الأستاذ زيد في حلقاته قائلا : وعن معاناته هو وأخوته وعن نضال “اتحاد القوى الشعبية” ومسيرته، مشيرا بان ما كتبه ليس من اجل الشهرة أو إدانة ظالم أو دفاعا عن مظلوم ، وإنما كتب ذلك لما هو أهم وأكثر فائدة، وهي دراسة الماضي دراسة موضوعية علمية، لا تهدف إلى التجني على أحد، ولا تسير في ركب الأهواء، ولا تخضع لدافع انتقام. لقد ذهب القاتل والقتيل معا إلى ربهم،  واجتمعوا بين يديه ليحكم بينهم، فلم يعد للانتقام .

   صنع في اليمن الحلقة ( 1 )

 للاتحاديين

من دون تعصب وبدون ميل، أفضت بي دراساتي للأحزاب في “اليمن” منذ الثورة الدستورية عام 1376ه/ 1948م وحتى الآن إلى تبني فكرة توصلت إليها، وهي أن نشأة اتحاد القوى الشعبية مخالفة لنشأة الأحزاب الأخرى، بحيث يمكن القول بكل اطمئنان إلى انه الحزب –كما اعلم- الذي صنع في “اليمن” لأنه لم يأت صدى لأحزاب نمت وترعرعت في الخارج، وانتقلت إلى الداخل، ، حتى بدت وكأنها تمثيل لها أو أجنحة متفرعة منها. وإذ أقرر ذلك فليس من أجل انتقاص أي حزب، وليس من شأن رفع شأن هذا الحزب، بل توصيفا للحال، فتلك الأحزاب لها نضال وجهد، ولكل-كما يقول القدامى- فضل، إلا أني أردت أن أبين أن “اليمن” مثلها مثل صانعات الأحزاب الخارجية قد صنعت حزبها.

انبثق “اتحاد القوى الشعبية من رماد “الثورة الدستورية” وتخلق وتطور في أجوائها، وكان “الميثاق المقدس” نقطة انطلاقه، مستلهماً منه مبادئه ومن مبدأ الخروج على الظالم” أيضا، ذلك المبدأ الذي دعا إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خطبة له الأمة ناشدها فيه أن تقومه بالسيف إذا حاد عن طريق الحق، والذي بلغ أوجه على يد أمير مؤمنين آخر هو الإمام “زيد بن علي” الذي بلورها في إطار فكرة الخروج على الظالم الذي استأثر بمال المسلمين، ونبذ الشورى، واستعبد الناس

من ذلك المبدأ استلهم “اتحاد القوى الشعبية” مبادئه فقد ركز الإمام “زيد بن علي”على إيضاح دوافع وأسباب خروجه، والتي أجملها في ثلاث نقاط :

 ظلم سياسي تجلى في احتكار بني أمية للسلطة، ونبذهم للشورى وإلغائهم الانتخاب وتعطيلهم للتبادل السلمي للسلطة .

 ظلم اقتصادي، تجلى في عدم توزيع المال بالعدل، والاستئثار به، وتوزيع ما فضل منه على حسب الولاءات القبلية بدءا بقريش وانتهاء بالمهمشين من الموالي.

ظلم اجتماعي تجسد في جعل عباد الله خولا.

ولم تكن مبادئ الإمام “زيد” هذه هي مصدره الوحيد، بل انه استمدها أيضا من تحركات وأفعال الإمام “أبي حنيفة” الذي آزر ثورة الإمام “زيد” ورأى فيها امتدادا لمعركة “بدر”، و من قيام الإمام “الشافعي” بالدعوة في “اليمن لـ “يحيى بن عبد الله”، وفي فتوى الإمام “مالك” الذي أفتى بنقض بيعة “المنصور العباسي” (ليس على مكره يمين).

بنى “اتحاد القوى الشعبية” مبادئه على الأسس التالية:

الشورى في الأمر.

العدل في المال

الخير على الأرض

والسلم للعالم

ومن هذه المبادئ تفرعت:

النصر للخير على الشر.

وللحق على الباطل.

وللعدل على الظلم.

وللشورى على الفردية.

وللسلم على الحرب.

وللألفة على الفرقة.

وللبناء على الدمار.

وللتفكير على الهوى.

وللحقيقة على ماسواها.

بهذه العدة والعتاد وبهذا التحصين واجه -بندية – المفاهيم السياسية الحضارية الوافدة فلم يعارضها، ولم ينفر منها، بل قرب منها وتعاون معها، لأنه وجدها صدى لما عنده، وامتدادا لمعتقداته؛ فليس “الديمقراطية” غائبة عنه، وليس “العقد الاجتماعي” جديدا عليه، وليس “الانتخاب” و “التبادل السلمي” بوافدين عليه، وليست حرية المعتقد مفاجئة له ، فلديه من ذلك علم وفير، ومن هنا تمكّن أن يطور أساليبه، ويأخذ من الجديد وسيلة لتحقيق معتقداته، فهو يرى في “الديمقراطية” امتداداً” للشورية”، و “مؤسسات المجتمع المدني” إحياء لما كان عليه الحكم المدني الراشد وهكذا.

ومن هنا ثبت لي أن هذا الحزب صنع في “اليمن”، ولم يصنع في الخارج، واستمد مبادئه من أصول دينه النقية قبل أن يكدرها الإنحرافيون.

***

صنع في اليمن الحلقة ( 2 )

للاتحاديين ..الغرس والثمر

عندما ينضج الشجر وتتبدى ثماره، فإنه يكون قد مر بتفاعلات كثيرة ومراحل مختلفة. هكذا كان شأن “اتحاد القوى الشعبية” حيث مر بمراحل التخلق كما يتخلق الوليد في رحم أمه: نُطفة، فعلقة،ً فمُضْغَةً، فعِظَماً، فلحماً، فنضالاً، فتكاملاً.

لم يبزع نضال “اتحاد القوى الشعبية” عقب “الثورة الدستورية” مباشرة، وبدون مقدمات، وبدون أن يكون قد تخلق قبل السقوط، وإنما كانت تلك هي فترة الظهور بعد أن مر بالمراحل الأربع،  أما عهد التخلق والنمو فقد كان قبل “الثورة الدستورية” و في داخل البيت نفسه نمت الفكرة وترسخت.

كان والدي قد حمل راية التصحيح منذ وقت مبكر، أي منذ عام 1342ه/23-1924م وكانت خلاصة فكره أن انحرافا في النظرية السياسة الزيدية قد حدثت، وكانت ولاية العهد والوراثة أبلغ دليل على هذا الانجراف فقاومهما بوضوح وبإخلاص، وطالب الإمام يحيى بأن يعيد للإمامة الزيدية نقائها وصفائها، ولما لم يضغ إليه الإمام وبعد نصح مستمر رأى والدي الخروج على الإمام وإذا تعذر قيام بديل عنها فمنصوب الخمسة أو جمهورية إسلامية. وفي الوقت نفسه وبالرغم من إقراره فساد النظام فقد كان يرفض فكرة الاغتيال ويطالب بـ “الخروج الزيدي” المعروف. أي ما يسمى اليوم بـ “الثورة الشعبية”

والى جانب ثقافته الزيريدية الخروجية كان قد تأثر بالآلية الديمقراطية عبر أول “راديو” دخل “اليمن”  اشتراه عام 1356ه/1937م ومنه اتصل بالعالم وسمع أصواته، وتأثر بنضال الحاج “أمين الحسيني” ” وكفاح “عبد الكريم الخطابي” وكل “حركات التحرير الوطني” ، وعندما كان الوالد ينشغل بأعماله كان يكلف “إبراهيم” بالاستماع إلى نشرات الأخبار والتعليقات السياسية لينقلها إليه فيما بعد، فإذا به من خلالها يطل على عالم جديد، يتأثر به وينفعل معه، ويصغي إلى تلك الإخبار الهادرة من راديو “لندن” و”برلين” و”القاهرة”.. 

وإلى جانب ذلك كانت بعض الجرائد والمجلات “المصرية” و “الفلسطينية” تصل إلى الوالد على دفعات، ومنها تعرف على ما يجري من نشاط سياسي، وعن دستور، وبرلمان، ووزارات مختلفة، واستقالات، واستدعاء الحكومة للحضور أمام مجلس النواب لمحاسبتها، وهو ما ليس له به عهد، فيرى فيها ألوانا من الثقافة السياسية جديدة. ومن خلال هذين المنفذين كان على علم بما يجري من حوله من جبروت “الأوربيين” ومكائد “الصهيونيين”.

في هذا البيت والمناخ  الذي يصح فيه القول بأنه أول بيت مُعارض ينشد التصحيح بالطرق السلمية تساقطت على إذن أخوي “عباس” و “إبراهيم” كلمات “الدستور” و “الانتخاب” و “التغيير” و “الثورة” و “الجمهورية” فرفدت فهما تاريخيا متميزا يطالب بـ “الخروج” على الظلم، والعودة إلى “الانتخاب” ومحاربة “الوراثة” و “التوريث” ، وفي الإمكان الجزم بأن الأخوين “عباس” و “إبراهيم”- اللذين سيصبحان مؤسسا “اتحاد القوى الشعبية” قد تأثرا إلى حد بعيد بآراء أبيهما الإصلاحية، وجهده الدءوب في محاولات إقناع الإمام “يحيى” بإصلاح نظام “الإمامة الزيدي” القائم أصلا على “الانتخاب” و “الشورى” و “الخروج على الظالم” الخ وكان  ذلك  قبل أن يخرج “الزبيري” و “نعمان” من “اليمن” إلى “القاهرة” بأعوام طوال. وكان أخي “عبد الله” اسبق من أبي في معارضته لحكم الإمام، إذ نفخ فيه عمي محمد رياح التغيير من طفولته.

وإلى جانب الثقافة الإسلامية القديمة والحديثة حوت المكتبة أيضا قصصا غربية عن “الثورة الفرنسية” بوجه الخصوص، تتحدث عن ثورتها الكبرى، ودعوتها إلى الحرية والمساواة والعدل، فكان يتفاعل مع الثوار وهم يدكون أسوار “الباستيل” الرهيب، ويعجب بشجاعتهم  وهم معلقون على أعواد المشانق، وكان لقصص “إسكندر دوماس الكبير” وغيره أثر واضح.

وباعتبار “إبراهيم مؤسس هذه المقاومة- قد تأثر بروافد مختلفة من الثقافة، تصب كلها في مسار ثوري واحد، وتمدانه بفيض من الحيوية والحماسة، والمغامرة. فهو قد تأثر بثقافة الفكر الإسلامي الثوري، الذي حمله “أهل البيت” عبر العصور،بدون ملل، رغم  المصارع المتوالية، والدماء المراقة، والتضحيات المستمرة، لقد كانت فكرة الخروج على الظلمة هي زاد التقوى في سبيل تحقيق العدالة والمساواة، وكان لجده القريب وتجربته أثر مباشر نبع من محيطه الخاص، ، فكانت مؤلفات جده الإمام “محمد بن عبد الله الوزير” وتاريخه و نضاله ضد الإقطاع ومظالم” المتغلبين” وتقواه وزهده، وتجاربه المريرة، أثر بالغ في تكوينه النضالي .

وإلى جانب القديم تأثر بالفكر الثائر الحديث، كما تأثر به أبوه من قبله وكان لكتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لـ “عبد الرحمن الكواكبي” تأثيراً خاصاُ. وكان للتيار الإصلاحي على يد موقظ الشرق “جمال الدين الأفغاني” وتلميذه “محمد عبده”، أثره أيضاً، فقد طالع-كما طالع أبوه من قبل- مؤلفات الرواد من أمثال الإمام “محمد عبده” و “عبد الرحمن الكواكبي” و “محمد فريد وجدي” و “رشيد رضا” و “طنطاوي جوهري” وتفسيره العذب الذي حوى علوم الغرب في وقته.

فاض هذا المد الثوري حتى شملنا نحن الصغار وأذكر أن أختي أمة الخالق كانت كأخويها قد استوعبت الثقافتين فقرأ لنا  قصة عن الثورة الفرنسية جرى في خلاله حوار بين جندي ملكي، و مقاوم ثوري، وكلٌ  منهما في متراسه، ومن بين الظلام الدامس ارتفع صوت الملكي: من هناك؟، فرد عليه الثوري: هنا الجمهورية. وقد تأثرت وانفعلت بهذا منذ صغري حتى الآن. كما كان بيت شعر الشاعر الكبير “حافظ إبراهيم” أغنية نرددها باستمرار

       كنت عبد الحميد بالأمس فردا      وغدا اليوم ألف عبد الحميد 

حتى أن أخي “إبراهيم هتف به أمام ابنة الإمام السيدة “تقية”-زوجة أخي عبد الله” وقلت لها بسبب تحد من احد أقاربها “أن الإمام خرف “، فغضبت وكتبت رسالة إلى والدنا تشكو بنا، وأنها لم تعد تسمع في هذا البيت  إلا الكلمات المعادية للإمام، ولكن  أخي “إبراهيم” اعتذر منها وسل غضبها عنها فقبلت بتمزيق الرسالة، ونجونا ولاشك.

تلك هي روافد “إبراهيم” الفكرية والسياسية، مؤسس “إتحاد القوى الشعبية: والتي استقينا منها نحن كلٌ على حسب مداركه وقدراته على استيعاب ما حوله.

وعندما سقطت “الثورة الدستورية” واعتقل كبار الأسرة كان مؤهلا مزودا لحمل المسؤولية، فالتقط “إبراهيم” “لواء الدستور” وحمله عالياُ، وناضل تحت ظلاله، حتى سقط أخيراً، لم يمل ولم يكل، وبفضله بقي  “لواء الدستور” غايات لم يسقط بفضل ما أرسى من بناء صامد.

***

صنع في اليمن الحلقة  (3 )

للاتحاديين.. في بيتنا مقاومة.

عندما سقطت راية “الثورة الدستورية”في2جمادى الأولى1367 13 مارس 1948، أسرع شاب في مقتبل العمر فالتقطها ورفعها وتحت ظلالها تقدم بها إلى ميدان ما يزال مفتوحا للنضال من أجل “الدستور” حتى الآن. لقد خلت الساحة من كل رجال الدستور، إما بالموت، أو السجن، أو التشريد، أو التخفي، ولم يبق من يحمل الراية  احد ممن ينظر إليهم فجاء ابن السابعة عشرة من عمره “إبراهيم بن علي الوزير” فحملها وكان حملها ثقيلا.

كان المناخ مرعبا، فأخبار قتل الآباء والأعمام والأخوال وشهداء الثورة الدستورية واعتقال كبار الأسرة وقادة الثورة تتوالى باستمرار، وفي الوقت نفسه صودرت أموالهم وخربت بيوتهم، فعاشوا في فاقة مدقعة وفي شظف العيش بالغ القسوة، وشماتة مرة تتساقط على أذانهم من قبل “النشادين” الشعبيين و “زوامل” العساكر الرسمية والقبلية، ومع ذلك فلم تمنعهم تلك الظروف من استبقاء الشعور بالاعتزاز بالثورة الدستورية إرثاً حقيقياً ومقدسا.

 وفي هذا المناخ  قام “إبراهيم”- بدون خوف من سلطة، ولا رعب من وضع مضاد- بمسؤوليته، فالتف حوله أمه “فاطمة بنت أبو راس” و شقيقتاه «أمة الخالق» و«حورية»  وإخوته”زيد” وقاسم-أخوهم الصغير محمد- وابن عمه «يحيى» و “عبد الله بن محمد”. وفي لحظة مثيرة في هذا الجو قرر أخي «قاسم» بعمره الثاني عشر أن يؤرخ لسقوط الثورة. ويندد بالنظام المتوكلي.

إذن أم وخمسة إخوة وشقيقتان واثنان أبناء عم، ساقتهم الظروف في مساق واحد من أجل هدف واحد، بالرغم من تفاوت العمر بينهم، واتساع أفق الرؤية عند الكبار، وضيقها عند الصغار. قدر لهم بقيادة أخيهم ومن ذلك البيت الحزين، أن يتولوا قيادة المطالبة بالدستور، والى جانب ذلك  ألقت الأيام على كتف أخي “إبراهيم” مسؤوليتين اثنتين: مسؤولية النضال، ومسؤولية رعاية الأسرة والأطفال، بل أسر الشهداء والمسجونين.

خرجت المقاومة من البيت إلى الهجرة في نفس الفترة التي نشأت داخله تقريباً، فكان الأخوة «إسماعيل بن أحمد عثمان» و«على بن محمد مفضل»-شقيق العامل- و«احمد بن محمد مفضل» و«أحمد بن محمد عثمان»، من السباقين إلى المقاومة منذ اللحظات الأولى. وانضم إلى المقاومة من ساكني “الهجرة” أيضا «أحمد علي مقبل» و«علي بن محمد الوزير» المعروف بالكدف  و«محمد عبد الله» وتعاطف معهم الحاج «محمد فقيه» و «محمد غالب» وغيره من فرع  «بني مالك» الساكنين بـ “الهجرة” وبالإضافة إلى هؤلاء كان “إبراهيم” يتلقط المشايخ الذين يتوافدون على السيف “العباس” فيشرح لهم أخطاءهم في مساعدتهم لهؤلاء الحكام، وكان من هؤلاء  الشيخ “يحيى القاضي” أحد مشايخ بني سحام.

 ثم توسعت فكان الشيخ «حسين قايد سراج» أول مشايخ القبائل الذين انضموا إليهم، وقد تمكن من ضم الشيخ المرحوم «صالح بن سعيد المنصوري» من مشايخ «بني جبر» الشجعان، كما كان لهما دورهما في ضم الشيخ «سلمان المطري» -من كبار مشايخ «بني مطر».

وفي ساعات من ساعات الهول الكبير، يستنجد المقاوم بالواقع والخيال لتقوية عضلات مقاومته، فكانت الشائعات تصب وقودا من الأمل والدفع، وكان الخيال الأمل يبعث المعنويات، فكانت مقاومة الشيخ المرحوم «علي بن محسن باشا» في “العدين” يقوي الأمل،  وعندما أخمدت انبعث الأمل في  حركة الشيخ “علي بن معيلي” في “عبيدة”، وعندما همدت انطلقت شائعة بتمرد في “صعدة”، وما لبث أن تبخرت، وهكذا يظل الأمل يتجدد مع كل تحرك، و بجانب الإشاعات الداخلية كان هناك إشاعات قوية شعبية تتحدث بلغة «الملاحم» بخبر يقين عن عودة “عبد الله بن علي الوزير” على حصانه الأبيض تحيط به «قبائل المشرق» ترفرف عليه رايات النصر، سوف يقتحم «صنعاء» ويطلق سراح بقية الأحرار الأسرى، ويقيم «دولة الدستور والشورى»، و يورد الظالم موارد الهلاك.

وإلى جانب أهازيج «الملاحم» صدحت المرائي والأحلام- نثرا وشعرا-بالآمال المورقة الخضراء، والخيال المجنح، فحفظت المعنويات من افتراس الإحباط، ومهما يكن فقد كانت تلك الشائعات الملحمية والمرويات الشعرية والأحلام المبشرة هي زاد المهزومين الجرحى، منها ارتوى الحالمون بانتصار الثورة بفيض لا ينتهي من الأمل، منتظرين – في لهف- وصول المنقذ على رأس قوات المشرق على حصانه الأبيض، تخفق فوق جبينه العالي زاهيات البنود

كنا نعيش إذن هاتين الحالتين: حالة العمل، وحالة الأمل، وكان الأمل يردف ما هو ممكن بغير الممكن، وتعاضد العاملان في مد الصمود بطاقات قوية، ومع الأيام بدأت الأحلام تتضاءل وتواجه الواقع المرير.

افتتحت المقاومة أعمالها الجادة –حتى قبل أن تكتمل الدوائر الثلاث – بإرسال رسول سري إلى “حجة، للاتصال بزعماء “الثورة الدستورية” لينقل إليهم أخبار المقاومة، ويبشرهم باستمرار العمل، ويتلقى منهم التوجيهات. وقد اختار أخي “إبراهيم” لهذه المهمة رجلا ولا كالرجال، تخطئه العين، وتظهر على سيمائه وحركاته الطيبة المتناهية، والسذاجة المفرطة، ولكن وراء تلك الصورة يكمن ذكاء لماح، وقدرة على المناورة، وإيمان فطري بعدالة «الثورة الدستورية» . كان هذا الرجل هو«علي بن علي الجرادي» من قرية “بيت عطشان”، قَبِلَ أن ينضم إلى تلك المقاومة الصغيرة فيجني غرمها، ويُحرمُ من غنم الحكم المنتصر بطيبة خاطر، وعندما دعاه «إبراهيم» ليذهب متسترا إلى «حجة» خاطر بحياته، وذهب إلى منطقة لا يعرفها، وإلى أناس يجهلونه ويجهلهم، يحف بها الخوف، ويحيط بها الرعب، كما أنه لا يعرف كيف سيتصرف، ولا كيف سيوصل الرسائل إلى معتقلٍ فيه كبار الثورة، وأشد الرجال خصومة للإمام «أحمد»، وإلى واحد من أشهر معاقل الإمام قوة ورقابة، ونجح في إيصال الرسائل وفي الوقت الذي استلم أجوبتهم تلقى وهو ما يزال بحجة استشهاد “إمام الدستور” و “زيد الموشكي” فأصابه غم كبير. وبالإضافة إلى ذلك دبروا مع النقيب «أمين أبو راس» العمل للهجوم  بـ «قبائل برط» على «حجة» لإنقاذ المعتقلين وعلى رأسهم «الأمير» والمشايخ «محمد بن حسن أبو راس» و«عبد الله بن حسن أبو راس» و«صالح الشايف». ومن ثم تقوم الثورة بالتعاون مع الشيخ «حسين بن ناصر الأحمر» كبير حاشد.

***

صنع في اليمن الحلقة ( 4 )

للاتحاديين ..السيدة القائدة

صحيح أن مؤسس المقاومة كان هو “إبراهيم” لكن بعد 25 يوما من رفع راية المقاومة في البيت الصغير: وصلت والدته السيدة “فاطمة أبو راس” من “المحويت” في 18 جمادى الأخرة1367/20 ابريل1948م فوقفت إلى جانب المقاومة وساندتها، وضخت في أعصابها قوة جديدة بفضل ما لشخصيتها وسمعتها من أثر وتأثير، وبفضل ما ربت عليه أولادها صلابة وصمودا وخشونة العيش رغم الجاه الوفير واعدتهم ليوم كانت بفراستها العميقة في انتظاره .

 كانت قد تأخرت بـ “المحويت” للإشراف على عملية الانتقال إلى صنعاء عقب قيام الثورة الدستورية” عندما سافر أبناؤها وبناتها وزوجها إلى “صنعاء” على أن تلحق بهم مع أخيها النقيب “أمين أبو راس” بأيام، ولكن ريح الأيام جرت مسرعة بما لا تشتهي سفن الثورة فحطمتها فوق صخور قاسية، وانقلب الناس رأسا على عقب، وأحاط الغوغاء كالعادة بدار الحكومة يريدون النقيب “أمين” ليذهبوا به إلى “حجة” قربي للإمام المنتصر، فما كان من هذه السيدة إلا أن جردت السيف، وفتحت الباب، ووقفت شامخة متحدية، وقالت: من يريد “أمين” فهذا الباب مفتوح، فلم يجرأ أحد، ورأى النقيب “أحمد حبيش” –من كبار نقباء “بكيل”- وكان قد تولى إدارة المدينة – أن دماً سيسيل إذا اقتحموا الدار، وأن “بنت أبو راس” لو أصيبت بأذى لكان عاراً عليه، ولغضبت عليه “بكيل” وحمّلته مسؤولية ما حدث، ولن يتحول عندئذ “دم ابنة أبو راس” إلى ماء، بل إلى نهر من الدماء، هكذا خاطب الغوغاء وتمكن من إقناعهم بفك الحصار، كل ذلك وكانت السيدة الشجاعة ما تزال فاتحة باب البيت، شاهرة سيفها القاطع. وبهذه الوقفة الباسلة سلِم النقيب “أمين” من التسليم.

في16 من الشهر المذكور أمر الإمام “أحمد” بسفرها إلى “السر” وبأخيها إلى “الحوري”. ولكن الخال بحسب خطة رسمت بين أعضاء المقاومة لم يمتثل أمر الإمام، وذهب متسترا إلى “برط” ليهيأ للثورة كما شرحته باختصار في المقال السابق

لهذه السيدة اليمنية تاريخ حافل، ومجد أصيل، فقد تعلمت في شبابها ركوب الخيل حتى أتقنتها، وتعلمت الرماية حتى أجادتها، وتعلمت اللعب بالسيف حتى أتقنته. اختارت لنفسها طريقها، قررت ألا تتزوج إلا “بإمام صنعاء”، أو “بأمير تعز” ورفضت الزواج من أسرتها، أو من غير أسرتها، وكان القدر يرسم لهما طريق اللقاء بدون تنسيق بينهما، وتقدم أبي يخطبها من عمها النقيب الكبير “حسن بن قاسم” فرفض النقيب بدعوى أنها مخطوبة لابن عمها النبيل الشاب “مرشد”، لكنها رفضت الزواج به، وقبلت الزواج بالأمير، فنزل عمها على رغبتها حزينا.

عندما أصبحت زوجة الأمير “علي بن عبد الله الوزير” غيرت حياة القصر المحتجب، وفتحت أبوابه للمستضعفات والشاكيات اللاتي كانت الظروف تحول بينهن وبين الشكوى المباشرة إلى الأمير، وكانت تعتبرهن ضيوفا عندها فينمن مع أولادها وبناتها الصغار في مكان واحد، بدون تفريق بين ابنة أمير، أو ابنة مواطن. وكانت تتركهن يكلمن زوجها، فيسمع شكايتهن وفي الصباح يطلب غريمهن فيقضي بينهما.

 ومن جهة أخرى كانت تحيط ضيوف زوجها الكبار برعاية خاصة، فينقلبون إلى أهليهم ببث كريم رعايتها، وما سمعوا عن أفعالها للفقير والمظلوم، والسائل والمحروم، فينتشر صيتها، وكان ممن أشاع ذكرها وحمد ضيافتها، وأعجبته أخبارها الإمام الشهيد “عبد الله بن أحمد الوزير”، والعلامة المجتهد “علي الشامي”، والعلامة “مطهر بن الإمام الهادي شرف الدين” وشيخ الإسلام” علي بن علي اليماني” والشاعر “محمد محمود الزبيري” وغيرهم من وجهاء “تعز” وكرام رجالها، فكانوا يخبرون أهاليهم عن أعمالها وكرمها وشعبيتها، وكان كل من قصد زيارة الأمير إلى “تعز” رجع من عندهما موفورا بكرمهما.

إزاء هذه الأخبار الجميلة الصيت كانت النساء يتصورنها- إلى جانب خلقها العظيم- امرأة فائقة الحسن والجمال. أو امرأة مرفهة تلبس فاخر الحرير، وغالي الذهب، وثمين المجوهرات، وبين يدي ثلاثة نصون تتحدث عنها من أطراف متعارضة سياسيا، ولكنهم يلتقون حول عظمة “فاطمة بنت أبو راس”، وبرها بالفقير وشجاعتها؛ الأولى كتبته السيدة “تقية بنت الإمام يحيى” تصف وصولها “تعز” زوجة لأخي عبدالله، بعد أن فرق الدهر بين الأسرتين تماما. قالت:

(في تعز–مقر العم “علي الوزير” وأسرته- رأيت جمعا من النساء والبنات قد خف لاستقبالي.. وما في ذهني غير ما سمعته عن زوجة العم  علي “ابنة أبو راس” .. كنت قد رسمت صورة في مخيلتي أنها امرأة بارعة الجمال  كلها أناقة ونعومة وترتيب، وحين وقع بصري عليها وقفت مشدوه من المنظر الذي راعني، أني أرى امرأة سمرا…….عندها دار خلدي أن لهذه المرأة مكانة تعلو هيئتها، واسترجعت ما سمعته عنها: “فاطمة بنت النقيب عبده أبو راس” ذات العقل الراجح، والقلب العطوف على الفقراء والمساكين، الكريمة الشجاعة، رباها عمها النقيب “حسن بن قائد أبو راس” كبير بكيل وزعيمها الأول.. هذا هو سر قوتها ومكانتها عند الأمير الكبير العم علي الوزير) 

والنص الثاني كتبته سيدة ثائرة معارضة، شجاعة الرأي، هي الأديبة اليمنية المعروفة “عزيزة عبد الله أبو لحوم” في موقع “يمن الغد”،  تحدثت فيه عما تركته مقابلتها لها فقالت:

(عدت بي  إلى اليوم  الذي التقيت فيه  بالسيدة الجليلة” فاطمة بنت أبو راس” رحمة الله عليها وعلى  جميع من رحلوا عنا، كان ذلك اللقاء في بداية عام 1963م بعد الثورة الخالدة ثورة 26 سبتمبر. كنت قد سمعت  من والدتي وأخوتي الكثير عن “فاطمة بنت أبو راس” وكنت قد رسمت لها في خيالي صورة  امرأة  خيالية مثل صور النساء في الأساطير البطولية. لكنني وجدها غير التي رأيتها في خيالي. رأيتها امرأة  شبه عادية مثلها مثل أي امرأة يمنية عربية عصرتها الأحداث الجسام. ووجدت  في عينيها بريق الذكاء المفرط، وفي حديثها الكثير من الحنكة  والبراعة في توجيه الأسئلة المختصرة..المهم  فيما أنا أتطلع في سحنتها، واسمع لهجتها  التي هي نفس لهجتي القبيلية. وكيف أنني   تصورتها وثيابها  مثل أولئك النسوة نساء الأشراف المرتديات الحرير والديباج المزينات بالحلي الذهبية ، ومعهن الخدم والحشم يسيرون ورائهنَّ…مع أننا لم نلتق كثيرا إنما كم من الذكريات الجميلة مع العمة “فاطمة بنت أبو راس” وكم تحملت تلك المرأة العظيمة، وكم صبرت وتعبت، ونجحت في تربية رجال الرجال).

هذه الصورة التي رسمتها لها سيدتان تقفان سياسيا على طرفي نقيض، وجدها الفيلسوف الكبير “مالك بن نبي” -وقد تجاوزت الستين عاما- وقارا مشعاً، عندما زارها في “القاهرة” فكتب بخط يده تحت عنوان “امرأة في غمار ثورة” عندما بلغه ارتحالها إلى الله، فقال:

(إنني لا أعرفها، ولا أعرف ملامح وجهها، لأنني يوم زرتها في بيتها بـ “القاهرة”، حيث كان أبناءها من اللاجئين اليمنيين في عهد الإمام “أحمد” وكنت أنا لاجئا إثناء “الثورة الجزائرية”، لم أر أمامي إلا طيفاً يشع وقاراُ، ويفرض غض الطرف…إن القصة من هنا تبدأ كملحمة بطلتها هذه الأم، التي تحتضن أطفالها “عباس” و “إبراهيم” و “قاسم” و “زيد” [و”محمد”].. فتحتضنهم كأم يحمل قلبها كل حنان الأمومة، وكقائد يقودهم في خطوة جديدة جادة نحو المحاولة الثانية للثورة اليمانية، ولنا نبسط القضية على قدر الكلمات البسيطة التي نعبر عنها، بينما يجب أن نتصورها في جوهرها، في شدة تصميم هذا القائد وسط فتور المجتمع وإرهاب السلطة، أنني أتذكر إعجابي بهذه الأم- أو بهذا القائد- عندما كان ابنها “إبراهيم” ونحن نتذاكر في شؤون “الثورة اليمانية” بـ “القاهرة” يقص القصة بتفاصيلها؛ كتفاصيل الخطة الدقيقة التي وضعتها مثلا يوم قررت تخليص أبنائها من “سجن صنعاء” والخروج بهم إلى العشائر، لأننا في هذا الظرف الخطير لا نتصور أماً، بل نتصور قائداً مصمماً على انجاز مهمة خطيرة كل التصميم، وأي خطورة نتصور في هذا الظرف حيث نرى أماً فقدت زوجها في محاولة ثورة فشلت منذ حين، تفك قيود أبنائها في السجن ببسالة نادرة تستحق كل الإعجاب، لعله الوفاء للزوج الذي ضحّى بنفسه من أجل تخليص الشعب اليمني من الطغيان والجهل والبطالة، ولكن العبرة في علو الهمة، وسمو الخلق، اللذين يجعلان هذه الأم تقود أبنائها بلا أي تردد إلى مذبح المبادئ المقدسة، والوطن العزيز، لتقدمهم فداء لأغلى القيم. هل هذه تفاصيل تصور ملحمة أم؟، أو قائد مستميت في انجاز مهمته مهما كان الثمن؟ لا أدري يوم فارقت روحها هذه الدنيا للالتحاق بالرفيق الأعلى، هل بكى أبناءها الأم الحنون التي انحنت على طفولتهم المعذبة بعد أن فقدوا والدهم؟ أم بكوا القائد الذي طالما قاد برأيه السديد خطواتهم على الطريق الصعب؛ طريق الواجب, ولا أراهم بدورهم ينسون نصيحتها الأخيرة لهم وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة: أن لا تتفرقوا أبنائي)

وأؤكد أننا كأبنائها و كاتحاديين أيضا لم ولن ننس نصيحتها، ولم ولن ننس تعاليمها، وأننا على دربها سائرون، وتحت رايتها ماضون، وان “اتحاد القوى الشعبية” ليفتخر بقيادتها طيلة 22 عاما، وبنفس التأكيد أقول أنها بجناحيها القويين ظلت تحلق فوق القمم العالية طيلة 75ه عاما من النضال، دون أن يكل الجناح، أو تضعف القوادم أوتنؤ الخوافي ، حتى وافاها اليقين عام 1390ه/ 1970م و “للاتحاديين” أن يفتخروا لا لأن حزبهم كان أول حزب يمني أسس على الوضوح، بل لأنه أيضا كان أول حزب قادته سيدة تشع وقاراً.

***

صنع في اليمن..  الحلقة (5 )

المدد المعنوي  

أهدي هذا البحث للصديق الكريم “عارف فقير” الذي سألني أن أكتب عن شهيد الدستور “عبد الله بن علي الوزير” وانشر صورته، ليعرف الناس أي بطل كان .

_ ما الذي أبقى لريش تلك المقاومة في بداية أيامها أن تستطيل؟  وما الذي دعا أجنحتها الصغيرة أن تستمر في ترويضها حتى تمكنت من التحليق في الفضاء اليمني؟

هناك أسباب كثيرة تتمثل باختصار في التربية الثورية المتأثرة بـ “ثورات أهل البيت” من ناحية، وبـ “الثورة الفرنسية” من ناحية أخرى، وبـ “المصلحين” المعاصرين من ناحية ثالثة، وبأبينا الذي لم ينحن لسلطة وبقي شامخا. ومن المعروف أن لكل حركة مقوماتها ودوافعها، لكني هنا سأذكر سببا آخر كان له أثر أيضا، في صمود المقاومة في وقت كان جسمها عاريا إلا من زغب واعد، وكانت قوائمها ضعيفة، و كانت تحبو بثبات إلى المرتقى الصعب، هذا الأثر المعنوي تمثل في انتظار القادم من خلف الحدود على حصانه الأبيض تحف به خافقات البنود. وهو على حصانه، ورايات النجدة تخفق على رأسه، وأبطال المشرق تحف به؟

كانت الشائعات- في مثل حالتنا وحالة فيرنا- هي زاد المقاومة، بعد أن سقط الحلم وتوارى الأمل، وكشر الواقع عن أنياب حداد، وكانت هي أحد روافد معنويات هذه الفئة الصغيرة المتحدية والصامدة، وكانت شائعة قدومه القريب تحيي الأمل من وهدة الإحباط العام، وكانت«الملاحم» الخيالية التي يحفظها المعمرون، من حديث القديم الغابر، وأخبار الحاضر السافر، واستكشاف المستقبل المجهول تتردد حول هذه الشائعة بقوة، وتتحدث عنه باستمرار، فترفع المعنويات لإمكانية استعادة دولة الدستور باستمرار.

ترنمت “الشائعات”، وتغنَّت «الملاحم» بلغة قاطعة وبخبر يقين عن عودة قائد على حصانه الأبيض تحيط به «قبائل المشرق» ترفرف عليه رايات النصر، وعن اقتحامه «صنعاء» وإطلاق سراح بقية الأحرار الأسرى، وعن إقامة «دولة الدستور والشورى» من جديد.

وكان ذلك القادم على حصانه الأبيض تحف به الرايات ورجال المشرق هو أخونا الشريد المعذب “عبد الله بن علي الوزير”. فمن هو رجل الملاحم هذا الذي مد المقاومة بمعنويات الصمود؟

ولد ثائرا وعاش ثائرا ومات ثائرا. ولد في ليلة عاصفة ماطرة ذات رعد وبرق في مسجد بهمان بينما كانت أمه محمولة على نعش في ساعة مخاض، تحيط بها عائلتها، وهم يحثون الخطى ليلا بين المياه والأوحال هروبا من “الأتراك”، فلما وصلوا إلى قرية “بهمان” جاءها المخاض في “المسجد” فولدت يوم الخميس 16 محرم عام 1325هـ/28 فبراير1907 “عبد الله” فكانت حياته- كليلة مولده- عاصفة خير اجتاحت طغيان حكم متجمد، كان مناضلا لم يعرف اليأس، ولم يأس على ما فات، وتطلع لتكرار التجربة رغم قسوة المناخ وهو على فراش الموت.

كفله عمه الذي كان قد توصل في نهاية عام 1314هـ/96-1897م إلى قناعة تامة بأن حركة الإمام المنصور “محمد” ثم من بعده ابنه الإمام “يحيى” لا تسعى إلى خلافة، وإنما إلى ملكية فردية، ولم يكن راضيا عن تولية أخيه “علي” ولا على تولية قريبه “عبد الله بن أحمد” مع الإمام “يحيى”، وطالما حذرهما من مغبة قبولهما التعاون مع الإمام يحيى، وعاش على هذا المعتقد حتى وفاته عام 1343هـ/1925م ولم يبدل معتقده، ولكنه لم يمت إلاّ وقد أودع رسالته الثائرة في هذا الشاب الثائر على واقع “النظام المتوكلي” فشبت تعاليم عمه معه، ولاح ذلك واضحا عندما كان يدرس في المدرسة الابتدائية بـ “صنعاء” وعمره أقل من 9 سنوات ، فكان يجاهر بنقده للنظام، ويدخل في جدل عاصف مع أخيه الأصغر “أحمد” حول هذا النظام.

_ ولما شب ” عبد الله” عن الطوق رفع راية انتقاد الحكم بشدة، وكان التحاقه بأبيه في “تعز” بمثابة نقلة حضارية ضرّمت أوار نقده، فقد كانت بعض الوسائل الحضارية التي تتوارد عليهم في “تعز” موجودة: “الكهرباء” و”التلفون” و”الفونغرافات” و “الراديو” والسيارات، وكان لنتائج الحرب مع “السعودية” ومع “بريطانيا” إثر صب الزيت على وقود مشتعل، ومع أنه أصهر إلى “ولي العهد” بالزواج بابنته، والى الإمام “يحيى” بالزواج أيضا بابنته، إلا أن قناته لم تلن ومعتقده لم يضعف، وحتى أنه ضحى بحبه الشديد لزوجته السيدة “تقية بنت الإمام” لصالح أمته ومعتقده، وكذلك لم تغره المناصب التي منحه الإمام قط بل جعلته من خلال النظام نفسه يعرف سوأته، ويعمل على تغييره، وقد أشار في “رسالته إلى الحكيمي” إلى عمل يدبره في وقت مبكر وبالتحديد منذ 1352هـ إلى1357هـ/1933-1938م] لتغيير نظام الحكم، وفي عام 1357هـ/ 1938م بلغ التوتر ذروته بين الأمير والإمام، وبين الأمير وولى عهد الإمام، على نحو ما هو مسجل في كتاب “حياة الأمير علي بن عبد الله الوزير” للمؤرخ “أحمد بن محمد الوزير” وقد انتهت هذه الفترة بسفر الأمير إلى الحج ومعه ابنه “عبد الله” و الأستاذ “الزبيري” سنة 1357هـ/10 يناير1939م.

وأثناء بقاء الأمير بـ “مكة” دارت بينه وبين الإمام مراسلات عنيفة، طالبه فيها بالإصلاح، وبعد أن استجاب الإمام للمطالب، وجعل “ابن سعود عليه كفيلا، فقرر الأمير العودة. ولكن “عبد الله” رأى أن يتأخر بـ “الحجاز” ليشكل حماية خلفية فيما لو نكث الإمام بعهوده، فوافق الأمير، فطلب منه الأذن بأن يبقى الأستاذ “الزبيري” معه فوافق، وما لبث أن نكث الإمام بوعده، على إثر تحسن علاقته بـ “ابن سعود” الذي بدوره تنكر لضمانته، بل طلب من “عبد الله” مغادرة “الحجاز” فذهب إلى “مصر” في أواخر شهر محرم 1359ه/أواخر فبراير 1941م ومعه الأستاذ “الزبيري”.

وفي “القاهرة”-حيث كان الأستاذ محمد صالح المسمري” ثم “يحيى زبارة” يعتبران أول طلائع “الدستوريين” الواصلين إلى القاهرة- قام بنشاط كبير سجلته “مذكرات يحيي زبارة”، وكشف عن جهد مستور، بل مسروق، بل منسوب لغيره، ويذكر “زبارة” أن “عبد الله” أنفق من جيبه الخاص على منشورات ونشرات المجموعة، وعلى “جريدة الصداقة” و “مجلة الرابطة العربية” من خلاله، وكان له بذل كبير من خلال الشهيد “المسمري” في شراء مطبعة لـ “صوت اليمن” وغيرها، وقد أمده أنه ابن زعيم يمني بقدره جيدة على التعريف بـ “قضية اليمن”، وإذا كان رفاقه قد نشروا قضيتهم في “المدارس” و “الجامعات” و قلة محدودة من “العرب” اللاجئين إلى “القاهرة”، فهو قد نقل القضية إليهم وإلى المسؤولين الكبار من خلال من تعرف عليهم من الساسة والزعماء في “النادي العربي” – الجامع لذوي الفكر والسياسة- الذي أضافه فيه الملك “محمد السنوسي” رحمه الله- ومن حلال السيد “حسين الكبسي” تعرف على رئيس الوزراء “مصطفى النحاس”، وعلى بعض موظفي “وزارة الخارجية المصرية”. وفي “النادي العربي” التقى بالسيد “الفضيل الورتلاني” والزعيم السوداني الكبير «إسماعيل الأزهرِي»-أولا رئيس وزراء “للسودان” والذي سيحتضن بسبب معرفته بأخيهم “عبد الله” رجالا مقاومين عندما فروا من “اليمن” كما سيأتي- وغيرهما و بكبار “الوزراء المصريين”، ومن أهم من تعرف عليهم “عبد الرحمن عزام” – أمين “جامعة الدول العربية”- وعقدت بينهما صداقة تمكن من خلالها من شرح حالة “اليمن” أوصلته إلى اتفاق معه بمساعدة “الجامعة العربية” عند قيام “الثورة الدستورية”،

باختصار كان في كل تحركاته يوظفها لمصلحة القضية، بدون أن يتباهى بما يفعل، أو يظهر نفسه كزعيم وابن زعيم، بل أنه لم يقبل اقتراحا من رفاقه أن يترأس “جمعية يمنية” وأن يكون مستشارها “الفضيل”، وبفضل مكانته هذه تمكن من إنقاذ “المسمري” من طرد محقق، حيث طالب السيف “عبد الله” المسؤولين بطرده من “مصر” وابلغ “المسمري” بوجوب خروجه من مصر فعلا، وقد تدخل ابن الوزير فمنع تسفيره و(كانت صفعة شديدة في وجه عبد الله صاحب السمو ونجل ملك اليمن ذي الثروة الطائلة).

وفي 3 ربيع الثاني 1366 /24 فبراير1947 غادر “مصر” هو والقاضي “محمد العمري” إلى “اليمن” ليعمل من الداخل ويسرع عملية النضال، ولما وصلا إلى “عدن” كان في استقبالهم “الويسي” ممثلا لـ “ولي العهد”، بسيارة، والأستاذ “نعمان” ممثلا للمعارضة بسيارة سيف الحق “إبراهيم”، فاستجاب لطبيعته الثائرة تلقائيا وركب مع الأستاذ “نعمان” وركب القاضي “العمري” مع “الويسي” (واتفقت بالإخوان بـ “عدن” منفردين مرة واحدة فقط ، مع سيف الحق “إبراهيم”، لأن جواسيس “أحمد” كانت محيطة بنا ليلاً ونهاراً) .

وفي 25 جمادى الآخرة 1366/ 16مايو1947 وصل إلى “صنعاء” وقابل الإمام “يحيى”، فرحب به وبالقاضي “العمري”، وسأله الإمام (هل “فاروق” ملك مصر يصلي وما سبب الاختلاف بينه وبين “النحاس”، وكم مالية مصر؟ ولماذا تبيح شرب الخمر علناً وكذلك البغاء . . فأجبته بأن ملك مصر يصلي وله إمام خاص في قصره وهو يؤدي صلاة الجمعة دائماً كل جمعة في جامع من جوامع مصر وهو يحيي من الشعائر الدينية مالا يحييها غيره مثل إحياء ليلة المعراج . . والشعبانية وليلة القدر والمولد النبوي والمحمل الشريف واستماعه للدرس الديني في كل ليلة جمعه من ليالي رمضان وفتح أبواب قصوره للناس لاستماع تلاوة القرآن …أما مالية مصر فأنتم تعلمون أن بها 59 مليون.. وأما الفجور والفسق بمصر، ففي مصر ينبوعان، ينبوع خير وينبوع شر ، فالعدة على الشخص وتربيته وعفة نفسه ، فإن كان مراده الخير فأبوابه ومجالاته وينبوعاته كثيرة ، وإن كان مراده الشر فكذلك . وفي الحقيقة الخير والشر يوجدان في كل مدن الدنيا حتى في البلاد والمدن المقدسة ، يوجد الخير كله ويوجد الشر وفي صنعاء وغيرها ، وقد نقل بعض الحاضرين الأسئلة والأجوبة حرفيا) .

ذات يوم مبكر من وصوله قام بزيارة زوجته في دار أبيها، وبعد أن تناول كأسا من “شراب الليمون” تدفق الدم من فمه غزيرا، وذهب رأسا إلى الدكتور الإيطالي فأخبره بعد الكشف عليه أنه تعرض للسم، فقرر العودة إلى دار الإمام ليخرج منها ميتا بعد أن دخله حيا، ولكن الدكتور تمكن من شفائه، إذ يبدو أن السم لم يكن من النوع السريع القتل. وفور شفائه باشر مهمته من خلال عمله في “الشركة اليمنية”- التي شكلت غطاء للاجتماعات- التي انتخب رئيسا لها بالإجماع للإعداد لقيام “الثورة الدستورية” يوم الثلاثاء 7ربيع الثاني1367ه/18 فبراير1948م واختير رئيسا لـ “وفد الثورة الدستورية” للسفر إلى “جدة” لمقابلة “وفد الجامعة” كما هو معروف، وبعد غروب شمس يوم الجمعة 2جمادى الآخرة67ه/ 13مارس 1948م غرب ضوء “الثورة الدستورية”، و نهبت “صنعاء” على نحو بشع.

وفي يوم الأربعاء 7 جمادى الأولى 1367/17 مارس 1948 غادر “وفد الثورة الدستورية” “جدة” إلى “عدن”، وبقي الثلاثة فيها أياما، يحاولون بكل جهد إنقاذ المساجين، فراسلوا أصدقائهم من “الزعماء العرب” والمسؤولين المصرين، و”الجامعة العربية” لكن “البريطانيين” – بضغط من الإمام “أحمد” طردوهم من “عدن” فسافر “عبد الله الوزير” و “الزبيري” إلى “الهند” في 28 جمادى الأولى67/ 7 ابريل48 فوصلاها متخفيين خائفين يترقبان، بينما قضى “الفصيل” تتقذف به الموانئ مدة ثلاثة أشهر.

وبينما كانا على ظهر الباخرة في اتجاه المنفى المجهول كان “عبد الله” يفكر في استمرار النضال فطلب من “الزبيري”( أن أضع لنا خطة السير في هذه الفترة الرهيبة التي نعيش فيها فجلست في سطح الباخرة ورسمت خطة).

بعد شهر من مغادرتهما عدن، وبالتحديد في 22 جمادى الآخرة 1367/1مايو 1948وصلت “للزبيري” جوابات من “عدن” وفيها الأمان له من الإمام “أحمد”، وتلاه أمان آخر بواسطة الشيخ الجليل «محمد سالم البيحاني». بينما بقي الإمام يلاحق “عبد الله” بإصرار، ولسبب غير معروف لي قطع الأستاذ “الزبيري” صلته نهائيا بصديقه، (كتبت له نحو ستة خطابات أترجاه، وأتوسل إليه لأن يفيدني ولو بكلمة واحدة عن أسباب انقطاع خطاباته، فلم تعد لي أي إفادة منه. {الله} أعلم ما سبب ذك؟. فأسأل {الله} سبحانه أن يقيه كل سوء ومكروه، وأن يحفظه من كل شيء، ولا أحب أن يعرف أني أعلمتك بذلك؛ فقد يتألم، أو ربما يتكدر خاطره، ولا أحب أني أكدر له بال).

وختم رسالته للمجاهد الكبير الحكيمي قائلا: (وعلى كل حال ها أنا يا عزيزي على قيد الحياة، عايش عيشة لا يتصورها العقل، ولا تخطر في بال أحد بعد تلك القصور والدور والسرر الناعمة، مكملا تلك التضحية البالغة أقصى غاياتها، وضميري مرتاح، ونفسي مطمئنة راضية لأني أديت واجبي كاملا غير منقوص، ذلك الواجب الذي كان ضميري وكاهلي مثقلين ينوءان بحمله، وها أنا مستعد للعودة للكفاح والنضال مهما لاحت لي أدنى فرصة تمكنني من ذلك فأيماني بتلك القضية وعدلها لا يزعزعه أي قوة توجد في العالم)..

خلال تلك الفترة القاسية كانت مصارع أهله وأصدقاءه تتوارد عليه فتصميه، وتزيده ألما، وعندما تلقى خبر استشهاد والده في 23 شعبان 1367/6 أغسطس 48 من خلال إحدى الإذاعات العربية ولعلها إذاعة “لندن” سقط مريضا أي بعد حوالي أسبوع من استشهاد والده- إذ عاوده المرض الخطير نزيفا رئويا، فأدخل إلى المستشفى للعلاج لمدة عشرة أيام. ثم بقي يعاني من أوجاع المرض، وآلام الغربة وتنكر الصديق حتى انتقل في 15 القعدة 1369ه/ 29 أغسطس1950م إلى رحاب الله شهيدا غريبا فقيرا، راضي النفس، مطمئن الضمير.

وكان وفاته غريبا شريدا بمثابة زيت جديد انصب بقوة في دينامكية المقاومة الجديدة. وهكذا خدم أمته حيا، وخدمها ميتا فعليه السلام يوم ولد ويوم عاش ويوم صار غريبا شريدا..

المراجع

أحمد بن حسين المروني، الخروج من النفق المظلم- معالم سيرة ذاتية، صنعاء: مؤسسة العفيف، الطبعة الأولى مايو2001.

أحمد بن محمد الشامي، رياح التغيير، الطبعة الأولى، الطبعة الأولى 1405ه/ 1984ـ؛

أحمد بن محمد الوزير مذكرات احمد بن محمد الوزير- تحت الطبع

أحمد بن محمد الوزير، حياة الأمير علي بن عبد الله الوزير _ كما سمعت ورأيت، منشورات العصر الحديث: الطبعة الأولى 1408ه/1987م

أحمد محمد نعمان، مذكرات أحمد محمد نعمان- سيرة حياته الثقافية والسياسية، مراجعة الدكتور علي محمد زيد، القاهرة: مكتبة متولي الطبعة الأولى 2004؛

إسماعيل بن علي مفضل، “التيسير في نسب آل صارم الدين الوزير” تحت الطيع.

جريدة الإيمان، العدد 204.

الدولة البريطانية، الوثائق البريطانية لعام 1948 راجع مجلة المسار العدد العاشر

عبد الرحمن الارياني، مذكرات الرئيس القاصي عبد الرحمن بن يحيى الارياني، الطبعة الأولى 2013 بدون اسم المطبعة.

***

صنع في اليمن ..الحلقة ( 6 )

المقاوم السجين

إلى الصديق الكريم الذي سألني: وماذا “عن عباس بن علي الوزير”؟، فهذا هو العباس  

(1)

في الفصول السابقة إشارة عن أخي “عباس” مقتضبة، قضى به السياق عند الحديث عن المؤثرات الثورية على قيادة المقاومة التي أنشئت عقب سقوط الثورة الدستورية مباشرة وبدون فاصل زمني. ولأنني اكتب تاريخ هذه المقاومة فأنا أحافظ على التسلسل و على ظهور الأدوار تباعا، في مرحلة نضالية امتدت 69 عاما بما فيها من نضال شاق وسجن ونفي وتشريد، وفشل  ونجاح، وخطأ وصواب، ولأن الأمر كذلك فلابد من مراعاة الكتابة – بدون استباق – عن دور كل إنسان أسهم فيها عندما يظهر دوره،  ومدى إسهامه في نشوء تلك المقاومة وفي تطويرها إلى أن صارت رقما نخبويا وشعبيا -برغم كل العثرات والتعثير- لها وجود متميز.

وبينما كان أخي “إبراهيم” ورفاقه يؤسسون المقاومة كان أخي “عباس” في هذه الفترة في غياهب “سجن القاهرة” بـ “حجة” مع والده، ومع بقية إخوانه ورفاقه {منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} ، وعندما وصل “علي بن علي الجرادي”- رسول المهمات-  تم الاتصال على نحو متقطع بين “السجن” والهجرة” أي بين أبي وأخي “عباس” وابن عمي “أحمد بن محمد الوزير” وبين أخي “إبراهيم” وأعضاء “المقاومة” كما سيأتي.

(2)

كان أجمل نغم يستحليه أخي “عباس” هذه الكلمة العذبة كلمة مواطن، طالما رددها في فمه، وكأنه يمضغ شهدا سائلا، وعسلا مذابا، وطالما تغنى بها وكأنه يسكب في شبابه أغنية راع، وهو ينحدر صوب القرية على ضوء غارب من شفق الأصيل، أو كأنه حنين ناي يتأوه في حضن الليل.

كانت أفضل كلمة يتمناها أن تطلق عليه، وأن يُسمّى بها. لم يكن يحب الألقاب ولا الكنى، كان يحب فقط أن يسمى المواطن عباس.

وهو يعرف ما تحمل كلمة المواطن من مسئوليات. لم يكن يغريه بها نغمها الحلو، وإنه لنغم جميل، ولم يكن يستحليه رنينها العذب، وإنه لرنين أخاذ، ولكنه كان يستحليها وينجذب إليه لأنها تحمل مسئولية ضخمة، عملا دائبا، تضحية بدون مردود، بذلا بدون فائدة، عطاء بدون ربح. لم يسع في استثمار يستفيد منه، ولا في منفعة يجنيها. كان يعتقد أن العمل في حد ذاته هو الجزاء الأوفى، هو الربح والمردود. ولذلك انطلق إلى الشعاب الداكنة والجبال الخرساء باذلا جهده في سقي حقول لا يملكها، وحرث مناطق لا يستغلها، وإنما هو العطاء المحض والبذل الخالص لا ينتظر على ما يبذل جزاء ولا شكورا.

لم يذهب إلى حيث تتوفر الإمكانيات لجني الحصاد الوفير والسريع حيث الفرص متاحة مغرية جذابة، بل ذهب إلى الجبال الصماء يضرب فيها بمعوله لتورق وعياً، وإلى الأرض القاحلة يضرب فيها بمحراثه لتنبت فكراَ، وماذا ستعطيه الجبال الصماء، وماذا ستمنحه الأراضي المجدبة  من مردود. فهو لم يذهب لاستثمار منجم،و لإنشاء مزرعة يدران عليه ربحا وفيرا يستفيد هو وغيره منها، بل ذهب ليستنبت وعياً ويستورق فكرا.يساعد الإنسان في أحلك ظروفه.

كان يعتقد أن العمل سواء أأخصب أم أجدب هو الجزاء الأوفى؛ فإن أخصب فجزاؤه أنه رأى الفكرة تأتلق على جباه الآخرين، وإن لم يثمر فالتجربة جزاء لعمل لم يثمر، وعليه تكرارها.

كان “عباس” يعرف إذن معنى كلمة المواطن، يعرف أنها رسالة ينشرها، وضريبة يؤديها، عملا يبذله، لا مغنما يناله، ولا مكسبا يحصل عليه.

وكمواطن متوله في حب وطنه، فلم يكن يريد على ذلك جزاء ولا شكورا، بالرغم من ذلك حق له. ونحن نعلم أن ما من إنسان إلا وهو يطلب مردودا لعمله: إما مجدا باذخا، أو زعامة على قومه. أرأيت إلى هؤلاء الذين يناضلون من أجل حقوق شعوبهم ويُّزجون في السجون، وتُوضع الأغلال في أعناقهم، وإذا بهم في النهاية زعماء لأمتهم قادة عليها؟ ألا ترى أنه قد حصد جهده مركزا مرموقا، وأمرا مطاعا؟ ثم أرأيت هذا العالم الكبير الذي بذل أيامه ولياليه في سبيل تحقيق فكرة كيف نال جزاؤه إما مالا عميما أو شهرة ذائعة.

ولكن “عباس” المواطن لم يهدف إلى جاه ولا شهرة ولا مركز. كان كبير أخوته سنا ومقاما، ومع ذلك فلم يهتم أن يكون الأول بل رضي لنفسه أن يكون عضوا مع الآخرين.

وكان غنيا في نفسه وفي ماله فلم يضاعف مالا، ولا نقدا بل أنفق ما يملك، وبذل ما يدخر، عاف العاصمة حيث تُصنع الشهرة وحيث تتألق المكانة وتركها إلى واد ذي ثلاث شعب: صخر حاد، وتراب كالرماد، وأناس كالصخر قوة، وكالجماد عنادا.

رفض الوسائل التي تطلق الشهرة والألق حيث المذياع والصحيفة والمنبر واتجه إلى الصمت المنعقد ينسج منه بوحا حيا، ونبعا ثريا.

وهكذا يبدو “عباس” على حقيقته طرازا رفيعا وفريدا. لا أقول ذلك انسياقا مع عاطفة لأنه أخي، بل أقول ذلك حقا لأنه أخي. أخي الذي عرفته في السراء والضراء، في الشدة والرخاء، في الغضب والرضاء، في القرب والبعد، فما عرفته إلاّ متميزا في حالتي الغضب والرضاء، في الشدة والرخاء، في السراء والضراء. كان طرازا فريدا بالفعل. فهو قد نشأ في مناخ ناعم، وعاش في ظل حياة ظليلة، ومع ذلك فقد كان ناعما ولكن نعومة الصخر الأملس أشد ما يكون صلابة. كان أنيقا في مأكله ومشربه وملبسه ولكنه كان متواضعا أشد ما يكون التواضع، رؤوفا أشد ما تكون الرأفة، برا أعظم ما يكون البر. ولقد أعجب من ذلك الأنيق الحالم ابن المجد السياسي والفكر العالي وهو يترك الظل الظليل، والمكانة العالية، والمأكل الناعم والملبس اللطيف إلى الخشونة الخشنة. كان نسيما ينشر عبيره، ويبث فوحه ومع المستعلين كان عاصفا يبث حممه..

كان صبورا متحملا في بيئة لا تدعو إلى كل ذلك الصبر فهو يعيش في كنف والده الكريم، كل شيء متاح وميسر. ومع ذلك فقد شب صبورا، وعاش صابرا، لا تفارق الابتسامة فمه حتى عندما تجثو عليه المصائب.

ذات يوم وكان عمره اقل من العاشرة وقع على شظية صخر مسنونة شقت جزءا كبيرا من فخذه لكنه لم يئن ولم يشكو. وما تزال ذاكرتي تتصوره وهم محمول بين يدي حارسه مبتسما. ولولا أنه محمول حملا لما أحسست بما حدث له، فالابتسامة لم تفارق شفتيه رغم الآلام المبرحة المتقدة. لما وصل إلى البيت مشى على قدميه حتى لا يزعج أمه، ولكي يغالب الألم صعد وحيدا إلى السطح، فغلبته الحمى فأنّ؛ فنبه أنينه بعض المستخدمات فكلمن أمه فسعت إليه ملهوفة فوجدته حارا كالنار فاستدعت الطبيب فعالجه.

هذه الحادثة التي يضج فيها الصغار بكاء، ويبالغون فيها مبالغة شديدة ليكسبوا بها عطفا زائدا، أو حلوى لذيذة، أو مبلغا من المال، كما كنا نسعى عندما تصيبنا حمى بشواظها، أو يتناوشنا برد بزكامه، عندئذ نقبض ثمن العلاج بعض الحلوى اللذيذة، وإلاّ فلا علاج. أما إذا كانت حقنة عضلية فإن الثمن يصبح غاليا. كنا نسعى إلى المرض لنقبض ثمنا.. أما عباس فقد كان يخفي أوجاعه حتى لا يكدر خاطر أبويه أو أخوته أو أحدا من الناس، ضاربا بكل ما يغري الطفل من أشياء. 

وفي تلك الفترة من الزمان يمكن أن أسمي المناخ الذي عشنا فيه بشيء من التعسف مناخا يجمع بين المكانة العالية والتواضع، يتناول فيه الأمير المهيب غداءه مع مستخدميه جنبا إلى جنب، ويقعد معهم، ويتحدث إليهم كما يتحدث إلى كبار القوم، وهم قريبون منه لا يحجبه عنهم حجاب، وكان “عباس” يمثل هذه المكانة المتواضعة في تناغم منسجم وعجيب. ومع أرستقراطيته وذوقه الرفيع الأنيق كان يحب ألاَّ يلعب مع أبناء فئاته إن كان هناك فئات، ويفضل عليهم أبناء الجيران البسطاء الطيبين فيلعب معهم حينا، ويتعارك معهم آونة، وينتصر طورا ويهزم طورا آخر فلا يتباهى بنصره ولا يشكو لهزيمته.

وعندما شب عن الطوق لم يكن يحب أن يعيش مع أمثاله من هذه الفئة الأرستقراطية، ولا يقيل مقيلهم، ولا يجلس مجالسهم، ولا يصغي إلى أحاديثهم، إنه ليسأم تكرار هذا النقاش، ويمل من هذه الأفكار الرتيبة المستعلية. كان يعتقده تكرارا من القول، وركودا في الفكر، وما كان يحب الركود، فكان يتنقل من هنا إلى هناك، يقعد أشهرا في “المحويت” ثم يغادرها إلى “صنعا” ثم يتركها بعد بضعة أشهر إلى “السر” فلم تمض أشهر حتى يعود إلى “المحويت” وهكذا. وإنني لا أذكر كيف كان السفر ينقلون خبر تنقله. كيف يقطع المسافة التي يقطعها الناس في ساعات فيقطعها هو يوما كاملا، لا يمر بشجرة إلاّ ويقعد فيها فيتحلق حوله الرعيان، ولا يلم بمحطة استراحة ألاّ ويطيل فيها المكث فيتحلق حوله المسافرون، ولا يمر به عابر سبيل إلا ويستضيفه، وكان في أوقات كثيرة يستظل في جرف من الجبل، أو نفق من الأرض فيقيِّل ويستضيف أي مسافر عابر ليقيل معه. وكم كان الكثيرون يتمنون أن يجدوه في طريقهم فيصرفون معه الوقت ويصغون إلى حديثه العذب اللذيذ. وطالما سمعت تلك الأحاديث، وطالما تاقت نفسي أن أكون معه فاستروح نسماته واستظل بفيئه. وقد كدت أن أنعم بهذه الرفقة ذات يوم لكن لم يحالفني الحظ فشعرت بحزن شديد ما يزال مذاقه يقطر مرارة في فمي حتى الآن.

هذه الحركة الدائبة القلقة علمته الحياة، ووصلته البسطاء من الناس، فعرف توجهاتهم الحقيقية، وبنى عليها خططه.

(3)

كان أخي “عباس” قد تأثر في وقت مبكر بأفكار والده الإصلاحية، القائمة على حفظ الشريعة النقية و “نظام الإسلام الشوروي الانتخابي، وتنظيف الحكم الزيدي مما عراه من انحرافات أهمها إلغاء “دولة اليمن الإسلامية” -كما كانت تسمى به عند قيام الحكم المتوكلي- وقيام “المملكة المتوكلية”، أي إلغاء “نظام الشورى” وإحلال “نظام الوراثة- ولاية العهد” محله. ومضى على تلك الرؤية حينا.

وفي أحدى زياراته لـ “صنعاء” التقي بالشهيدين “أحمد المطاع” و “عبد الوهاب نعمان” وعقدت بينهم صداقة عميقة، وكانا يقيلان معه في “دار الصياد” ويتبدلان الأحاديث حول الأوضاع السيئة وكيف طريق الخلاص منها، ومن خلال الحوار اطلع على معارضة جديدة اسمها “القضية الوطنية” فتأثر بها أيضا، وعرف من خلالها شيئا يرفد الإصلاح الديني ولا يعارضه، ويتماشى معه ولا يقف ضده، فقد كان الشهيدان “عبد الوهاب” والمطاع” أيضا يتفقان مع نظرية والده الإصلاحية، ويضيفان إليها بعداً يمنياً، ولم تكن “الوطنية” بالشكل الانعزالي الحاد الذي هي عليه.

إلى جانب ما استقاه من والده من معالجة الانحراف السياسي فيزداد علما بما حوله، أضاف إلى ذلك كله ما سمعه من شيخي الوطنية “احمد المطاع”، و “عبد الوهاب نعمان” فتكونت لديه معرفة متميزة: عرف ما عند الناس من تضليل ديني وغباء وطني، وعرف عن والده مخالفة الحكم السياسي لنظام الشورى وظن أنه بهذين الجناحين سيحلق اليمن في آفاق المستقبل النقي، ولكن لا الإصلاح الديني ولا الوطني أثر في وعي الجماهير، وجاءت “الثورة الدستورية” لتؤكد ما بدأ يعيه. أدرك أن عقلية المواطن العادي بقيت صلبة لا تمتص حديث الأخطاء الدينية ولا الإصلاح الديني، ولا التغيير الوطني، إن كلا التفكيرين لم يدخلا في دماغ المسحوقين البسطاء؛ فالثورة الدينية يدركها النخبة، ولا يعرفها البسطاء الذين هم متخمون بالشكلية ، يرون الظلمة يصلون ويصومون ويحجون بل وقد يبالغون في الشعائر، فيكتفون بها ولا يسألون أنفسهم عما وراء ذلك من ظلم وتخلف. فلم تؤثر فيهم دعوات العلماء الثوار. والإمام يحيى له مكانة دينية تصل به إلى درجة القداسة وعندما قتل الإمام “يحيى” التهب حس الثأر للانتقام للإمام القديس عندما وجدوا القائد المهاب.

ولم تكن “الثورة الوطنية” أكثر حظا في تأثيرها من سابقتها، إنها في واد آخر تماما، ومن ثم بقي حس الجماهير المسحوقة مقفلا غبيا كما كان. وكان الخطأ أن تلك الأفكار انحصرت في الأفاق السامية، والأبراج العالية بدون أن تلامس حس القاعدة العريضة وتنورها. ومن هنا قرر عباس أن يعيد صياغة وسائله على منطق الثورة الدينية وعلى منطق الثورة الوطنية، وأدرك أن ترديد النظريات نوع من الركود، وهو لا يحب الركود.  ونذر نفسه لمهمة أخرى كما سيأتي.

(4)

كان هناك إذن خطان متلازمان متناغمان، خط يضع أولوياته “وطن -إسلام”، وخط يضع “إسلام –وطن”، وكلاهما متفقان، بيد أن أولوية أخي “عباس” يتمثل في خط وطن يتكيف وفق الإسلام الصحيح، وأولوية أخي “إبراهيم” يتمثل في خط إسلام يكيف وطنا، ولم يكن بين الخطين تنافر، وإنما كانت هناك حسابات أولويات، بمعنى آخر كان “عباس” يمثل “رجل دولة” يتعامل مع المكائد والتقلبات بيد مرنة تحاول توظيف ما يجري لصالح خطه، بينما كان “إبراهيم” يمثل “زعامة شعبية” صلبة، وأظهر التوجهان نفسيهما في أكثر من موقف، وإذ فضل “عباس” أن يضع مجال تعاونه في حدود قضية ومعتقد، فضل “إبراهيم” مجال تعاونه في حدود معتقد ومعتقد، من هنا عندما كان “إبراهيم”  بالقرب من تخوم الاشتراكية- والاشتراكية أيضا معتقد- كانت العدالة الاجتماعية في الإسلام هي التي تدفعه في ذلك الاتجاه فيتقارب مع من يعتنق هذا الخط، بينما لم يكن “عباس” ليشترط المعتقد مع من يتعاون، وإنما الإخلاص والثبات في القضية المشتركة، سواء أكان الشخص شيوعيا أو رأس ماليا، يمينيا أو يساريا؛ فالإيمان بالقضية هي الجامع المشترك، ليس ثمة من شرط إلا الصدق والثبات وعدم التقلب للوصول إلى الشاطئ الموعود.

وللحديث عنه بقية

عبد الله بن علي الوزير رسالة إلى عبد الله الحكيمي

عبد الواسع الواسعي، تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن، الدار اليمنية: الطبعة الثالثة1402ه /1982م ،

علي محمد عبده، لمحات من تاريخ حركة الأحرار في اليمن، صنعاء:المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، و منتدى النعمان الثقافي للشباب، الطبعة الأولى 2003، ج1،

محمد زبارة، أئمة اليمن بالقرن الرابع عشر للهجرة –الفاتح الشهيد، القاهرة: المطبعة السلفية بدون تاريخ ولا رقم الطبعة؛

مركز الدراسات والبحوث اليمني “ثورة 1948 الميلاد والمسيرة والمؤشرات “. بيروت: دار العودة الطبعة الأولى 1982م

يحيى زبارة ، مذكرات يحيى زبارة مجلة المسار العدد 16 -17

***

صنع في اليمن .. الحلقة ( 7 )

الفرسان الثلاثة .. تتمة السجين المقاوم

في الحديث السابق ركزت على جواب الأخ الكريم عن أخي “عباس” وجده ووصلت معه إلى قيام الثورة كخلفية يفهم منها خط سيره الثوري. وفي هذا الحديث لم يعد وحده فارس الميدان، فقد انضم إليه -عقب سقوط الثورة- مقاومان باسلان، احدهما من المدرسة الإصلاحية والثاني من المدرسة الوطنية، ومضى الثلاثة في رحلة عذاب موجع انتهت بهم إلى أعماق “سجون حجة” والى استشهاد الفارس الثالث.

عندما سقطت “الثورة الدستورية” كان أخي “عباس” وابن عمى “أحمد بن محمد الوزير” وخالي “عبد الله بن حسن أبو راس”، في “صنعاء” عندما بدأت عاصفة النهب تهب عليها دمارا وحريقا وسلبا ونهبا وهتك أعراض، وفي الجو العاصف تفرقت بنا طرق النجاة، فبينما قرر الفرسان الثلاثة الهرب إلى “عدن” لاستئناف النضال من هناك، غادرنا صنعاء تلقاء “الهجرة” بعوالنا في سرية ووضع تعيس، وفي محن ضغط شماتة عدو مبتهج، وحزن صديق متكتم، وركب خائف يترقب.

كان الخال الشهيد “عبد الله” من أوائل من هرب في العهد المتوكلي هو والمرحوم مطيع دماج إلى عدن وبدا ينشران المقالات ضد النظام المتوكلي، وكان له معاريف بعدن سوف يرحبون بهم عند وصولهم ويفتحون لهم صحفهم  كما كان شأن عدن- منارة التنوير- دائما.

وقبل مغادرتهم جاء إلينا أخي «عباس» للمرة الأخيرة، ونحن مختبئين في بيت السادة الكرام “أل المحاقري” وقد غير ملابسه تماما، مرتديا ثيابا رثة، وحذاء باليا، وسماطة ممزقة كأنه من الفقراء أو طلبة العلم البائسين وبيده عصى يتكئ عليه متظاهرا بالعرج، حتى أن “رتبة بيت المحاقري” كانوا سيطلقون عليه الرصاص لولا أنهم شاهدوه يعرج في مشيته، وأن هيئته تدل على أنه «مطلِّب» فقير، يفتش عما يسد به رمقه، فلما قرع الباب أعلن عن اسمه، فدخل إلينا، وأعلن أنه والخال «عبد الله أبو راس» والأخ «أحمد بن محمد الوزير» قرروا الفرار إلى «عدن». ولم يمكث أخي «عباس» إلاَّ قليلا معنا، ثم أخذ عصاه وغادرنا بين دموعنا وتضرعاتنا إلى الله أن يحميهم و ينجيهم، ولم نعد نعرف عنهم شيئا إلاَّ بعد حين عندما ألقي عليهم القبض في «معبر» فأعيدوا بالسلاسل والأغلال إلى “سجن القلعة” ثم إلى «سجن قاهرة حجة».

يعد مغادرتهم بأيام غادرنا “صنعاء” إلى “هجرة السر” على حمر أرسلها أخونا الأكبر مع أصحاب لنا من الهجرة، فخرجنا في حالة مزرية ، ولم تكد تستقر بنا الركاب الحزينة في “السر” في بيت بني عمنا، ولم نكد نخلص من خبر اعتقال أخي “أحمد” وابن عم لنا “عبد الملك” حتى جاءنا الخبر بأنه ألقي القبض على أخي “عباس” وابن عمي “أحمد بن محمد الوزير” وخالي “عبد الله بن حسن أبو رأس” في “جهران” وأنهم أعيدوا إلى “سجن القلعة” مقيدين بالسلاسل، وأنه عند وصولهم “صنعاء” دردح بهم في الشوارع، وبُصق عليهم، ورشقوا بالأحجار قبل أن يساقوا إلى “حجة” مع غيرهم من “الدستوريين”، وقد روى قصتهم بتفصيل العلامة “أحمد بن محمد الوزير” في كتابه “حياة الأمير-كما سمعت ورأيت”، من الخير أن تأتي بها هنا.

قال رحمه الله”

 (بعد الاطمئنان على بقاء العوائل والأولاد في أيد أمينة لدن “آل المحاقري” الكرام قررنا الأخ عباس وأنا الفرار إلى عدن؛ فأبدينا رأينا على النقيب الشهيد الوفي “عبد الله بن حسن بن قائد أبو راس”  فأيد الفكرة- وكان قد دخل صنعاء في نفس اليوم الذي دخلت فيه القبائل ووصل إلينا إلى الأبهر- وعرض فكرة الذهاب إلى برط بدلا عن عدن، لكن خشينا أن يطاردنا الإمام أحمد إلى هناك، فقررنا الاتجاه إلى “عدن” وخرج ثلاثتنا من صنعاء مشيا على الأقدام في اتجاه معبر. وكنا قد انضممنا إلى ركب هاربين مجهولين يقدر عددهم بحوالي ستين شخصا لم نعرف أحدا منهم إلا الحاج “حسين الصنعاني” صهر الوالد “محمد بن أحمد الوزير” فعرفناه ولم يعرفنا وكان يحاول أن يتملص من أي تهمة تلصق به بسبب مصاهرته هذه، فكان يحاول- وهو يحدثني والأخ “عباس”- أن يبعد المسئولية عن الوالد محمد بن أحمد الوزير وحتى عن الإمام عبد الله ويحملها على “الأمير” فشن حملة عليه وهو يحدث الأخ عباس بلهجته الذمارية القارصة قائلا: “ايش يشتي علي الوزير قد كان دوله ومزيكه… فضولي” الخ. وكان الأخ عباس وأنا نردد كلماته صابرين. وكم خجل- رحمه الله- عندما عرف من نحن وقال: على الأقل لو عرفتكم ما صحبتكم وما سجنت، ولما وصلنا معبر بعد تعب مرهق دخلنا أحد مقاهيها لنأخذ قسطا من الراحة فإذا بالجنود يفاجئوننا فيأخذوننا ألي السجن جميعا مع أكثر من ستين شخصا كنا رفاقا في الطريق من “حزيز” وقد وجدنا بالسجن “العزي صالح السنيدار” وقد أطلق سراح أولئك السجناء جميعا ما عدانا الثلاثة والحاج الصنعاني والعزي السنيدار ثم جاءوا بالشيخ “مجلي” احد مشايخ رداع الذي وصل من صنعاء هاربا، وكان الجنود يلقون القبض على كل واصل من صنعاء ليتحققوا من معرفته.

(وكان ضمن من أطلق سراحهم الشهيد “عبد الله بن حسن أبو راس” لعدم معرفة شخصيته، ولأنه انتحل اسما آخر من أسماء “آل ثوابه” الساكنين في “سمارة” ولكنه أصر على أن لا يترك رفيقيه؛ فكلم مدير السجن “احمد صالح الجايفي” ذلك الرجل اللئيم، وقال له: إن بالسجن مهاجرين يقصدان ذمار- ويعني بهما نحن- لطلب العلم، وأنه لا يجوز اعتقالهما، ومن المصادفة أن مدير السجن يعرف كاتب هذه السطور إذ كان ذلك اللئيم من حرس الأمير سابقا “بدار النصر” بتعز، وما أن أكمل النقيب عبد الله طلبه حتى قال انه يريد أن ينظر الرجلين ليتحقق منهما ولو لم يكن على معرفة بي لاعتقدنا حقا من المهاجرين الضعفاء لمنظرنا المنهك وملابسنا الرثةأ وقصد غرفتنا فما إن وقع بصره علي حتى اقبل مسلما واخذ يدي وقبلها ونادى باسمي الصريح فقلت له: انك غالط ولا أعرف من “أحمد الوزير”؟ فقال: لا. أنا أعرفكم من دار النصر أنت بنفسك وطلب معرفة اسم الأخ “عباس” فأردت إخفاءه لينجو بنفسه فقلت انه مهاجر يقصد ذمار، لكن الأخ عباس أتته نخوته المعتادة وشجاعته فما سمعته إلا قائلا: “أنا عباس بن علي الوزير”، فما إن سمع اللئيم بذلك حتى قام موليا وجهه إلى حاكم ووكيل عام الجهة السيد “حسين محمد الكبسي” وأمر في الحال بإلقاء القبض على النقيب “عبد الله” على انه أحد آل أبو راس ووضعت القيود في رجليه من جديد كما ارجعوا حسين الصنعاني ووضعوا القيود في رجليه.

(وكان الأخ عباس قد وعده بان يعطيه ما لدينا من مال وذهب بغية فك سراحنا فوعد بذلك. ولكنه لم يكد يستلم المبلغ حتى خان عهده. وكان يطمع أن يعطيه “السيف الحسن” مبلغا آخر، فيكون قد حوى المال من أطرافه. لكن الحسن خيب ظنه ولم يعطه شيئا فباء يخسر الدنيا والآخرة.

(وما إن سمع الناس بان “أبناء الوزير” بالسجن حتى هرعوا من المدينة وما حولها إلى باب السجن للتعرف على هؤلاء أبناء الوزير الذين أحدثوا الحدث المنكر والداهية الدهياء..

(وما إن اقبل الليل حتى جاءت مجموعات من أنحاء “جهران” و”بلاد الروس” يرأسهم ابن الشيخ “القفري” بزواملهم متتابعين، كل فئة تريد اخذ “أبناء الوزير” بيدها كأنما هم غنيمة ضخمة أو سلعة ثمينة. وقد كان الحوار بين الفئات ينذر بالاحتدام. وما إن جاء الفجر حتى جاءت سيارة نقل وفيها أكثر من عشرة جنود من حرس الإمام يحيى قد أرسلهم السيف الحسن لإيصال الغنيمة. ولم نشعر في الصباح الباكر إلا وفي باب السجن المظلم القذر- الذي لم نذق فيه طعما للمنام لكثرة ما به من قمل وبق وبعوض وقاذورات- عشرات من الناس المدججين بالسلاح، وقد اتخذ جنود الحراسة الشاكون سلاحهم مواقفهم على الأبواب والسطوح والجدران تحمى السجن خوفا وخشية أن يقتحمه الرجال المسلحون فيأخذوا المساجين ويفتكوا بهم.

(ثم جاء الحاكم وطلب أبناء الوزير إليه وتحدث معنا واهتم بسؤاله عن الأخ “عبد الله بن علي” وهل يؤمل عودته؟ فقلت له: ربما عاد الأخ عبد الله وكان يعتقد أن سقوط صنعاء لا يعني النهاية. وكان يحسب حسابا لعودة الأخ عبد الله (وقد بقي الأخ عبد الله فترة من الزمن تنسج حوله الأساطير)، ثم أعادنا إلى السجن في غرفة منفردة، كما أمر بنقل وإبقاء العزي” صالح السنيدار” وصاحبنا “الصنعاني” والشيخ “مجلي” بالبقاء معنا وشرع يصلح بين المتخاصمين الذين يريدون أن يتولوا شرف تسليم الضحية إلى طالبها.. وتم الاتفاق معهم على أن يصحب السجناء الستة: -ابني الوزير وابن أبو راس والسنيدار والصنعاني ومجلي- مدير السجن “احمد صالح الجائفي” والشيخ “القفري” ومجموعة من أصحابهما، وبعض مشائخ جهران مع الجنود العشرة الذين جاءوا خصيصا من صنعاء. وما إن تم ذلك حتى استدعوا الستة واحدا واحدا واخذوا في وضع القيود في الأرجل، وتركيب المغالق في الأيدي، وأرادوا منا بعد ذلك أن نمشي وكان من ألطاف الله أن المغلقة التي ركبت على يدي واسعة الفوهة فما أحسست بها. أما الأخوان فقد جرحت أيديهم وسالت منها الدماء.

الطواف بنا في الشوارع

(ووصلنا صنعاء منهكين مرهقين، وجاءوا بنا إلى باب “قصر السعادة” ليشاهدنا السيف الحسن على تلك الحال فقيل لهم انه مضاف في “بيت إسحاق” فتحولت السيارة إلى هناك. وصادف أن “الحسن” كان عائدا من صلاة الظهر بمسجد الرحمة حيث قبر والده؛ فأمر بان تنرل السنيدار من السيارة ويدوروا به في شوارع صنعاء منفردا لتتلقفه الجماهير بالشتم والبصاق فيما يسمى (بالدرداح) ثم يرسل إلى القلعة، وأمر بنا و “النقيب عبد الله” إلى سجن القلعة، و”مجلي” و”الصنعاني” إلى “سجن الرادع”.

(ودخلنا القلعة وكانت مكتظة بالنزلاء المساجين من أتباع وأنصار وقادة الثورة. ووجدنا الأخ ” محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الوادعي” ذلك الرجل الذي قتل ” المهتدي” وحكم عليه الأمير بالإعدام، فخفنا أن ينال منا، لكنه كان كريما فاستقبلنا أحسن استقبال وخفف أوجاعنا ودهننا بالسمن لتخفيف الجراح.

(ولم نشعر في اليوم الثاني أو الثالث إلا ومناديا ينادي “أبناء الوزير” و” ابن أبو راس” فخرجنا وودعنا رفاقنا في الغرفة. وقيل لنا أننا مسافرون إلى حجة فما كدنا نخرج من باب  السجن حتى رأيت “المغالق” أمامي، وكانت المغالق تفك عنا عند الدخول في السجن أما القيود فثابتة لا تريم، فضربت على أيدينا نحن الثلاثة، لكن القدر لم يسمح هذه المرة بان تكون مغلقتي كسابقتها ارتخاء؛ فجرحت يدي منذ البداية وأسالت الدماء. وكانوا قد ادخلوا من أبناء السوقة والشارع ليزفونا بالبذاء وطافوا بنا في القصر، وأراد جندي أن يهين النقيب الشهيد “عبد الله ابو راس” فضربه هذا بقبضة المغلقة على رأسه وبعدها لم نعرف ماذا جرى فقد لفتنا عاصفة من الركض والضرب. وقال الأخ عباس: انه لم يعد يشاهد النقيب عبد الله إلا كعجلة تلف حول نفسها. وأصابتني ركلة شديدة وضربة على الرأس لا تزال آثارها إلى الآن، وأصاب الأخ “عباس” ركضة فوق الكلية سقط على أثرها إلى الأرض وظل يعاني منها حتى مات- بعد فترة طويلة- رحمه الله. لكن الأكثر كانت حول النقيب الشهيد. ووقعنا كلنا على الأرض منهوكين. ثم هدأت العاصفة وأمرونا بأن نمشي وسط الشتم والبصق والحجارة حتى مروا بنا أمام القادة المنتصرين “العباس” و”يحيى” ليشمتا بنا. أما العباس فقد وقف يرانا ضاحكا ساخرا، وأما السيف “يحيى” فترك أخاه وغادر مجلسه ولم ينظر إلينا. وكان معروفا بعداوته الشريفة وتنزهه عن هذه المواقف ولا اعرف لماذا حضر. ولعله لم يكن يدري.

(وعندما مررنا أمام السيف “العباس” أشار إلى من حولنا بالشتم والضرب فعادت العاصفة تلوي بنا من جديد نالنا منها ما الله يعلمه، وسالت دماؤنا مرة أخرى، وساقونا وسط هذا العذاب منهكين محطمين نمشي على جراحنا حتى القوا بنا رميا إلى داخل سيارة نقل تقف بجانب سيارة أخرى تحمل دفعة أخرى من المساجين عرفنا منهم بعض الأخوة “علي عقبات” ” والصفي محبوب” و “محمد السياغي” و “محسن علي هارون”.

(وطافوا بنا شوارع صنعاء وسط الضجيج والصراخ وأوصلونا إلى باب ” قصر السعادة ” وأوقفونا تحت الشمس والغبار وصراخ الغوغاء، واطل علينا السيف “الحسن” من نافذة المكان الذي كان يطل منه والده القتيل عندما كان يستعرض الجيش المتوكلي ليستعرضنا نحن الأسرى هذه المرة، ولم يسعني بعد العذاب المرير إلا أن أقف أناديه بأعلى صوتي: (اتق الله وعاملنا على الأقل معاملة البغاة إن كنت ترى ذلك، أو فأمر بإطلاق الرصاص علينا” فأشار إلى جنوده بإرجاعنا إلى سجن قصر غمدان فعدنا كما جئنا: استقبلتنا الغوغاء بالصراخ والرجم والشتم والبصاق وقذفونا بالحجارة وبصقوا علينا فدميت منا الأجسام، وسالت دماؤنا، وأوصلونا إلى القلعة وسط هذا الصخب والجماهير المحمومة ترمينا بكل ما تصل أيليه أيديهم من حجارة ونعال وحصى. وأدخلونا القلعة ولم يزيلوا ما بأيدينا من المغالق هذه المرة. وقد رأيت من بالسيارتين الأخريين فكنت أميز بعد تحديق ومن خلال الغبار الملتصق بالدم والعرق وجوه بقية المعذبين “الصفي محبوب” و “العزي صالح السنيدار ” و”ابن هارون ” وغيرهم. ولاشك أنهم كانوا يروننا أيضا ويميزوننا بعد تعب، لأنني لاحظت أنهم يحدقون بنا ويشيرون إلينا.

السفر إلى حجة

 (تركونا على تلك الحال حتى الساعة الحادية عشرة قبل الغروب أي حوالي الساعة الخامسة بالتوقيت الشمسي فإذا بالجنود ينادوا على أبناء الوزير وابن أبو راس. وإذا بالسيد يحيى النهاري بباب القلعة “بمحل الرسم” أي السجانين فأمر بإزالة المغالق من أبناء الوزير تكريما منه لأنه كان يجل الأمير كثيرا، وقد أحسن إليه الأمير أيام زيارته له بتعز، وكأن الله سبحانه وتعالى قد رحمني لما كنت أجد من شدة ووجع بالغين لأثر تلك المغلقة. وفي خلال إزالتها أخذت معها قطعة من البشرة العليا من طرف الذراع فيما يلي الكف فانهمر الدم بدون أي محاولة لإيقافه بالطبع.

(وكان في انتظارنا أيضا ذلك الرجل اللئيم “احمد صالح الجائفي” داخل سيارة نقل حيث وضعونا فيها فوجدنا الشيخ “محسن بن علي هارون” والسيد “علي عقبات” و “الصفي محبوب ” والقاضي ” محمد بن احمد السياغي” و” غالب الشرعي” والى جانب سيارتنا سيارة أخرى حملت مجموعة من المساجين “محمد حسن الزهيري” أحد معلمي المدارس الابتدائية آنذاك و”علي السمان” كاتب في إدارة السيارات آنذاك، ووزير للعدل والأوقاف فيما بعد، واللواء “محمد السري” والمشير “إسماعيل المسوري” و” محمد هاشم ” و” عزيز يعني” وآخرين، ومعهم جنود؛ فانطلقت السيارتان نحو “عمران” فوصلناها حوالي الخامسة ليلا- أي الحادية عشرة بالتوقيت الشمسي أو السادسة- الثانية عشرة – وقد بلغ التعب والإرهاق مبلغه فالطريق وعر وصعب. وكان سائقو السيارة يسرعون بسرعة جنونية فوق الأحجار والصخور و” العروم ” -مفرد عريم- فتثب السيارة وثبات قوية وترفعنا وتخفضنا وتقلبنا ذات اليمن وذات الشمال والحرس باسطون أيديهم لا يقدمون معونة، ولا يمسكون أحدا. تلعب بنا حركات السيارة لعب الكرة.

في عمران: يرفضون مساعدتنا على الصلاة

 (فور وصولنا عمران طلبنا أن يمضوا بنا إلى المسجد لأداء الصلاة، أو يأتوا لنا بماء للوضوء فأبوا؛ فطلبنا ترابا للتيمم فأبوا أيضا؛ فأدينا الصلاة قعودا، يؤمنا فضيلة الحافظ الصفي احمد محبوب، على الحالة، ولم نستطع أن نؤديها قياما لما بنا من إرهاق ونصب وتعب. وقد أحسست ببرد شديد لم اعرف مثله، ولكن الله رحمني فهيأ رجلا ممن كانوا يدخلون علينا من أهالي عمران فجاء لي بـ “كرتية”  جديدة من صوف الغنم اشتملت بها على سائر جسدي، فنمت إلى الصباح الباكر واستيقظت مع المجموعة لأداء فريضة الفجر على الحالة بدون وضوء ولا تيمم.

(ثم استدعونا للركوب على السيارتين فشحنونا فيها كالسلع، وانطلقت بنا إلى “كحلان عفار” وهناك أنزلونا في “سمسرة”  وجاءوا لنا بغداء فأمسينا ليلتنا إلى الصباح وغادرناها متجهين إلى حجة. ولكن حدث في أثناء الطريق أن توقفت السيارتان فجأة. فقد وصل الحاج ” احمد قلالة” من حجة على سيارة جيب يجر خلفه عربة من اللاتي يحملن الأمتعة ونادى متهكما: أين سيوف الإسلام  أبناء الوزير؟ فأنزلونا من السيارة، وأوصلونا إليه، فدعا بالنقيب “عبد الله أبو راس” ثم بالشيخ “محسن هارون” ثم ” بعلي عقبات” ثم ” بالصفي محبوب”، فأدخلونا في العربة المكشوفة المربوطة بالسيارة الجيب، ثم أطلق النار في الهواء إرهابا وترويعا، ثم ركب مع الشيخ “ناصر بن علي البخيتي” أحد مشايخ الحداء- والذي لم نره إلا تلك اللحظة- في سيارة الجيب، وانطلقوا بنا إلى ساحة “قصر سعدان” قصر الإمام احمد بحجة. وكان الحاج قلالة في أثناء الطريق يوبخنا ويقرع “الصفي محبوب” ويوبخ ” علي عقبات ” ويتهكم بالشيخ “محسن هارون” ومعروف أن ولده قد قتل مع الإمام يحيى في عربته فهو بذلك ينفس عن حقد. ولهذا السبب اختاروه أن يرافقنا لينزل بنا من الكلام والتقريع ما فيه الكفاية. والحق يقال أن الحاج احمد رجل فاضل وقد مرت الأيام وذهب اثر الغيض فكان صديقا كريما. وقد فتح الله عليه أبواب رزقه فكان من المتصدقين البارين بالضعفاء رحمه الله.

اللقاء بالأمير في المعتقل

(أوقفونا في ساحة قصر الإمام لمدة نصف ساعة ريثما دخل الحاج “أحمد” إلى القصر ليقابل الأميرين “المطهر بن يحيى” و”البدر بن الإمام أحمد” وبقينا تحت الشمس حوالي نصف ساعة، ثم خرج ومعه رجل يدعى “توفيق” يعمل سكرتيرا ” للعجا” وكيل الإمام احمد الخاص على أمواله، فأمر بي وبالأخ عباس أن نتحول من العربة المكشوفة إلى سيارة الجيب، ثم فصلوا العربتين بعنف وفجأة مما سبب سقوط الآخرين فيها على الأرض حيث أن العربة على عجلتين فقط، ثم أمرونا أن نصعد على “الجيب” إلى معتقل القاهرة حيث الآباء والإخوان الذين سبقونا لنكون معهم. أما الإخوة فقد أمروا بهم إلى “حبس نافع” الرهيب، وكذلك من كان بالسيارتين المتأخرتين. وكان وصولنا قاهرة حجة لعله في 13 جمادى الأولى 1367[24 مارس 1948] وعند نزولنا من السيارة الجيب بباب القاهرة استلمنا من الحاج “قلالة” شاويش السجن “صالح النهدي” من بلوك “علي بن علي الفقيه” من “بني بهلول” وأصحابه، وأدخلونا على الآباء والأخوان ويعلم الله مدى دهشتي عندما رأيت عمي الأمير الجليل مكبلا بالقيود مع كبار عشيرتي وأسرتي، ما عدى أخي العزي “محمد بن محمد” فلم يحملوه قيدا، والإمام العظيم “عبد الله بن أحمد”، وأخيه العلامة “محمد بن أحمد”  والوالد البطل “مُحمد بن علي” والأخ الشهيد البطل “عبد الله بن محمد الوزير” والأخ العلامة “أحمد بن مُحمد بن علي الوزير” والأخ الأديب “عبد الصمد بن محمد بن علي الوزير”) . انتهى مارواه المرحوم

وأغلق عليهما في السجن لمدة سنوات، في خلالها بل وفي أيامهما الأولى أمكن أخي “إبراهيم” التواصل بهم وجرى الحوار بينهم, أما ثالث الفرسان شهيد الدستور وشهيد الوفاء عبد الله ابوراس فقد أودع سجن نافع، وأستشهد هو والخال محمد يوم الجمعة 29 جمادة الأولى 1367ه/ 9 ابريل 1048م  مع شهداء آخرين هم: “محمد بن علي الوزير”، “أحمد البراق” و “أحمد المطاع” و “الشيخ الشايف”.

ولم يلن العزم، ولم تتحطم الإرادة، رغم الهول وقتل الآباء ورجال الدستور زعماء الإصلاح، بل استمد المقاومون من تلك الدماء الدستورية وقودا للسير في طريق المستقبل. وفي هذا الطريق مضوا يحققون أهدافهم بعناد ولم يغمدوا قلما، ولا ترجلوا من صهوة. كانوا بحق فرسانا، كما ستتحدث عنهم الفصول التالية.

***

صنع في اليمن .. الحلقة ( 8 )

 المعاناة

قدمت فيما سلف جانبا من المعاناة التي قاسيناها فجر عمل المقاومة، وذكرت إلى جانب النضال السياسي معاناة الفقر والجوع و الإذلال حيث لم يكن لنا من ثياب إلا التي علينا وأننا لم نعد نعرف مذاق اللحم  إلا نادرا، وأن طعامنا كان الخبز الجاف و “القفوعة القافحة” نأكلها على “المطيط القافحة”  و “الحلبة” بالماء الفائر، بدون مرق الخ ، واليوم سأروي معاناة من نوع أخر من المعاناة لا بهدف ما قاله الشاعر “أحيحة بن الجلاح”

مَهلاً بَني عَمِّنا فَإِنَّكُم    أجَرتُم في الضَلالِ فَاِقتَصِروا

ولكن من اجل التاريخ واستخلاص العبر والعظات، حتى لا تتكرر المظالم بين الناس، وحتى لا تختفي الجرائر عن أعينهم في طي النسيان فلا يتجنبونها ولا يستفيدون من عظاتها، ويعلم ألله أنني ما كنت أرغب في الحديث عنها من أجل ما حل بنا من قسوة، ولكن ليستفيد من ينوي الظلم أن يتجنبها، ويتجنب آثامها ويعرف أنه بمظالمه يعلِّم الناس كيف يظلمونه، وأن مظالمه دروسا يطبقونها عليه إذا دال أمره.

وألفت النظر- للعبرة والعظة- أن المظالم التي أنزلت كانت على من لم يبلغ سن الرشد ولم يتجاوز الثامنة من عمره، ولم يكن شريكا في العمل لقيام الثورة الدستورية. أما الذين قاموا بالثورة فقد اعدم كبار قادتها وسجن البعض وتشرد البعض، فما بال الرضع والأطفال والنساء والعجزة.  ومع ذلك فلم أنو كتابة ما اكتب من اجل ما حدث بنا- ولي الحق في ذلك-  وإنما من أجل إلا تتكرر المظالم التي يمارسها أي ظالم، فالتاريخ عبر وعظات.                 

التيفوئيد

إلى جاب المضايقات النفسية  وقعنا-أختي حورية وأنا- طريحي الفراش بمرض خطير “التيفوئيد”، ويدعى أيضا مرض السباعي لأنه يحل في الجسد أسبوعا فأما يشفى أو يموت ولا ثالث له، فراجعوا السيف “الحسن” بإرسال صحي لمعالجتنا، ولما وصل كان موضوع ضيافته مشكلة كبرى، فلا نملك قوتا يناسب ضيفا، وفي الوقت نفسه أبت نفوس العائلة أن تظهر له فقرنا وعوزنا وبؤس معيشتنا، فجاءت النجدة من بعض “أهل الهجرة” فزودنا بما يلزم من سمن وعسل الخ، وأمكن-بمساعدتهم الكريمة- تلافي مظهر الفقر، فقدمنا له فطورا لائقا، وليتنا لم نفعل، لأنه عندما عاد إلى “صنعاء” طلبه السيف “الحسن” ليسأله عن أحوالنا وطأنه أرسله ليستطع له حقيقة أحوالنا في داخل بيتنا، وإلا ما عرفناه يقابل صحيا، فقال له: أنه يتمتعون بعيش رغيد.

على كل حال لما شفيت أنا وأختي من هذا المرض، كنا نعيش في حالة جوع شديد، وكان شم الأكل يفتح الشهية بكل طاقتها ولم أطعم في حياتي زادا ألذ ولا أشهى من كسرات الخبز، أو قطعة اللحم إن تحصلنا عليها في تلك الفترة.

وفي خلال المرض لم نعد نعرف ما يجري، وعندما أفقنا، علمنا بأن الأخ “يحيى” قد أعطي الأمان، وزال عنه الخطر فخرج إلى الناس فرحا بحريته المحدودة. لكنه جوبه بمرض زوجته السيدة “خديجة الأهدل” بمرض في العظام يحرقها، لم يعرف سببه وكانت تعاني منه معاناة شديدة ولا من طبيب ولا من علاج، وكان المصدر المتوفر الطب الشعبي القائم على الوراثة وتشابه الأمراض والشعوذة، ، ولم يترك الأخ يحيى بابا إلا طرقة مع شدة فاقه وعزة نفس تمنعه من أن يمد يده إلى أحد سوى ما يأتيه من أمواله – التي لم تصادر- والذي كان منه أيضا يصرف علينا جميعا على قلته.

وأمرّ من التيفوئيد

وفي خلال هذه الأثناء قدم علينا الوالد العلامة “عبد الرحمن الشامي” لزيارة حفيدته من جهة الأم أختي “أم هاني”، لقد كنا في فقر مدقع فعلا، لم أعد أتذكر كيف استقبل ولكنه-وليته لم يفعل- ترك لنا طاقة بز “مريكني” نخيط منها ثيابا، أمر بها السيف “الحسن”، وهو نوع من الثياب الذي يلبسه الفقراء المدقعون، ولم وهو لم يكن يفعل في الماضي حيث كانت هداياه –ونحن لسنا بحاجة لها- من نوع آخر، أما اليوم ونحن بالحاجة إلى هدايا تليق بحالتنا النفسية ولا تعرضنا للإذلال، فقد كان من المفروض أن تكون في نفس المستوى الأول، أو على الأقل إلا تكون إطلاقا. وعلى كل فقد غادرنا رحمه الله مخلفا ورائه حسرة على فراق أختنا، وعلى ألم لما ترك من هدية أساءت إلينا.

 المقذي

        وفي مجتمع خلى من طبيب وخلى من علاجات أصبح للشعوذة مكان فسيح، وللسحر محال رحيب، وقد شاهدت المقذي وهو يتلو على أحد مريضاتنا ويمسح بالعطب الأبيض- بعد أن أرانا صفائه ونظافته- على صدر المريض وهو مستمر في التلاوة، ثم يبعدها عن صدره فإذا فيها دم اسود ويخبرنا أنه قد انتزع “العين”  الخبيثة، ويغادر المكان بعد أن يتقاضى أجرته. ومع أن بعض المرضى يحصلون على الشفاء بفعل مقاومة الجسم لمرضهم إلا أن فضل النتيجة تعود “للمقذي”، وإذا لم يشف المريض فهم يتطلبون “مقذيا” أقوى.

فيا ظمئ وهذا الماء جار

وصادف فترة موسم العنب. وبحكم مصادرة أموالنا فقد حرم علينا حتى جني عنقود من العنب. ويبدأ الخريف عادة من شهر مايو، ويستمر إلى نهاية سبتمبر وبعد شهر على فشل “الثورة الدستورية أي في شعبان/ مايو، بدأ موسم العنب، وكان غدقا مثمرا، وكنا نرى كل أموالنا من حولنا وعناقيد العنب تتدلى من غصونها فلا نقدر على المساس بها لا من خوف السلطة فقط، وإنما من جشع معظم الشركاء الذين كانوا يرفضون أن يمدونا حتى بتنكة عنب أيضا، وإزاء هذا قررنا السطو على ممتلكاتنا فكنا نذهب ومعنا تنكة فاضية فنملأها ونعود، وأحيانا نصدم بـ “الشريك” فندخل معه في معركة كلامية ونقول لهم: هذه أموالنا ولن يمنعنا عنها ظالم، أو يردنا عنها ظلم، وذات يوم ذهبنا – “إبراهيم” و “علي ابن محمد الكدف” وأنا، إلى مزرعة عنب فوجدنا “العجل” شريكنا في موضع “حق الغيثي”- وهي من أجود أنواع العنب، وقد أوصى بها أبي مخرفا لـ “أهل الهجرة”- ، وكان شيخا عجوزا، فطلبنا منه أن يسمح لنا بقطف بعض العناقيد أو يقوم هو به، فرفض رفضا باتا، وتلاسن مع الأخ “علي الكدف” ودنى منه “علي” ومسك بلحيته وقال له: استحي من هذا الشيب أن المال مالهم، وكأنه شد عليه فانقصفت بعض الشعيرات البيض، وقد رأيتها بين أصابع الأخ علي تتطاير، فرفع عصاه ليضربه فاحتضنه علي ورفعه إلى الهواء: وأبقاه على ما هو عليه بدون أن يلحق به أذى، فقال له: اتركني وإلا سأعيّب، قال: عيّب؛ فرفع صوته صارخا: ياعيباه، فخفنا أن تلتف علينا بعض أفراد أسرته فيلومننا وربما يلحقون بنا ضرار اعتمادا على الدولة ضدنا ومعهم، فتركناه وعدنا خائبين بدون عنب، وكان صوته ما يزال يعيّب عندما غبنا عنه، ولم يكن لحسن الحظ حوله أحد، وعندما جاء الليل جاء أبناؤه في المساء عاتبين علينا، غاضبين منا، وانتهى الحوار إلى أنهم سيزودوننا ببعض العنب ليلا بين الحين والأخر خوفا من  أن تعرف السلطة بذلك، ومرة ذهب أخواي “قاسم” و “محمد إلى “الشعب” وكان شركاؤه هم ابنا “العجل العجوز” نفسه، ورجعهم الشريك بعنف ولم يسمح حتى بعنقاد عنب واحد، فما كان من الإخوان إلا أن تسللوا إلى تحت “السريف” وقطفوا العناقيد وتركوها في الأرض وذهبوا، وذهب الشريك إلى العامل يشكو بهم، وكان صعبا على سمعة العامل أن يتخذ منا موقفا شديدا خشية ملامة الناس له، فوعده بضبط الأمر ولكنه أوعز إلى احدهم أن يسوي الأمر فسوي بنفس الطريقة التي سويت مع أبيهم، وهكذا كنا نظفر ببعض العنب.

وكانت هناك طريقة أخرى لأخذ العنب من الأماكن البعيدة، تولته أمي فكانت تستعير حمارا أو حمارين، وتهبط إلى “حقو الخير” ومعها بعض المرافقين فتصلي العشاء بجانب “البركة” بينما المرافقون يقطفون العنب والشركاء لا يتكلمون بشيء خجلا منها، ولطفا منهم.

على أن أصحابنا من “الهجرة” وهم لا يملكون إلا نزرا يسيرا من الأعناب كانوا يستضيفوننا إلى حقولهم أحيانا. كالعم المرحوم “علي بن حسن عثمان” الذي كان يستضيفنا إلى حظيرة عنب في “بير عقيل” وكذلك المرحوم  الأخ “عبد الله الغزي” رغم مرضه حيث كان يتحامل على نفسه ويذهب بنا إلى حظيرته فيقطف لنا ما شئنا من عناقيد العنب، أما العم “إسماعيل بن أحمد عثمان” وهو لا يملك إلا غرسة أو غرستين من العنب فقد أعطانا مفتاح كرمته لنأكل منها ما نشاء. لقد وهبنا كل ما يملكه حتى لا نحس بالحرمان من تذوق العنب. لقد كان أكرم من رأينا في حياتنا فعلا.

وكان بعض شركائنا الأخيار يصعد قبل الفجر في خوف وتوجس فيترك لنا تنكة من العنب أمام المنزل وينسل في جوف الليل راجعا. وفيما بعد عرفنا أنه الحاج “منصر” شريك الجوفية فرحمه الله. وذات يوم وقفت أمام البيت سيارة محملة بالعنب أرسلها السيف النبيل “يحيى” هدية لنا ولأولاد العم “مُحمد الوزير” من أعنابه بـ “وادي رما” فكنا نتقاسمها ونشرك معنا بعض أصدقائنا.وكان السيف “يحيى” هو الذي تمكن من الانقلاب على الثورة وألقى القبض على “إمام الدستور”، وكان هو الذي رفض بشجاعة أن يبايع الإمام الدستوري، لكنه كان يعاملنا كما كنا في الماضي بلا شماتة ولا احتقار، لقد كان يحارب بطبيعة فارس.

         على أن هناك بقيت شجيرات بلس التين مباحة فكنا نذهب إلى “باب القلت” فنجني منها ما يكفي لساعة الإفطار الرمضاني ونضعها في قصعة مفتوحة ونذهب إلى المسجد فنحطها فوق “سور الصوح” لتبرد وعندما يؤذن السيد “محمد عثمان” لـ “صلاة المغرب” كنا نتناول منها ويشاركنا فيها العم “عبد الوهاب الأشول” بوجهه الضاحك وقامته الطويلة.

والمعانات مستمرة  …

***

صنع في اليمن .. الحلقة ( 9 )

المعاناة مستمرة ..موت أختي

عندما استشهد والدي في شهر شعبان عام 1367/ يوليو 1948م أصاب أختي “أمة الخالق”- ذات التاسعة عشر ربيعا- حزن بالغ أفضى بها إلى مرض “الفشل الكلوي”، وذهب  أخي “إبراهيم” إلى “وادي ظهر” لمراجعة السيف “الحسن” ليأخذ أذنا بدخولها “صنعاء” وبعد أن قضى فترة، وهو يتردد على مقامه أجاب” : “إلى عامل السر لا بأس بدخول المريضة إلى صنعاء للمعالجة مع أحد محارمها، بدون أن يعيننا-وهو يعرف حالتنا وبؤسنا ومصادرة أراضينا وبيوتنا وثيابنا وأموالنا- بأي أمر بالمساعدة، وكان هناك سيارة نقل حكومية ستدخل “صنعاء” عليها حجار بيوتنا التي خربوها- فركبنا عليها هي، وأخوتي “إبراهيم” و “قاسم” وأنا، وغادرنا قبل الغروب، وما لبث أن هجم الليل علينا في الطريق، ثم ما لبثت السيارة أن توقفت، ولم يتمكنوا من  إصلاحها، وكان صعبا أن ننام في الخلاء البارد، فقرر أخي “إبراهيم” أن نمضي مشيا إلى “الروضة” وجاءت معنا جارية لبيت حميد الدين كانت في غاية اللطف والشفقة، ومعها بعض المرافقين لها من العسكر. كانت الطريق طويلة وممتدة، وكنا نحمل اختنا على ظهورنا تارة وتمشي تارة، وكان الليل مظلما، لا نكاد نتبين مواقع أقدامنا، ولولا أن الأرض كانت مستوية، لكان حالنا أكثر سوءا، وبعد تعب شديد وصلنا “الروضة” وتوجهت الجارية إلى القصر، وتوجهنا إلى “المقهاية” لكن صاحبها رفض استقبالنا بحجة أنه قد يؤاخذ على قبولنا بأننا من “بيت الوزير البغاة”، قتلة الإمام، فقررنا أن نذهب إلى صوح المسجد، ولكن أحد العكفة” -ربما أرسلته الجارية لتفقد حالنا- جاء وهدّد المقهوي، وطلب منه أن يفتح “المقهاية” ففتحها وسقطنا نياما من الإعياء حتى الصباح.

غادرنا “الروضة” في اليوم التالي إلى “صنعاء” مشيا على أقدامنا المتعبة، وفي الطريق جاءت سيارة نقل عليها السيف “العباس” فتوقفت أمام إشارات منا، وذهب أخي “قاسم” ومعه بعض المرافقين فكلمه بحدة، فأجاب أن السيارة ستعود وتأخذكم إلى “صنعاء” وهكذا تم، واستقرينا في “الأبهر” عند الأخ “عبد الرحمن”. وبدأت المعالجة. لكن المعالجة لم تجد نفعا، فعدنا إلى “الهجرة” واشتد المرض بأختي، وليس من علاج ولا طبيب. كان “مرض الاستسقاء” ينهك جسدها، ونفسيتها معا، وهو مرض يحتاج إلى أكل خاص، ومن أين الأكل الخاص؟ ونحن من أفقر الناس؟ وذات يوم مرضت مرضا شديدا حتى يأسنا منها. ولكن الله سلم، وأخبرنا ذو الخبرة من السكان أن المرض لا يجدي فيه شيئا سوى “لبن ناقة”، ومن أين “الناقة”؟ ومن سيصرف عليها؟ ونحن لا نكاد نطعم أنفسنا؟، ولا توجد نياق في السر، وإنما علينا أن نستأجر ناقة بمبلغ لا نقدر عليه، فراجعنا السيف “المطهر”-الذي ناب عن أخيه “الحسن” -وهو من السيوف غير الجارحة لطيفا مهذبا- فجاء أمره بالموافقة فاستأجرنا “ناقة” لهذا الغرض كنا نرعاها بالتناوب بين الأخوة وأبناء الأصدقاء فوصلت الناقة – الأمل. وكمعظم الآمال خاب الأمل، فقد جف لبنها بعد حين.

 في هذه الأثناء كان المرض قد أثخن في “أخي عباس” في “سجن حجة” فنقل إلى “مستشفى صنعاء” تحت الحراسة للمعالجة فطلب نقل أختي إلى “صنعاء” للمعالجة أيضا، فهرّبت إلى “صنعاء” في ليلة  من الليالي، حيث استأجرنا جملا تولى الحاجان “محمد القميحي” و “محمد فقيه”-رحمهما الله – وغيرهما الاتفاق مع صاحب الجمل أن يوصله إلى نقطة في السائلة خارج “الهجرة” ، ولما أكملوا عملهم ذهبوا في جنح الليل وحملوا أختي-سرا- إليه، واركبوها عليه، ومشى معها أخي “قاسم” على رجليه حوالي 25 كلم ممسكا بما تدلى من الهودج، بينما تولى صاحبه قيادة جمله بزمامه، وفي موضع يدعى “خشم البكرة” التقيت بالركب الحزين وهو يتهادى تحت أشعة الشمس المحرقة فسلمت على أخي “قاسم” ورفاقه، وسمعت أنينا خافتا يمنعه الحياء من الصياح يهبط على قلبي كمخلب طائر، كانت في طريقها إلى “صنعاء” وكنت في طريقي إلى “الهجرة”، وكان أخي “عباس” في المستشفى تحت الحراسة. ونزلت أختي عند بنات عمنا وشريكات أوجاعنا “أمة الله” و”أمة العزيز” ابنتي الوالد “عبد القدوس الوزير”. وبعد فترة اجتمعت كل الأسرة، وسمح لأخي “عباس” بالتردد المتقطع تحت الحراسة، واستأجرنا منزلا من تلك البيوت التي باعها “اليهود”.

وكانت أول تحيات «صنعاء» لنا أن هبط المطر ذات ليلة وابلا مدرارا، فلم نشعر إلا والبيت المجاور لنا ينهار جانبا بعد جانب فتنبعث من جراء الانهيارات أصوات مخيفة، وما لبث منزلنا أن بدأ بالتساقط، وانهار سقف الصوح وأصبحت الغرف التي نحن فيها مفتوحة على الريح والمطر، ونخاف سقوط الغرف علينا فابتهلنا إلى الله أن يقينا الخراب، وأن يرحم مرض أختنا التي لا تقدر على الحركة، والحال أننا نجهل إلى من نلتجئ؟ والناس يخافون أن يأووننا، ويدخلونا بيوتهم، ولكن لطف الله بنا وتوقف الخراب. ومع هذه الحالة بقي وكيل السيف “الحسن” يطالبنا بإيجاره ريال ونصف، وكان الدكتور “فينروني” رحمه الله يأتي لعيادته ويشاهد بقية من السقف ظل متماسكا، ولا أحد يدري متى يسقط، ولا فوق من سيقع.

وبعد فترة استأجرنا بيتا في نفس “قاع اليهود” من وكيل أملاك الإمام “أحمد” فنقلنا إليه، ومرت أشهر، ولم ندفع الإيجار، فهددنا وكيله بالطرد منه ، واشتبك مع أخي “إبراهيم” في شجار عنيف، وأنذرنا بإلقاء أثاثنا إلى الشارع، فذهب أخي “إبراهيم” إلى العلامة التقي “محمد بن محمد المنصور” وأبلغه بأننا سننتقل وعوائلنا إلى “الجامع الكبير” حتى يجعل الله لنا مخرجا، وفي الوقت نفسه أبرقت والدتي إلى الإمام برقية شديدة تقول فيها: لقد قتلتم الرجال وصادرتم الأموال أيتمتم الأطفال والنساء، واستأجرنا بيتا لنأوي إليه وعلمنا أنه لكم  وجاء وكيلكم يهددنا بالطرد ويرعد ويبرق  ونحن لن نخرج ولن نسلم إيجارا هو جزء تافه من حقنا وافعلوا ما شئتم”  فرد بأمر إلى الوكيل بأن يكف عنا الخطاب، وانفرج أمر السكن وبقيت علة المرض تنخر في الجسم الذاوي بدون أي علاج ناجح.

وتوالت الفجائع وجاء خبر استشهاد أخي “عبد الله” بـ “الهند” أواخر عام 1369/أغسطس1950، صاعقا لنا أثّر على صحة أختي المريضة، فضاعف الدكتور “فينروني” من رعايته، لكنه أمام تفاقم الحالة قرر ضرورة انتقالها إلى “الحديدة” ليساعد المناخ الحار على إفراز العرق بكثرة من داخل الجسم المنتفخ، وراجعنا الإمام «أحمد» بواسطة المرحوم «يحيى النهاري» فأحال الموضوع إلى أخيه«الحسن»، فتلقف الموضوع العلامة التقي «محمد المنصور» وأكمل المراجعة فانتهزها السيف «الحسن» فرصة لاعتقال أخي «إبراهيم» وتبييت أخي عباس، وأمر أن أسافر أنا معها، وعرض في الوقت نفسه ذهاب أخي “إبراهيم” سجن حجة في مقابل إطلاق سراح أخي “عباس” على حسب القاعدة المتوكلية (يطلق بغيره) فوافق الأخوَان، وراجعناه بسيارة إلى «الحديدة» فرفض وأمر بأن نحمل مع “غرائر القمح” في “سيارة نقل” تحمل الحبوب إلى “الحديدة» وأمر «نائب الحديدة» باجرا مرتب قدره أحد عشر ريال في الشهر وقدح إلاِّ ربع حبا (وبيتا يصلح للسكن). أي عشة من العشش.

إلى الحديدة: مدينة السلام

ويوم السفر تكرم الدكتور “فينروني” بعربيته لننقل المريضة من البيت إلى سيارة النقل التي تنتظرنا بـ “ساحة قاع اليهود” بقيادة سائقها الكريم الشهم الحاج “أحمد بسباس” وحضر المرحوم “يحيى النهاري” الذي شارك في هذا المنظر المحزن،  وكان هو -رحمه الله- وراء المراجعة  إلى الإمام بالنقل إلى “الحديدة”. وعندما وصلنا انحنى الحاج “أحمد” وجعل من ظهره المنحني درجا لأختي لنصعدها من ثم إلى سطح السيارة بمعاونة آخرين، وكان قد سوّى لها مكانا بين “غرائر القمح” جنبتها إلى حد ماء النتوءات المؤلمة. وودعتُ أخوتي والوالد “يحيى النهاري” الذي سلمني رسالة إلى “نائب الحديدة” يتوصاه بنا خيرا، كما ودعت الدكتور “فينروني” الذي كان يشاهد أختي ترفع إلى السيارة بواسطة المساعدين فدمعت عيناه. وتوكلنا على الله بقلوب جريحة.

 وفي “وادي صياح” وقفنا لتبريد السيارة، وبينما كنا نجلس بجانبها إذ هبط علينا صوت أختي مشوبا بأنين تشكو من الحر والوجع فوثب الحاج “أحمد بسباس” وقال الآن نمشي وسيعيننا الله. وبعد يومين وصلنا “الحديدة” فأرسل النائب القاضي محمد العمري من يستقبلنا إلى النقطة، وأنزلنا في بيت لا يصلح فقط للسكن ولكن مما يُرغب فيه، وأمر بمعيشتنا من دار الضيافة. لقد انتقلنا من ضيق السيوف إلى سعة القاضي.

في اليوم التالي جاء الحاج “أحمد العريض” أمين المالية وأخذني إلى بيت النائب وأركبني على بغلته. جاه عريض وعواطف جياشة لم يعد العهد بها منذ زمن طويل وقاس، وعرضت الأمر على النائب فبهت لحقارة المرتب لأربعة أشخاص. وليس في يده حيلة إلاَّ الرجوع إلى الإمام، وبقينا أياما في ضيافة كريمة وعواطف النائب الكريم حتى يعود جواب الإمام الذي رجع متسائلا: هل المرتب أسبوعيا؟ فشرح له وبعد أيام أخرى جاء الأمر من الإمام بصرف 30 ريالا شهريا، وأخبرني النائب أنه سيحول من الخيرية 15 ريالا توفية للمعاش، وبذلك انقطعت الضيافة. وأمكن تدبير معيشتا، وأمر النائب الدكتور الايطالي بمعالجة أختي في منزلها، فكان يأتي إلينا يوميا مرة أو مرتين.

بعد أيام عرفنا بأن أخي “عباس” قد أطلق، وأن أخي “إبراهيم” قد سجن في حجة، ففرحنا وحزنا معا، وبعد فترة جاء البريد مخبرا بإلقاء القبض على أخي “عباس” والأخوين “عبد الرحمن الوزير” و “عبد الصمد الوزير”، وبذلك أغلقَ الحكم المتوكلي بابَ السجن على: الناقل والمنقول، على السجين والرهينة. لقد طفف كل موازين المعقول.

وتسارعت الوقائع المؤلمة تباعا لتجرح ما بقي من قلوب مكلومة؛ فقد اشتد المرض بأختي وكان الطبيب الإيطالي قد عجز عن معالجتها، وفي هذه الأثناء وصل دكتور أمريكي في زيارة مرضية خاصة لا أعرف لمن، فطلبت من النائب رحمه الله أن يأذن له بفحص أختي ففعل، وجاء الطبيبان وتشاورا، وقررا أن حالتها صعبة متدهورة للغاية، وأن لا علاج لها إلا بسفرها إلى “أسمرة” وإلا فستموت، وكان موقفا صعبا. فلم يسمح الإمام، فماتت أختي.

كانت ليلة مرعبة لي ومؤلمة لها، اتخذت مكاني غير بعيد منها، كانت تأن أنينا موجعا وكنت أتمزق ألما وقلقا، وبتنا تلك الليلة كما لو كنا ننام فوق الشوك والحسك، كنت أكلمها بين الحين والآخر لأطمئن عليها فتجيبني بصوت خفيض يدل على تحلل قوتها، حتى إذا كان الفجر قمت وصليت ودعوت وابتهلت وبكيت وقربت منها وسألتها فلم ترد، كان الضوء قد بدأ ينتشر، فقلت لها إنني ذاهب أصحي الدكتور وأرجع مسرعا فأومأت بحاجبيها فأسرعت إلى بيت الدكتور فأيقظته من نومه وأخبرته فجاء مسرعا وكشف عليها وخرج حزينا، وقال لي أن الحالة خطرة لقد توقفت الكلى، تمالكت نفسي ودعوت جارتنا فأقبلت مسرعة ووقفت معها في لحظاتها الأخيرة، وجاءت حرم المرحوم “هاشم بن هاشم” لزيارتها اليومية مبكرة، ولا أعرف كيف تداعت النساء لزيارتها حتى امتلأ المكان بينما هبطت إلى الطابق الأول وقعدت في النافذة أنظر إلى البحر وكانت أمواجه داكنة ترابية اللون تتدافع بقوة نحو الشاطئ، فأحسها تضرب بقوة صدري فعلا. مر من الشارع الأخ “محمد بن علي الشامي” وسألني عنها فقلت له: بين يدي الله.

بعد فترة من القلق القاتل دعتني بعض النسوة للطلوع، وعند الباب قالت جارتنا الكريمة عظم الله أجرك أدخل وقبل أختك، عندما دخلت كانت النسوة يتشحن بالسواد فضاعفن من جو الحزن، وتقدمت فرأيتها ساجية مطمئنة في غاية الجمال يحيط بوجهها الجميل مشاقر الريحان، ولثام أبيض، لقد غسّلنها وكفننها قبل أن أصعد. انحنيت فقبلتها قبلة الوداع، وقلت إلى اللقاء في جنة الله يا أختي، وخرجت دامع القلب كسير العين بينما كان نشيج السيدات يتعالى من داخل الغرفة.

وانساح الخبر وتعاطف معنا “أهل الحديدة” فاقبلوا زرافات يشيعونها إلى مثواها الأخير، وتولى  الحاج “أحمد العريض” رحمه الله عملية الدفن والتحضير للدرس في “الجامع الكبير”، ولم يكن النائب موجودا إذ كان في “جزيرة الصليف”، وشيعت الجنازة وسط حشد هائل من الناس ما كنت أظن أن يحشد مثله، وكان في المقدمة العلامة الكبير “علي الشامي” وابنه وأنا وكنت امشي على جسد يتقطع، وصلينا عليها في “الجامع الكبير” ودفناها في “الصديقية”، وأعلن الحاج “أحمد العريض” أن “الدريس” سيقام على روحها عقب صلاة المغرب في “الجامع الكبير” لثلاثة أيام، وعندما عدنا أصر العلامة ألا أبقى في البيت، بل آتي عنده وفي غرفته بـ “دار الضيافة”، ولكني استأذنته أن أعود إلى البيت أولا، ثم الحق به، فسمح فذهبت إلى البيت وصعدت رأسا إلى حيث كانت فوجدت السرير فارغا والغرفة موحشة فارتميت على سريرها وبكيت بكاء مرا وبقيت وحدي أنوح، وطيفها الكريم يحوم من حولي مسليا كأنه يقول لي: لا تحزن لقد لقيت أبي فكفكفت دمعي وبعد قليل من الوقت ذهبت إلى “دار الضيافة” وعيوني ما تزال تسيح. 

ووصل السيف “الحسن” من “الصليف” عقب الدفن وأزعجه خبر كثرة المشيعين لها وإقبال الناس على جنازتها مما قد يفهم استفتاء “أهل الحديدة” على حب “الدستوريين” فأمر الحاج “أحمد العريض” الذي زاره بمنع الدريس لأنها ابنة باغي، وقبيل المغرب وبينما كنا نتهيأ للذهاب إلى المسجد للدرس إذ أقبل الحاج “أحمد العريض” حزينا فعلا متوجعا فطلب أن يختلي بالعم “علي الشامي” فخرجا إلى القاعة الكبرى وبعد قليل عاد العلامة بعينين حمراوين من شدة الغضب فدنى مني، وقال لي: يا ولدي أنت تعرف أن الدريس على الميت في المسجد لم يكن على عهد رسول الله، وأن.. وان.. فعرفت ما يمهد له، فقلت له، ماذا تريدون أن تقولوا يا عم؟ قال: لقد منع هذا الظالم الدرس على أختك بحجة أنها بنت باغي، حسبه الله، ما اظلمه، وهل “علي الوزير” باغي؟  لاحول ولا قوة إلا بالله، فقلت: لا تتألموا لقد قُتل أبي وأهلي بدون أن يدرس عليهم، أو يعرف لهم قبر، وهذه بقية من ذاك، قال: سندرس عليها نحن هنا وهكذا كان. وفي الليل ذهب الناس إلى الجامع الكبير” فلم يجدوا أهل الميت، ولا أتاريك الدرس، ولا بخوره، ولا ماء ورده، فاستعجبوا ثم عرفوا.

وجاءت السيدة المحترمة “باغفار” فسلمتني سلسلة الذهب كانت في عنق أختي يوم نُهبنا وكانت قد رهنتها أ في مقابل دين عشرين ريالا، نستعين بها وقالت: خذها وسامح الله أختك فيما عليها، فأخذتها منها، وقلت لها ملحا سأسدد المبلغ فشكرا لتلك السيدة الفاضلة وأهلها مساعدتهم الكريمة و رعايتنا بعواطفهم ومالهم وحنانهم علينا ممن ظلمنا بدون من ولا أذى.

تمنيت أن نبقى في “الحديدة ونعيش فيها، لأن فيها عواطف الناس وحنانهم؛ لم أجد عندهم إلا كريم العواطف، وكريم الكلام، لم أسمع شتما، ولم أرى تجهما، وإنما شفاه مبتسمة تحييك، وعيون رحيمة تحتضنك. لكم الله يا أهل الحديدة وجزاكم عن المظلومين خيرا. لقد كانت نقلة نفسية من الجفاف إلى الخصب، ومن التوتر إلى الهدوء فإن نسيت فلن أنسى ما شملتمونا به من كريم العواطف. وكنت أتمنى أن ابقي بها مع من بقي من عائلتي، ولكن الحكومة أعادتني إلى صنعاء خوفا من أن أهرب إلى عدن مع انه لم يخالطني هذا الخاطر، وغادرت “الحديدة” وقد تركت فيها قطعة مني، وحنينا إليها.

 وكان أخي  “قاسم” قد تسلم مني رسالة غامضة عن خطورة مرض أختي فاستشعر منها موتها، ولكنه لم يتأكد، أو لم يحب أن يصدق، إذ أن الرجاء في عافيتها يغلب اليقين من موتها،  ثم ذهب وأستاذنا البردوني إلى أخي “أحمد” في سجنه ليريا ما عنده فلقيهما في الطريق ابنه “الحسين” ومعه رسالة منه إليه يعزيه فيها،  فتأكد عندئذ الخبر، وغمره حزن صاعق وإشفاق حنون، فأما الحزن فعلى وفاة أخته، وأما الإشفاق فعلى أمه، ومرا على الخال “حمود أبو راس” ليتولى هو إبلاغ أمي بالخبر الفاجع، ووصل الثلاثة بقلوب كسيرة إلى البيت، وقبل أن ينطق خالي ببنت شفة كانت والدتي قد عرفت- وهي تنظر إلى وجه أخي “قاسم” الحزين-بالخبر الفاجع، فبكت -وهي عصية الدمع- فضمها أخوها إلى صدره، وبكى الجميع، وأقاموا لها الدريس في “جامع حنضل، وحضره مواطنون وقليل جدا من الرسميين والوجهاء، وداوم أعضاء عصبة الحق والعدالة على الحضور في ليالي العزاء في بيتنا بـ “القاع”. 

عندما عدت “الحديدة” لقيني أخواي “قاسم” و “محمد” وأستاذنا “البردوني”، فهطلت- بين العناق واستظهار الصبر والرجولة- دموعنا، وكانت والدتي وأختي غائبتين عن البيت، كنت في حالة نفسية مرهقة ليس حزنا لفراق أختي فقط، وإنما إشفاقا من مقابلتهما وعودي وحيدا بدونها، وقعدنا ننتظر حتى آبت قبيل الغروب، فارتميت على أقدامها مسلما محاولا التظاهر بالرجولة والاعتصام بالصبر، في حين كان كل شيء ينوح في داخلي، كان وجهها حزينا، ولكنها تحاول أن تخفيه وراء حجاب من الصبر الرائع، فأخذتني بين أحضانها وهي تشجعني على الصبر وكأني أنا الذي بحاجة إليه، ولم تدمع لها عين آنذاك، وإنما كانت مثال التجلد المذهل، مع علمي أن كل عضو فيها ينوح، ثم سلمت على أختي فكانت أيضا صابرة محتسبة.

وتوترت السنين في الزمن ولم يتوارى جراح الفراق ففي الحجة 1375ه/ نقل أخي “قاسم” من “سجن حجة” إلى “الحديدة” للمعالجة تحت الحراسة كان شغله الشاغل زيارة قبرها وتمكن من إقناع حارسه أن يسمح له بزيارتها فوافق وذهبا معا إلى الصديقة ولم يكن يعرف محل قبرها،  وذهب (يطوف بين  القبور عله يعثر على القبر المنشود، ولكن بدون  جدوي، وفي ركن قصي  من المقبرة وجد رجلا مسنا تحت ظلة من الحصير سأله الشيخ بصوت واهن: عمّ تبحث يا بني؟،. قال له: عن قبر عزيز يا عماه، سأله العجوز: من أنت؟  قال فلان، قال الشيخ: إذن تبحث عن قبر “بنت الوزير” لقد كان قبرا مشهودا) ودله على شجرة كانت هناك والقبر بجانبها، فذهب إليه وقد ظللته شجيرة خضراء، ونبتت حوله أعشاب خضر، فبكى دمعا وناح شعرا:

ماله! ماله! أراق شرابه * وتولى ظمآن يحسو مصابه؟

 جثم الصمت فوقه وهو جاث* فوق قبر مضلل بسحابه

  حوله تنبت الغصون رفيقات توا * سي انفراده واغترابه

وبعد موتها بفترة مرت والدتي من “مطار الحديدة” في طريقها إلى الخارج وأنا وأختي “حورية” معها، فبكت وهي تغادر “اليمن” بدون أختي أمة الخالق” بكاء لم أعرفها منها رغم كل المحن، وكأنها فقدت ذلك اليوم وكأنها شعرت بأنها تبتعد عنها فأشجتنا وبكينا معها. ومن بعدك يا أختي عرفنا الغربة والشتات.

وسلام عليكم “أهل الحديدة” على شجاعتكم وعظيم مواساتكم لنا في سنوات عجاف

 ***

صنع في اليمن .. الحلقة ( 10 )

 وليس يصح في الإفهام شيء  إذا احتاج النهار إلى دليل

المتنبي

قبل أن أواصل البحث  عن نضال “اتحاد القوى الشعبية” ومسيرته، يحسن بي وبقرائي الراضين والساخطين أن يتأكدوا أنني لا أروي إلا صدقا، ولا أسجل إلا حقا، ليس لبغية شهرة، فلي مايكفيني، ولا أريد أدين بها ظالما، ولا أدافع عن مظلوم، فلست حاكما يقضي بين الناس، ولا محاميا يدافع عن مظلوم، وإنما أعرض ما حدث بكل صدق وأمانة، لا من أجل شكوى إلى ذي مرؤة يواسي أو يؤسي أو يتوجع، وإنما إلى ما هو أهم من ذلك، وأكثر فائدة، وأعم نفعا، أي إلى دراسة الماضي دراسة موضوعية علمية، لا تهدف إلى التجني، ولا تسير في ركب الأهواء، ولا تخضع لدافع انتقام. لقد ذهب القاتل والقتيل معا إلى ربهم،  واجتمعوا بين يديه ليحكم بينهم، فلم يعد للانتقام مجال، ومن بقي من أولادهم  كمثل الذين بقوا منا لا يتحملون جرائر أبائهم إن اعتبروا، أما أنا فما أريد من كتابة هذه المقالات إلا تسجيل العبر والعظات، لتردع الظالم عن ظلمه، وتنصف المظلوم بما لاقى من أوجاعه، وألا تتكرر المآسي، وعلي لقارئي عهد ووعد ألا أكتب بيدي ما يمسح  اجر ما لاقينا من العذاب، وأخاف أن ألقى الله  وأنا ظالم لأحد، أو مفتري على احد، لذلك أبيت على نفسي -وقد أصابتني المظالم- ألا أظلم، لأن الظلم يعيش بين الجثث والدماء. 

إن دارسة الماضي ضرورة لتنوير المستقبل. وفي هذه المقالات أروي قصة عاشتها فئة من الناس واكتوت بنارها، وأتحدث عن مرحلة ما بعد “الثورة الدستورية” حيث صب الحكم نيران غضبه، ليس فقط على خصومه زعماء “الثورة الدستورية” بل تجاوزهم إلى أبنائهم الذين لم يشتركوا فيها، ولكنهم اصطلوا بناره، ونالوا منع عقابا شديدا لما لم يقترفوه. فهذه الفئة من الأطفال والنساء لم تشارك عمليا في “الثورة الدستورية”، ولم تضع مع زعماء “الميثاق المقدس” توقيعا،  ولم تحمل السلاح دفاعا عنها، فهي كانت ما تزال براعم تتفتق في غراس مستقبل جديد.

كان آباؤهم رحمهم الله قد قاموا مع آخرين بـ “الثورة الدستورية” وفشلوا وسيقوا إلى سجون “حجة” فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من كان ينتظر وما بدل، ومنهم من بدل تبديلا.. لقد انتقم الحكم من زعماء “الثورة الدستورية” بجز رقابهم بالسيف وبالسجن الطويل، ولم يكتف بذلك فأصلى أطفالهم  ونساؤهم جحيما.

 على أني أريد أن أوضح لمن ساقه فهمه إلى حقل آخر، فنقل الموضوع من حالة إلى حالة أخرى، ومن موضوع إلى أخر أني لم أتحدث عن “الثورة الدستورية” وأسباب نشؤها وأهدافها حتى يلجئ لجر النقاش إلى الحديث عنها، فمثل هذا الجر إخراجٌ  قسري من إطار ما كتبتُ، إلى إطار آخر لم أكتبْ عنه، وكأن هذا البعض يحاول بهذا النقل المتعسف الابتعاد عن الموضوع حتى لا يرى الناس ما حاق بفئة، أو فئات لم تكشف عذابها بعد.

كما هو واضح للعيان فما كتبت في كل المقالات السابقة كان عن ما بعد مرحلة “الثورة الدستورية” وعلى المظالم التي انزلوها بفريق من أبناء شهداء الدستور وهم في فجر حياتهم لم يكن لهم دور عملي فيها. صحيح أنهم لم يشاكوا في الأعداد للثورة ولا تجندوا معها إلا أنهم كانوا يسمعون من الحديث عن تغيير النظام الفردي إلى الدستوري ويصغون إلى كلمات لم يألفوها فيعجبون بها ويتغنون بالدستور والحرية والمساواة.

لم يكتف  الحكم المنتصر بقطع رؤؤس كبار من اشترك فيها، ولم يشف نفوسهم قطع رؤوس خمسة من  بيت الوزير وغيرهم من أعناق عالية، لرجال “الثورة الدستورية” فمارس ظلما على النساء والأموال والحرث والنسل.

إذن أنا في هذه المقالات أؤكد أنما أرويه هو وقائع عشناها ومارسناها وأخطأنا وأصبنا، وربما كانت مرارة المعاناة أشد وقعا مما أحاول الإفصاح عنها، فمهما حاولت أن أنقل وقع المظالم، ووقدة الإحساس بالأوجاع- التي كانت تسحقنا- لن أتمكن من ترجمة لغة الحزن ونواح المصائب، بحراحها ووجعها، كما ذقناها، إلى مستوى لهيبها فما يُروى غير ما كان يُحس.

من الواضح  أنما كتبته واكتبه هو محصور حول أبناء أسرة واحدة، وحزب واحد، وثمة أسر أخرى وأحزاب أخرى قاست مرير العذاب، وربما كانت هذه الفئة هي نموذج لبقية أسر الشهداء الآخرين الذين بشكل أو بأخر، عانوا وظُلموا واضطُهدوا، ولكن لم أتعرض لها لأني لست على علم بأحوالها، ولكني على يقين من أنها عانت مرير العذاب.

إن مواجهة الحقائق مهما بلغ سوئها أمر حتمي لمن يريد أن يستفيد من التجارب، أما من لا يرغب في مواجهتها والاستفادة منها فهو بين أمرين: إما إنه ما يزال يعتقد بجدارة النظام الفردي فلا يقبل في مناقشته حجة ولا دليلا مهما كان وضوحهما. لقد تعتق النظام الفردي في أعماقه فلا يرضى به بديلا؛ وأما انه يشك في رؤيته  لكنه يكابر ويعاند، بسبب أنه لم يهضم الجديد ولم يتذوقه، فهو مضطرب الفكر بين ما يعرف وما يجهل، وكلاهما يخافان من أي كلمة ناقدة لأنهم يعتبرونها سهما يوجه نحو ما يعتقدون، والدليل على ذلك أنهما يخرجان من مواجهة الموضوع المطروح  بسرعة إلى مسارب أخرى ضمن ضجيج من الشتائم تفضح حالة الذعر من انهيار ما يعتقدون كأنهم في حالة وصفها “المتنبي” فأحسن الوصف

  وضاقت الأرض حتى كان هاربهم  إذا رأى غير شيء ظنه “تهما”

بالاعتذار من “المتنبي ” في تبديل قافيته

والدليل على ذلك أيضا أنني أكتب عن حزب “صنع في اليمن” عقب “الثورة الدستورية”،  ولم أتحدث عن “الثورة الدستورية” وإذا بهم يتحدثون عنها بظلم فيخرجون من مرحلة الحديث عما بعد “الثورة الدستورية” إلى “تشويهها والدفاع عن النظام الفردي، هربا من مواجهة وقائع تناقض تماما ما يقولون، مع أن المقال هو خارج ما يتطرقون إليه ، ومن المفروض  أن  يوجه النقد إلى هذه الوقائع التي أسجلها إن أردنا تصفية الحقائق من أدرانها، وأردنا الوصول إلى الحقيقة.

 وهذا يجرنا إلى القول بأن مكابرة وعناد هؤلاء الفرديين والشموليين وأشياعهم محاولة لحجب الحقائق، وتغطيه للوقائع، ولم ولن ينجحوا إلى ما يعمدون إليه من ستر المظالم ، لأن ذلك يناقض طبيعة الحياة، فلن يستمر حجب الحقائق إلا لزمن محدود وفق ظروف معينة، ثم تتبلج الحقائق بأنوارها، كما أن المكابرة والعناد تبقيهم خارج الاستفادة منها والانطواء في إرث الماضي الكسيح، وعندما جاء أمير المؤمنين الراشد “عمر بن عبد العزيز” وانتقد مظالم أهله لينقذهم من مغبة مصيرهم الفاجع لكنهم  لم يصغوا إليه، وظلوا يمارسون مكابرتهم.

وظلمت حتى أصابت أظلما  *** حاصد السيف وبنيئ المحبس 

على حد تعبير الشاعر الكبير “أحمد شوقي”، وفعلا كان “العباسيون” أشد ظلما من “الأمويين” وأحد سيفا، وأقسى رمحا. 

 وليس من شك عندي أن الظلم الذي يبقى يمارس أفعاله، إنما ينفخ في أتون الانفجار ضده. إن قصتنا نحن جواب بليغ على الظلم،  فلولا المظالم لربما ما نمت  فينا إرادة الصمود والمظالم، بذلك الشكل المستبصر المفعم بالتجارب، ولما خرج من رماد الثورة رجال جدد صارعوا كل ظلم وكل تحد، ولو اعتبروا وعدلوا لما كان النضال مستمرا ضد نمط الحكم الفردي ولما هبت العاصفة التي غيرت وبدلت.

نتيجة لتلك المظالم وحفاظ الحكم على استمرارها هي التي كانت سببا في قيام تلك “المقاومة الصغيرة” في تلك القرية الصغيرة، من نضال، والتي نمت والتحمت مع آخرين من مختلف المناطق والمذاهب، وشاركتها في العمل من أجل إعادة “الدستور” طيلة المراحل الطوال؛ منذ “عصبة الحق والعدالة” و “حزب الشعب” و “حزب الشورى” فـ “اتحاد القوة الشعبية” في ظل “جمهورية شعبية ديمقراطية” حيث كان “إتحاد القوى الشعبية” أول حزب يمني تبنى النظام الجمهوري في قانونه.

وأحب أن أأكد أني على يقين بما أسجل وأروي لأني عشته ومارسته وذقت مرارته، فمن أراد أن يصدق فليصدق، ومن لا يريد أن يصدق  فهو وما يريد، وأنا على يقين أني أرضي ضميري، وأرضي ربي لأن ما اكتبه هو محاولة لردع ظالم وإنصاف مظلوم، ولذا لم ولن أروي إلا صدقا، ولم ولن أكتب بكفي غير ما أود أن ألقى الله به يوم تجتمع الخصوم ،غير متجني ولا معتدي. وإذا أراد أحد أن يكذب فلنبتهل ونجعل لعنة الله على الكاذبين.

أو ليس من حق المظلوم أن يبث أوجاعه؟ أو ليس من حقه أن يقصص القصص؟ يدون أن يشرع رمحا، أو يسل سيفا، فالطريق إلى الحق لن يفضى إلى غايته بالقوة والقسر وإنما بالكلمة الصادقة والكشف الصريح، لأن في ذلك ما يردع الحكام -مسبقا – من تكرار المظالم، و يلقن من يوسوس له الطموح الأناني بالظالم درسا مفتوحا يتفهمه حتى لا يجد نفسه أمام سوء المصير.

 ***

صنع في اليمن .. الحلقة ( 11 )

الجناحان

أكملت “المقاومة” الصغيرة دورتها الأولى في “الهجرة” وما حواليها، على أمل أنها ستتوسع من تلقاء نفسها، بفضل العاملين فيها، ومن ثم تطلب العمل خارجها، ولهذا الغرض ذهب “إبراهيم” سرا  إلى “صنعاء” ليفتش عن فضاء أخر، حاملا معه مذخور المقاومة الثوري، ليطل به على فئة تنبض بالمقاومة، و كان من عادته أن يتردد على الكتبي الفاضل النبيل الحاج «عبد الله عتيق» أمد الله بعمره لشراء كتب، أو بيع ما بقي معنا في العروق بعد «النهب» لكي نواجهه بها عسر الحياة، وكان بجانبه دكان آخر لشاب وضيء القسمات ضاحك العينين قوي الإرادة، عرف أنه «محمد الواسعي»  فانجذب إليه بحكم ما يكنه من إعجاب خاص بوالده منذ أيام الدراسة بـ «المدرسة العلمية» فتألفا وتكاشفا، وإذا به يكتشف أن عند الأخ «محمد الواسعي» تكوين ثوري خاص به، فتألفا وتعاملا يد بيد.

 كان الأخ «محمد الواسعي» قد أنشأ مجموعة من “شباب الدستور” وممن نجي من السجن من طلبة «الكلية الحربية» التي ما تزال تعبق بأريج الرئيس الشهيد «جمال جميل» وليست لدي فكرة واضحة عن أوائل أعماله، ومتى وكيف كون تنظيمهم، لكن من المرجح أنه بدءا في وقت مبكر، الأمر الذي يبؤهم دور الريادة الأولى أيضا، ولعل التنظيم بدأ قبل استشهاد الرئيس “جمال” لأن الأخ “محمد الواسعي” نفسه يذكر في رسالة له إلى المشير “السلال” أنه و«إبراهيم» كافحنا وجاهدنا في سنة 68 و 69 بالمنشورات الخ وهذا يعني أنهما اتصلا ببعض قبل استشهاد الرئيس، وعلى كل حال فليس لدي الآن ما أجزم به، إلا أن “محمد الواسعي” كان قبل أن يلتقي بإبراهيم  قد كون تنظيما من أجل استئناف العمل للدستور.

ومن خلال “الواسعي” بدأ «إبراهيم» يتعرف على بعض هؤلاء الشباب، وحدثني الأخ العقيد المجاهد الصابر المرحوم «احمد الجرموزي» -مساعد معلم الجيش الدفاعي أيام الإمام – قال: (اجتمع بي الأخ «محمد الواسعي» وقال لي أنه على صلة بالأخ «إبراهيم بن علي الوزير» وأنه- أي «إبراهيم»- يريد اللقاء بشخصية عسكرية مرموقة ذات دور وطني. قال فدليته عليك. ثم وصل الأخ «إبراهيم» إلى بيتي فتعارفنا ونسقنا أعمالنا).

كما تم اللقاء بالإخوان «طه مصطفى» و«عبد الكريم الغسالي» و«احمد الوريث» و «احمد الحافي» و«أحمد أبو طالب» وغيرهم. وأخبرني العميد المجاهد «أحمد الجرموزي» أنه ضم إلى صفوف هذه المجموعة المقدم «محمد الأكوع»- الذي أصبح وزيرا للداخلية في العهد الجمهوري- والنقيب«أحمد رزق عبده» وغيرهم.

وكان أخي “إبراهيم” يغتنم وجوده عندما يدخل إليها سرا أو بأذن في “صنعاء” فيزور بعض العلماء ويحاورهم ويحملهم المسئولية في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الجهر بالقول على المظالم. وكان ممن زاره من العلماء “عبد الرحمن الشامي” و” محمد المنصور” و “حمود المؤيد” وكان يخرج إلى ضواحي العاصمة ليلتقي بالعلامة الزاهد “عبد الله المؤيد” الذي أخبرني بنفسه أن الأخ إبراهيم وصل إليه على بغلة الوالد “عبد الرحمن الشامي”  التي استعارها منه، وأنه حدثه عن ضرورة الجهاد والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأنه وافقه على ذلك، ولكن أين النصير والمناصر، يا إبراهيم، وبينما كانا يتحدثان انفلتت البغلة هاربة فانطلقا بعدها يفتشان عليها حتى عثرا عليها بعد جهد شاق، وعاد بها إبراهيم إلى صاحبها، بدون نتيجة حاسمة من هذا العالم الكبير الزاهد.

وفي  إحدى هذه الزيارات تعرف على الصديق الحميم الوفي الحاج  المؤمن المرحوم “عبد الله المحفدي”  الذي كان يستضيفنا في  بيته ويتعاطف معنا ومع القضية، ومازالت صلتنا به في غاية المودة إلى أن انتقل إلى رحاب الله. والحاج “عبد الله رجل علم منصرف بكليته إلى الدراسة والمطالعة، وليس له هموم سياسية، ولكنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

مضت المقاومة -التي أصبحت مع مقاومة صنعاء تشكل جهازا واحدا- تشق طريقها بصعوبة بالغة وسط محيط قاتم. وبواسطة  المجاهد «محمد الواسعي» -الذي كان يتردد على «عدن» للتجارة- تم الاتصال بالشيخ «عبد الله على الحكيمي» إلى «كرديف» عن طريق «عدن».  وكان المرحوم «الحكيمي» قد أصدر من «كرديف» جريدة «السلام» 5  صفر 1368/ 6 ديسمبر 1948   بينما أصدر المرحوم «عبد الله عبد الوهاب نعمان» في «عدن» جريدة «الفضول» في نفس الشهر، أي 14 صفر 1368/15ديسمبر1948

 ولتسهيل وصول الجريدتين وتوريد المنشورات والنشرات، أقام مركز “الواسعي” في «البيضاء»  لاستقبال «جريدة السلام» و«الفضول» ومن ثم توزيعها في الداخل، وبهذه الطريقة وبفضل الأخ « الواسعي» أمكن تنظيم الاتصال بـ«عدن» باستمرار، ومن ثم أمكن تبادل الآراء والتخطيطات.

أول تنظيم بعد الثورة

وفي إحدى رسائل الأخ «حسين عثمان الوزير»-من ملجئه في يافع- إلى أخي «إبراهيم» اقترحَ أن يكون للحركة اسم لتأخذ وضعا سياسيا أفضل. وأستشار الأخ «إبراهيم» الأخ العميد المجاهد «أحمد الجرموزي» في التسمية فاقترح اسم «عصبة الحق والعدالة» وبعد مداولات مع الأخوان الآخرين أُقِّر هذا الاقتراح فكانت «عصبة الحق والعدالة» هي الإطار الذي نشطت فيه هذه المجموعة لفترة طويلة نشاطا بدأ يتضح ويتوضح.

من بيت الشوكاني توسعت المقاومة

 وبين المخاوف والترقب سقطت زوجة الأخ “يحيى بن محمد” مريضة، وبعد محاولات غير ناجحة أضطر للدخول إلى “صنعاء” بإذن من العامل فاستأجر بيتا متواضعا وعاش عيشة عسيرة يكافح المرض ويجالد الفقر في عزة وشمم وصبر قل له المثيل، حيث لم يفقد أخلاقه ولا كرمه ولا حتى ابتسامته. وسخر الله له الدكتور الماجد «فينروني» جزاه الله خير الجزاء وأثابه، فاهتم بزوجته وكان يزورها في اليوم مرتين وكان يعطيهم العلاج أحيانا منه بدون مقابل، وإلى هذا المنزل كنا نأوي إليه عند دخولنا “صنعاء”، وتحول هذا المنزل أيضا إلى مكان لقاءات وإعداد للثورة، وامتدت اتصالات الأخوين “إبراهيم” و “يحيى” إلى داخل سجني «القلعة» و«الرادع».

المهاجر الفقير

وفي هذا العام نفسه أي عام 1369/ دخلتُ “صنعاء” مهاجرا لطلب العلم، فنزلت عند أخي يحيى” وبدأت أتلقى دروسا خاصة في الدين والنحو على يد العلامة “حمود المؤيد” في “مسجد النهرين” وفي بيته فأتناول معه فطور الزاهد، وصدق المثل: “عاري جلس فوق مخلوس” فما كنت أعاني منه من جوع مع ابن عمي “يحيى” وزوجه المريضة ومرافقتها إذا بي أجد في بيت الزاهد العظيم زهدا اختياريا لايفترق عن الزهد المفروض علينا والذي صح في زهدي قول الفيلسوف المعرى:

ولم ازهد عن اللذات إلا لأن خيارها عني خنسنه

وكان ابن العم فقيرا وكمت مثله، وعلى شاكلته عانيت من الجوع أشده حتى كدت يوما أن اسرق “تينا” من “مقشامة مسجد النهرين”. ففي ذات يوم وقت صلاة الظهر أحسست بجوع لم أحس به من قبل ولا من بعد، وكنت في انتظار صلاة الظهر  أتطلع إلى أشجار “المقشامة” المثمرة واللصيقىة بالمسجد، فلمحت تينة شابة ممتلئة حياة وإغراءا تجذبني إليها وتدعوني بلهفة لأقتطفها، كنت أرى خضرتها الضاربة إلى السواد في شكل زمردة، تتلألأ أمام عيني، لم اعد أرى فيها إلا إغرائها القوي لي بسرقتها وكنت اهمم بعطفها واردد قول بشار:

من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسور

أقدم أيها الجائع ولا تحجم، هاهي تتمايل في غصنها بفعل نسيم عابر، أو طير حط على احد فروعها فهزها لا تخف،  وبقيت بين مد وجزر، مرة أقدم ومرة أحجم، أصغي إلى عويل الجوع  فأتقدم، و إلى صراخ خوفي فأحجم، اقترب من الشجرة وأحاول مد يدي لأجني من التين ما يسد رمقي فيقيد  الخوف من القشام ومن الفضيحة خطاي ويداي، ماذا لو رآني القشام وأنا بالجرم المشهود. سيجمع علي الناس، سيتهمونني بالسرقة كما اتهموننا بأبناء البغاة، لن يشفقوا علي كما لم يشفقوا علي ما نزل بنا من ظلم وفقر. رباه ماذا افعل؟  وأخيرا وبعد صراع مرير تغلب الخوف فخرجت مطويا على جوع ، وبجهد شديد وصلت إلى بيت ابن عمي لا جد كسرة “قفوعة” بابسة من بقيا عشاء الأمس وصبوح اليوم  فأكلتها على ماء قراح. وتمر الأيام ولم اسعد بأكلة طيبة إلا عندما كان يأتي أخي “إبراهيم” من “السر” ومعه بقش معدودات، فكان يشتري بأربع بقش “يورتا” و “كدمة” ونذهب إلى صوح مسجد في سوق النهرين فنقعد ونتناول ذلك بشهية من يأكل السبايا بالعسل. 

مع حر في سجنه

 ومن الجوع والدراسة التقليدية غمرني شعاع من علم جديد فما زلت اذكر بوضوح  أني ذهبت مع  الأخوين  إبراهيم ويحيى لزيارة الأخ المرحوم  الشهيد «محمد الصباحي» في «سجن الرادع» ؛ فخرج إلينا، يجر القيد في قدميه، وعلى فمه ابتسامة مشرقة فتحدثا معه ، وما أزال أذكر وجهه السمح وهو يوجه حديثه إلي متسائلا: هل أنت وطني ؟ تملكتني الحيرة؛ لم أأعرف كيف أردُّ ؟ وما معنى وطني؟ واضح أنه لا يسأل عن مسقط رأسي بكل تأكيد، ولكن ما معنى هذه الكلمة؟. لو يجيب أحد الأخوة عني فيريحاني من مخاطر الجواب، ولكن أحدا لم يرد، فحزمت أمري وأجبت بالإيجاب، فسعد بالجواب. وقبل أن نودعه أهداني كتيبا اسمه «التربية الوطنية» أخذته مزهوا به، وتفاخرت به أمام زملائي عندما رجعت. وبقي الأخ «محمد الصباحي» صديقا عزيزا برا كريما حتى استشهد في «أرحب» فجر قيام الجمهورية.

***

صنع في اليمن .. ( 12 )

أهدي هذا البحث إلى الصديق الكريم منصور سالم بادي أبو مالك الذي استحثني على الاستمرار في كتابة “صنع في اليمن” واعدا-بلطف الأديب- أن يصحح الأخطاء التي عثر عليها، ويوافيني بها، وقد أوفى بوعده، فله مني كل الشكر على ما أبدى من مساعدة تنبئ عن عون كبير.

بالإضافة إلى ما خلفه انتصار الإمام على الثورة الدستورية على ربوع اليمن المتوكلي من هزيمة كبيرة كان اليأس يخيم فوق الدستوريين القابعين في سجون حجة، حتى بدا لهم أن النجاة من سيف الإمام “أحمد” لا منجاة منه ، ولم تجد المراجعات والاستعطافات من الإمام التي تطلب العفو عن الخطأ الذي ارتكبوه. ونظرة إلى كتاب “مذكرات وأغلال تبين حالة المعتقلين النفسية إلا من رحم ربك، كذلك لم يجد إرسال الأستاذ نعمان وهو في السجن رسالة للإمام يقترح فيها إصدار جريدة تسمي “صوت الحق ” لتكون بديلا لـ “صوت اليمن” و بيعه “مطبعة صوت اليمن” للإمام أحمد ليطبع عليها “جريدة النصر” ؛ كل ذلك لم يجد أذناً صاغية عند الإمام خلال السنتين الأوليتين من انتصاره. وأخيرا بعد مضي السنتين الثقال وبسبب ما بذله الشيخ “محمد سالم البيحاني” من استرحام الإمام لمساجين “حجة” وطلب الأمان “للزبيري” في “باكستان” كما قدمنا، لاح أول انفراج على المعتقلين بحجة، وذلك عندما أطلق الإمام الأستاذ “أحمد محمد نعمان” من السجن، وحدد إقامته في “حجة” وأمر له ببيت وسمح لأسرته أن تعيش معه. وقبيل يوم الاحتفال بذكرى النصر الثاني 3 جمادى الأولى 1369/20 فبراير 1950 طلب الإمام الأستاذ “أحمد نعمان” إلى “تعز” (فلما دخل عليه هش في وجهه وبش، وما كاد الزبيري الذي كان لاجئا في باكستان يعلم بأن الإمام قد عفا عن “نعمان” حتى انشأ قصيدته الشهيرة) ، وفي ميدان النصر وأمام الإمام وقف الأستاذ “نعمان” فألقى خطبة بليغة أعلن فيها ولائه للإمام احمد، كما ألقى قصيدة عصماء كان الأستاذ “الزبيري” قد بعثها إلى “نعمان” لينشدها بين يدي الإمام، مطلعها:

أيبعث نعمان من قبره وينحسر الهول عن نحره

وقد أسبل على الإمام برود المدح الرائع لإطلاقه نعمان كما أشاد بالبدر ويقول الأستاذ الشامي (ولا شك أنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن فارق زميله السيد عبد الله بن علي الوزير) ، وبعد أن خطب “النعمان” وألقى قصيدة “الزبيري” (أمره الإمام أن يعود إلى حجة وأن يكون مديرا لمدرسة حجة ومدرسا بها ومشرفا على [مدارس] اللواء)

أدى خطاب الأستاذ “نعمان” في يوم النصر الثاني ورسالة “الزبيري” وقصيدته في مدح الإمام في وقت مبكر إلى تفسيرات مختلفة بين مبرر ومتهم، و فيما بعد اتخذ خصومهما هذا الموقف سلاحا شهراه في وجهيهما باعتبارهما لا يملكان خطة ثابتة أو إستراتيجية متينة، وإنما هما أصحاب مواقف مؤقتة. في حين رأى البعض فيه خطوة سياسية تتسلل إلى قلب الإمام فتلينه. وكل حزب بما لديهم فرحون.

لم تعبر المقاومة الناشئة تلك المواقف جرما، أو تنقص من أقدارهما، أو تضعف مكانتهما آنذاك، وإنما رأت فيها خطة سياسية غير صلبة ولا متينة مسترخية، اختلط فيها الفرح بالتوجس؛ وبقدر الفرحة بنجاة الأستاذ “نعمان” من القتل كان الأسى على رموز من الدستوريين وهي تلقي أسلحتها مبكرا.

وقد أشاد “الزبيري” بجهود البيحاني في رسالته التي بعثها إلى نعمان بتاريخ 20 ربيع الأول1369/ 10 يناير 1950 إذ يقول فيها: (لم أتصل بغير من تتصل بهم أنت وهم فضيلة الأستاذ البيحاني حبيب الجميع ورفاقه الأصفياء. إن لفضيلة الأستاذ البيحاني ورفاقه الفضل الأول في كسب رضا مولانا أيدهم الله عني وعنك. ولقد بلغنا بفضل ثقة مولانا به ما لم نكن بالغيه من أي طريق أخر وكأن الله ادخره لإخوانه في مثل هذه الظروف)

وفي هذه الرسالة يعترف الزبيري بخطئه في مقاومة الإمام أحمد ويعلن أن: (سلامتي ليست في الخروج من اليمن والاحتفاظ بحياتي؛ فهذا شيء لا قيمة له، وأن الفوز الحقيقي هو أن الله هداني إلى النهج الواضح والطريقة المثلى التي نستطيع بها كسب عطف مولانا أيدهم الله وإنقاذ أحبابنا، وأيقظني الله بمعجزة من خطر السير في الأحلام إلى ما لا يُعن اضاعتى. لقد أتينا ما أتيناه في الماضي بحسن نية وسذاجة متناهية، ولم يكن عرضنا إلا نزيها وطاهرا وبريئا من كل ما انقلبت إليه عواقب الأمور ولكن الأخطاء التي يجب أن أعترف بها هي العقوق لولي النعمة والتجانف عن أدب التعبير والمعارضة العنيفة القاسية. وقد أدى إلى ذلك أمران:

أحدهما: ما ألقي إلى روعنا من لا خلاق لهم من التخويف بغضب مولانا أيدهم، ومن أنه لا يقبل منا نصحا ولا معارضة، كما أنه لا يمكن أن يغتفرها ولا يعفوا عنها بأي حال فكان طابع التعبير القاسي قائما على أساس من هذا الزور والتغرير والذين فعلوا ذلك إنما كانت لهم أعراض دنيئة تافهة وهي أن يملئوا بطونهم ويرتزقوا من ورائنا.

والثاني أن تفكيرنا من أساسه كان مجلوبا إلى عقولنا من السوق السياسية العربية بما فيها من جمعيات وأحزاب وصحف ومحاضرات وزعماء ودجالين ممن أفسدتهم ولوثت ضمائرهم الخصومات والأغراض والنزعة التجارية بمصائر الشعوب. لقد تقبلنا منهم كل شيء وتحمسنا له وجعلنا لأنفسنا منهم مثلا عليا، وحملنا أنفسنا وعائلاتنا ما لم يستطع أن يتحمله أحد سوانا وذلك بناء منا على أنهم أبرار أتقياء يقولون ما يعتقدونه ويرونه حقا وصوابا، وقد تبين لنا بعد ذلك أن تلك السوق السياسية موبوءة مدنسة خبيثة ونحن يعلم الله كنا أبرياء من هذا الدنس بعيدين كل البعد عن تصور هذه الحقائق المرة. وهي أن هذه السوق هي التي أضاعت فلسطين)

وقد علق الأستاذ المرحوم “أحمد المعلمي” مبررا هذا الخطاب وما فيه من مديح كبير للإمام أحمد بقوله: (لا يخفى على القارئ ما في هذا الكلام من التمويه والمداراة. وقد أريد به أن يطلع عليه الإمام فيحفف من ثورة غضبه لا على النعمان وحده وإنما على الأحرار الذين أشهر الإمام عليهم بعد انتصاره وسيوفه وجنده وجندلهم[ الصحيح: وجندل معظمهم] واحدا بعد آخر. وماذا في وسع المنهزم المشفق أن يفعل غير ذلك محاولة للإبقاء على من بقي حيا. وللعلم فإن هذه الرسالة قد غلفت بسرية ليكون وقعها أكبر على الإمام حين يطلع عليها. وأقول أن هذه الرسالة أرضت من اطلع عليها ممن كانوا ينتظرون الإعدام ومنهم القاضي عبد الرحمن الإرياني وأنا “المعلمي”)

وهو تعليل مقبول، ولكن في الوقت نفسه يمكن الرد على تساؤله: (وماذا في وسع المنهزم المشفق أن يفعل غير ذلك محاولة للإبقاء على من بقي حيا؟) بالقول: في وسعه أن يصمد كما صمد رفيقه “عبد الله بن علي الوزير” رغم مرضه وفقره وجوعه. ولا أقول ذلك شجبا “للزبيري” و”لنعمان” ومدحا “للوزير” ولكن توضيحا لمواقف نفسية مختلفة في ظروف واحدة اختلف فيه نوع الصمود، واختلفت فيه رؤية الاجتهاد. ويمكن اعتبار “عبد السلام صبرة” من الذين نجوا من القتل هو الوحيد الذي لم براجع الإمام أو استعطفه تلك الأيام الحوالك.

_ كانت بعض الحوادث تردف المقاومة بالتصميم على العمل النضالي، وتنمي مشاعر المقاومة عند صغارها، فمن ذلك ما حدث لي شخصا أثناء مهاجرتي إلى صنعاء للدراسة، فقد توفى في “أسمرة” في 2 رجب 1369/19 أبريل1950م السيف “يحيى” -وكان بنا أرأف سيف من بين السيوف المتوكلية- وذهبت وأبن عمي “يحيى” لتشييع جثمانه، وفي يوم 4رجب1369/21 أبريل1950 وصل السيف “عبد الله” لعزاء أسرته بوفاة شقيقه “يحيى” واستقبل استقبالا كبيرا، لم يخل من مأساة مفجعة، ذلك أن بعض السيارات صدمت طفلاً صغيرا، فكسرت فخذه وأسعف إلى المستشفى الوحيد في “صنعاء”. فذهبت إلى هناك فراعني ما رأيته في أحد ممرات المستشفى، كان ثمة طفل يصرخ بعويل فاجع، و كسر عظم قد نفر من بين لحم الفخذ الممزق والطفل يتلوى من الوجع ويبكي ويصرخ ويئن، بدون أن يسعف بمسكن، ولا يوجد جراح، سوى دكتور باطني تطوع لإجراء العملية، ولم يجد الدكتور “فينروني” ما يلزمه من أدوات الجراحة، فكان ينتظر لشيء ما، بينما كان يمشي في الممر ذهابا وإيابا، بعصبية واضحة وهو يكاد يتميز من الغيظ، ولم اذكر الآن ما سبب التأخير، هل عدم وجود مخدر في المستشفى فراحوا يبحثون عنه من الصيدلية التي تخضع مصرفات علاجها لأوامر أحد سيوف “صنعاء” فقط، أو كانوا يحتاجون لأي شيء غيره. الشيء المؤكد أن طفلا ينوح وعظما نافرا ودما يسيل، ودما يتجمد ودكتورا يتمزق غيظا. لم احتمل الوقوف في هذا المسرح الحزين الأليم فغادرته موجع القلب باكيا، وصوت الطفل ينوح في أذني، وطل ينوه في أذني زمنا طويلا، ولا أبالغ إذا قلت إن صدى نواحه وأنين أوجاعه ومنظره، وهو يتلوى من الألم، ووجه الصغير المصفر ينبئ عن الفاجعة، ودموعه الجارية تصرخ بمأساته، وما تزال تلك الصور الحزينة تصاحبني كلما رأيت حادث صدام، أو سمعت به كما لو كان حدث بالأمس .

عرفت أن الدكتور أخيرا أجرى له العملية بغير تخدير كما أظن، ولكن الطفل توفى، وحزن أهله، وجزع من رآه، وتذوقت مرارة الحزن قلوب الحاضرين، ولكن المسؤولين  لم يتذوقوا طعمه المر، أو ربما لم يعرفوا ما حدث. قلم يتخذوا من هذه الحالة المروعة تغييرا، أو يلقوا إليها التفاتا. فتذكرت وقتها قول الخليفة أبو بكر: لوسلب عقال بعير في العراق لكنت مسؤولا عنه أو كما قال.

ومما يجب أن أذكره لهذا الدكتور الإنساني “قينروني” أنه كان قد وعد أحد المستضعفين بزيارة طبية إلى بيته وبينما كان يتهيأ للذهاب أقبل عكفي من عكفة السيف “الحسن” بطلبه بالذهاب إلى المقام لمعالجة إحدى الأميرات المريضات، ويستعجله فرفض الدكتور وقال بلهجته العربية المكسرة : أنا اروخ أشوف مريض وبأدين بنت الإمام، فأجاب الجندي: ولكن هذه بنت الإمام، فرد الدكتور، بنت الإمام بنت الإمام أنا اروخ إلى المريض بادين بنت الإمام، ولما هم الجندي أن يضغط عليه غضب الدكتور ونفر في وجه وتوجه إليه غاضبا، فانكمش الجندي، وذهب الدكتور لمعالجة البائس الفقير، بينما وقف الجندي متجمدا فاغرا فاه على جرأة هذا النصراني

وانقلب الجندي المقهور إلى “المقام الشريف” حاملا دهشته وبلاهته وثقافته.

***

صنع في اليمن .. الحلقة (13 )

مع البردوني

ذكرت في حديثي عن “موت أختي” أني لما أودعتها ثرى “مقبرة الصديقة”  في “الحديدة” كتبت لأخي  قاسم بالخبر المهلك، فذهب وأستاذنا “البردوني” إلى أخي “أحمد” في سجنه ليريا ما عنده فلقيهما في الطريق ابنه “الحسين” ومعه رسالة منه إليه يعزيه فيها، فتأكد عندئذ الخبر، ثم مرا على الخال “حمود أبو راس” ليتولى هو إبلاغ أمي بالخبر الفاجع، وأن والدتي عرفت من ملامح الثلاثة بالخبر قبل أن ينطق خالي بكلمة واحدة  فبكت -وهي عصية الدمع- فضمها أخوها إلى صدره، وبكى الجميع، وعندما عدت إلى “الحديدة” لقيني أخواي “قاسم” و”محمد” وأستاذنا “البردوني”، فهطلت- بين العناق واستظهار الصبر والرجولة- دموعنا وكانت أمي وأختي غائبتين عن البيت، كنت في حالة نفسية ليس حزنا لفراق أختي فقط، وإنما إشفاقا من أثر عودتي وحيدا بدونها، وها أنا قد عدت وحدي مخلفاه جسدها الطاهر في مقبرة “الصديق” على أرض بعيدة. وقعدنا ننتظر حتى آبت قبيل الغروب فارتميت على أقدامها مسلما محاولا التظاهر بالرجولة أمامها والاعتصام بالصبر في حين كان كل شيء ينوح في داخلي، كان وجهها حزينا ولكنها تحاول أن تخفيه وراء تصبر رائع فأخذتني بين أحضانها وهي تشجعني على الصبر، وكأني أنا الذي بحاجة إليه، ولم تدمع لها عين آنذاك، وإنما كانت مثال التجلد المذهل، مع علمي أن كل عضو فيها ينوح، ثم سلمت على أختي فكانت أيضا صابرة محتسبة.

(2)

كانت معرفتنا بالأستاذ الثائر الشاعر “عبد الله البردوني” خلال بقاء أخي «عباس» في المستشفى  للعلاج من “سجن قاهرة حجة” للمرة الأولى إلى سجن القلعة ومنه إلى المستشفى, ذلك أنه لما القي القبض عليه مع رفيقه ابن عمه احمد وخالنا عبد الله في “معبر” وسيقوا إلى “صنعاء” وطافوا بهم في الشوارع تحت الحصْب والبصق والشتائم فيما يسمى بـ “الدرداح”،  وفي إحداهن أصيب بضربة قوية من بطان بندق عسكري غاضب ظل يعاني منها طيلة السجن  في قاهرة حجة حتى سمح بنقله إلى المستشفى  للعلاج وهناك  تعرف على شاب ضرير يتفجر مقاومة وحماسة، وتنبئ تطلعاته ومحاولاته الذهنية عن مستقبل أدبي حافل. وهناك تعرفا على بعض وجمع بينهما الكره للنظام المتوكلي وكان “البردوني” قد اعتقل في «ذمار» لهجوه عاملها وتعريضه بالوضع. كان كفيفا مستطيعا بغيره كما يقول المعري، وكان “كالمعري” شاعرا نابغا، ومناضلا.

 وفي ظل ظروف حزينة مثل تلك الظروف كان الشعور بالغربة الداخلية يبعث على التضامن والتوحد بين الشجيين خاصة إذا ضمهما توجه واحد. وكان شاعرنا متحديا صامدا، وملء نفسه حزن وشجن، والشجن يبعث الشجن. وكان البردوني يشجينا بأبياته وقصائده، وعند ما سمعناه يتغنى حزينا:

وطويت دائي في دمي وكأنني في كل جارحة طويت جريحا

أحسسنا صوت الشجن ينوح في أعماقنا، وتبكي به محاجرنا، وتئن به أكبادنا. والتفت الجراح وتجاوبت الأحزان، وكما قال المعري الحكيم:

إنما الدنيا شجون تلتقي  وحزين يتأسى بحزين

أو كما قال شوقي

إن المصائب يجمعن المصابينا

وهكذا انعقدت بيننا وبينه صداقة حميمة للغاية، إلى درجة الانصهار الصوفي. وطلب منه أخي “عباس” أن ينتقل من المستشفى إلى حيث نقيم فرحب بها ورحب به كل أهل البيت، فعاش بينا واحد منا نتقاسم سراء الحياة وضراءها معا. وكان بينه وبين أخي «قاسم» بالذات مودة روحية خالصة. وكان الأستاذ «البردوني» ممتلئاً حماسةً ونشاطاً ونضالا.

ذات يوم كالح من أيام أواخر عام 1369/ اغسطس1950 تفجرت شائعة تتحدث عن وفاة أخي “عبد الله” غريبا شهيدا، ثم تلقينا تأكيد الخبر عبر رسول وصل من الأخ «حسين بن محمد عثمان» ومعه رسالة منه تعزينا في وفاة الشهيد الكبير وأرسل معها «جريدة الفضول» التي نقلت خبر وفاته في قرية “مرج” على بعد 100ميل من «بومباي» تلقينا ذلك الخبر قبل “عيد عرفة” بأيام فكان عيدا حزينا آخر، ونصلا تكسر على نصال، ونارا انصبت على نيران.

وشاركنا في أحزاننا هذه بلوعة صادقة أستاذنا الشاعر «عبد الله البردوني» فرثى الأخ الشهيد بقصيدة لم أعد أحفظ منها إلاَّ هذا البيت:

حال لون الفضاء والتفت الدهر حزينا يعزي الإسلاما 

واصل ثلاثتنا “قاسم” و “البردوني” وأنا الاتصال بمن نعرفهم من الإخوان. وعلى يد أستاذنا “البردوني” درسنا، ومعه عشنا معا في نكد دائم، وضيق معيشة وسوء حال، ومع حبي الشديد وبسبب رعونة العمر كنت بين الحين أفرغ توتري في إيلام أستاذي “البردوني” فكنت أسوقه بلؤم إلى بعض الحفر الصغيرة وعلى بعض الأماكن التي تحتوي على ضحضاح ماء فتغوث قدمه في الوحل فيغضب غاية الغضب مني،  فاعتذر له فيقبل، وأكرر فيقبل كان متسامحا كريما، وكنت شيطانا مؤذيا، وما زلت أتذكر تلك الفترة فألوم نفسي كل اللوم على ذلك العمل المزري، مع أنني كنب أحبه حب إخوتي، ولو كان واحدا منهم كفيفا لكنت فعلت معهم نفس ما فعلت معه.

وعلى العكس كان علاقة أخي “قاسم” به علاقة حنان خالص، كان به شفيقا حنونا، لا يكادان يفترقان وكانا المسؤولين عن تموين البيت وشراء المحتاجات القليلة، فكانا يلتحفان “لحفة” لشدة الفقر عندما يخرجان معا فيسدلان طرفا منها في جانب واحد منهما ويسدلان الطرف الأحر على جانب الثاني فيتدلى من الكتفين فيبدوان وكأن لكل واحد لحفة خاصة الخاص. وكان أخواي “عباس” و “إبراهيم” يكنان له التقدير الكبير والمودة الأكيدة وكانت والدتي تعتبره سابعنا تماما، وكان هو حقيقة يعتبرها أمه وضل كذلك حتى بعد أن استقل وتزوج وكانت له ولزوجته الأولى الأم الحانية والساعية بالخير كلما شجر خلاف بين الزوجين وكانت زوجه هي أيضا تعتبر “ابنة أبو راس” أمها.

وذات يوم غاب عنا أستاذنا الكريم “عبد الله البردوني” فاستوحشنا لفراقه، لكنه في اليوم التالي عاد، وعليه ثياب جديدة بيضاء نظيفة مطواة، ويفوح منه عطر قوي، وأخبرنا أنه لقي السيف “علي” في “البونية” وأنه أخذه معه إلى بيته فقضا يومه هناك، وأنه كساه ونصحه بأن ينتقل إلى “المدرسة العلمية” ليدرس ويدرس، وسيأمر له بصرف. خفنا جميعا لهذا الفراق المرتقب، ولشدة حزني شممت في عطره رائحة غير جميلة لست أدري لماذا، أهو رائحة الخوف أن يغادرنا “البردوني” وينضم إلى الحكام؟ ولست وحدي من شعر بحرقة فراقه يل شعر “أهل البيت بألم بليغ على فراقه فعلا، ولكنه رحمه الله لم يتركنا، كان يتردد علينا ويدرسنا ويأتي كل يوم من “المدرسة العلمية” أحيانا لوحده، وكان له حاسة عظيمة بحيث أنه يمكن بعد عدة مرات أن يعرف الطريق لنفسه.

وبقينا معه على هذا الحال لا يغيب عنا إلى أن أرسلنا إلى “قاهرة حجة” وبقينا بها سنوات، وهاجم المرض والدتنا وعادها الدكتور الإنساني الكبير «فينروني» فرأى أنها بحاجة إلى عناية كبيرة، وإلى من يقف بجانبها وتطوع من نفسه وقد هالته حالتها فأبرق للإمام بخطورة، فما كان من الإمام-وقد أشفق عليه “النصراني”- إلاَّ أن أمر إلى نائب حجة «عبد الملك بن عبد الملك المتوكل” بنقلي إلى “سجن القلعة” بـ “صنعاء” لأكون بالقرب منها .

 ووقفت حائرا أتقلب بين أمرين أحلاهما مر، وكانت فترة من أصعب أيام حياتي على الإطلاق؛ فهناك أمٌ تعاني المرض، وليس لها ولد يخدمها، وهنا أخ سأتركه منفردا، وخفف من قسوة هذا الموقف وجود الأخ «أحمد بن مُحمد الوزير» في غرفة مجاورة له حففت حزن الفراق ووقدة الألم، كما خفف عنى الأسى أني سأذهب لرعاية أم مجاهدة ومريضة. ثم بعد كل شيء لقد فرض اختيار الإمام نفسه، وهكذا في 18 جمادى الأخرة74/12 يناير 55 غادرت «بيت المؤيد» بقلب مكلوم.

 لما خرجت من البيت شاهدت الأرض تحت معقم البيت بعيدة وأحسست بحرارة الشمس تغمر عيني فغشيتني دوخة خفيفة لحبسي في غرفة لا تواجه الشمس إلا لماما فترة طويلة. عرجت على بيت النائب لوداعه فاستقبلني ببشاش واستأذنته أن يسمح لي بزيارة العم «محمد بن أحمد الوزير» فوافق، وعندما خرجت من منزله زودني بكمية كافية من الخبز والسبايا «رشاد الطريق» فصعدت إلى “قاهرة حجة” لوداع العم لكني لم أتمكن من وداع بقية الأخوة، إذ منعهم الحراس من مغادرة غرفهم ساعة وصولي إلى حين خروجي، ولكن رأيت الصديق الصدوق “محمد حسن غالب” عليه الرحمة والرضوان واقفا في سطح المنزل يلوح لي بيديه مودعا، ولما هبطت من “قاهرة حجة” ورفعت إليها بصري، رأيته مازال واقفا يودعني بنظراته الحنونة حتى غيبتني الطريق.

 وبينما أخذنا استراحة في “وادي شرس” وكان يوم سوق تجتمع فيه فئات كثيرة من الناس، عنَّ لي أن أسرب أخبار الخلاف بين “الحسن” و “البدر” وأبشر تلميحا بقرب التغيير، فتصدى لي أحد الجنود المسافرين ونفى أي خلاف وأن الضجة كلها من صنع أعداء (مولانا أمير المؤمنين) الأشقياء، فقلت لنفسي الصمت أولى، والوصول إلى «صنعاء» أجدى، وأفضل من الرجوع إلى «حجة»، وأحرم من رؤيتها وخدمتها، والتأني خير من التسرع، ويا نفس اهدئي بي حتى أرى والدتي على الأقل.

 وبينما كنت أستريح تحت ظل شجرة باسقة في جبل “كحلان ” الشاهق استروح نسيما عابرا تذكرت أخي “قاسم” الذي تركته في “السجن” فتشجيت وحزنت، والأسى يبعث الأسى، ثم ذكرت والدتي ومرضها، وأني لم أتركه إلا من اجلها، فدعوت له وبعثت له مع هذا النسيم العابر كلما يكنه القلب من محبة له.

قبيل الوصول إلى مدينة “كحلان” التقينا بشاب كريم عليه سيما الوقار والملبس النظيف، لم أعد أتذكر اسمه ولكني لم انس صورته فأصر علي وعلى حارسي على أن ننزل عنده أفضل من “المقهاية” وحبانا بعطف زائد وأكرمنا ليلتنا تلك فجراه الله عني خيرا، وكم ـأنا حزين لنسيان اسمه، مع أنه من المفروض أنني لم أنس اسم رجل تكرم فأنزلني بيته وعطف علي من “كتن المقهاية” وغمرني به من حنان في ظل وضع كان الناس ينفرون منا ويهربون ولكن فليعذر ذلك النبيل ذاكرة تجاوزت الثلاث والثمانين عاما، ولا املك إلا ان ادعو له دعاء معترف بفضلة،  وأن ابعث له بعد هذه السنين الطوال تحيات معترف بنبله.

 في اليوم الثالث وصلت مع حارسي “صنعاء” ولحسن الحظ بعد أن أغلق «سجن القلعة» أبوابه فسمح الحارس بأن نعرج على منزل الوالدة فننام فيه إلى الصباح، فدخلت البيت وسلمت عليها بخشوع صوفي في محراب يفوح بروحانية عميقة. وجدتها شاحبة اللون ضعيفة ولكني كما عهدتها قوية الإرادة مرتفعة المعنويات. وفي الصباح زارني الأخ «أحمد بن محمد الوزير» وتمكنا من إقناع المرافق «سعد» أن يؤجل صعودنا إلى «القلعة» إلى بعد الظهر بينما يذهب الأخ «أحمد»- الذي كان قد سمح للمعتقلين من «بني الوزير» بالتردد يوميا في الصباح مع الحرس- ليراجع السيف “الحسن” بنقلي إلى حبس «دار القصر» حيث الأخوة «بني الوزير» لأن “التصدور” من حجة يحدد الوصول إلى “سجن القلعة” فوافق الحارس على وجل، وذهب الأخ المرحوم “أحمد” يراجع من مكان إلى مكان بينما استقبلت الأخوة «بني الوزير» الذي جاءوا لزيارتي. تلاف

 وأول ما عملته أن بعثت ابن أخي: “عبد الله عباس” إلى “المدرسة العلمية” ليخبر الأستاذ «عبد الله البردوني” بوصولي فأسرع إليّ والفرحة تسبق خطاه. ولن انس وقفته على باب الغرفة، وهو يرتعش من الفرح، ويتهلل وجهه بالبهجة. وكان عناقا طويلا وحديثا طويلا. وطلبت منه أن يجمع أكبر قدر من الكتب التي كنا نحلم بقراءتها في “السجن” لأرسلها إلى أخي “قاسم” فجمع كثيرا من الكتب أمكن إرسالها مع المرافق على الحمار الذي جئت عليه. وبعد أسبوع واحد تلقيت من أخي “قاسم” قصيدة رائعة فياضة المشاعر بديعة التصوير يتحدث فيها عن ساعة الفراق ويقول:

 تلفت لا يدري وقد غاب وعيه  أصهباء يحسو أم لهيب يعاقره

 أأفرح؟ أم أبكي الفراق؟ فإنني  تلقيت ما قد كنت عمري أحاذره

 ثم يقول في آخرها:

 هنيئا هنيئا طر وحلِّق مرفرفا بلا وجل قد أطلق الطير آسره

 وزر كل روض فيه من ذكرياتنا تجد كل روض هبَّ يلقاك زاهره

 وقد اشجتني وأحزنني لبقائه في سجنه البعيد، ليس له رفيق إلا واحد، بينما أنا بين رفقاء سجن كثيرين القصيدة طويلة جدا من أجمل أشعاره الرائعة، وأتذكر أن أستاذنا “البردوني” قد رد عليها بقصيدة طويلة أيضا لم أذكر منها شيء للأسف الشديد

ثم تفرقت بنا المطارح، وغبنا عن “اليمن” فترات، وكنا كلما عدنا نلتقي بأستاذنا ونتزاور ورباط الود القديم الثابت لا يريم وكان في إحدى فترات الغياب قد تزوج فسعد، لكن الله استأثر بمن أحب، فحزن ثم تزوج مرة أخرى وسعد أيضا بها، وفي هذه الفترة ركز على أبحاثه وأشعاره، فكان رائع الشعر والبيان لكن أبحاثه شابها الضعف والارتجال، في حين أغنى المكتبة الشعرية بدواوينه الرائعة.

لم ينقطع تواصلنا في حال تواجدنا، فكنا نتبادل الزيارات بين الحين والأخر وقد زارني مرة وعرفني بالشاعر الحميني الكبير “أحمد الحضراني” الذي أصبح بلبل مجالسنا “القاتية”، بأشعاره الاجتماعية الناقدة.

 ومضت حياتنا على هذا الوتر الجميل، ولكني لم أعرف ما خلف صمته عن رثاء والدتي رحمها الله مع أنه حضر عزائها كله، لكنه لم يكتب كلمة لا شعرا ولا نثرا، مع  أنه كان يحبها كل الحب، وكذلك عندما توفى أخي “عباس” وكان أيضا يحبه كل الحب، فهو لم يقصر يوما عن حضور مجالس عزاءه، ولكنه لم يكتب عنه كلمة واحدة لا شعرا ولا نثرا بالرغم من طول الصحبة وصادق الوداد.

 لعل الحزن ألجم قلمه.

لعل له عذرا وأنت تعاتب.

ونور الله ضريحه

***

الأستاذ والمفكر الكبير المؤسس إبراهيم بن علي الوزير

 صنع في اليمن  .. الحلقة ( 14 )

الفرار من صنعاء

اهدي هذا المقال إلى  روح الأباة الكرام من آل الزايدي وآل الطعيماني وال معيلي وآل الغادر وآل عمير أولئك الذين خاطروا بأنفسهم  من اجل مبادئهم في نصرة المظلومين  رحم الله من مات وحفظ من بقي بقي.

_ بعد تأمين سلامة المأوى وتأمين المال وإعداد الرجال   لم يبق إلاَّ تدبير الهرب. وبفضل المشايخ الثلاثة «الزائدي» و«الغادر» و«سراج» تم تجهيز الرجال والجمال قبل قرابة شهر من يوم الفرار. وكان«سعيد أحمد الطعيماني» أحد الرجال المختارين لرفقتهم مقيما بأهله في«وادي ظهر»   فاختبأت النياق لديه حتى حان وقت الرحيل.

رسالة سرية

وتلقينا- «قاسم» وأنا- رسالة في البريد المعتاد قبل سفرهم بأسبوع من أخي «عباس» عليها إشارة بوجود رسالة معماه وراء الصفحة كتبت بماء الليمون الحامض. وهذه الطريقة كانت متبعة آنذاك بين المعتقلين في السجون المتباعدة، أو مع من بقي خارجه. وهي عملية بسيطة لا تحتاج إلى أكثر من تعريضها لحرارة النار حتى تتضح الكلمات. وعندما قرأناها أخبرنا فيها بأن الفرار قد تقرر في الأسبوع القادم. ولكي نعرف سفرهم من عدمه فالعلامة على ذلك عدم وصول كتاب منهم في البريد القادم. وختم رسالته كما أذكر بقوله : فإما المجد وإما اللحد. ولم يكشف لنا تفاصيل الخطة سوى قوله أنها ستتم من جهة المشرق.

في انتظار الرحيل

وتفتقت الدراسة عن خطة لا تخلو من الخطورة حيث قضت بأن يتم الخروج من البيت ومن المستشفى في وقت واحد، وعلى أساس إلا ينكشف غياب«إبراهيم» من المستشفى إلاَّ بعد فترة طويلة يكونون فيها قد ابتعدوا بما فيه الكفاية بالنجاة بأنفسهم.

و على ضوء هذا كان على الأخ «إبراهيم» أولا أن يتفحص وضع المستشفى وسوره العالي من أجل إيجاد ثغرة ينفذ منها. ثم كان عليه أن يبحث عن الفترة التي تؤَّمن غيابه بما فيه الكفاية. وكان الاهتمام قد انصب بشكل رئيسي حول إخراج أخي «إبراهيم» من المستشفى لتفادي الانكشاف المبكر، أما الأخوان الباقيان فخروجهما من البيت ليس صعبا وليس فيه مخاطر. وهكذا أوكل أمر المكان- بصفة رئيسية- والوقت للأخ «إبراهيم».

عند تفحصه لسور المستشفى وجد مراحيض المستشفى- التي بنيت على جزء من السور- بها نوافذ مفتوحة صغيرة تطل على الطريق العام خارج السور، وهي تكفي لأن يقفز المرء منها إلى الطريق العام وراء السور مباشرة بسهولة، لكنه لاحظ في الوقت نفسه أنها تقع بين نوبتي حراسة عسكرية بها جنديان يراقبان الذاهبين والآيبين من وإلى تلك المراحيض. وليس هناك منفذ يؤدي إلى تلك المراحيض غيرها. وقد أبلغ الأخوين بذلك الاكتشاف. وليس أمامه منفذ غيره، وما حيلة المضطر إلاَّ ركوبها.

أما الفترة الأكثر أمانا للفرار فقد كانت هي الفترة الواقعة بين صلاة المغرب والعشاء. وعلى هذا الأساس وضعت الخطة، وتقرر أن ينتظره وراء السور أحد المرفقين ليأخذه إلى نقطة التجمع. وكان الاتفاق ألا يتحرك الأخ إبراهيم إلا بعد أن يخبره الأخ محمد بيوم الموعد ومكانه وفي نفس اليوم وبعد أفول شمس اليوم الموعود، وبينما كان يدبر الحيلة للتملص من الحارس جاء الحارس إليه بنفسه يخبره أنه مضطر للذهاب إلى بيته ليأتي له بفرش جديد، فسُرَّ بهذا الخبر، وإذا أراد الله أمرا سهَّل أسبابه.

صلى إماما بالإخوان «قاسم الثور» و «سلام فارع» و «عبد الرحمن الوزير» أولئك الذين نقلوا من المستشفى إلى السجن للعلاج. أحسَّ بوخز في ضميره لما قد يسببه فراره من متاعب لهم، ولكن ألم يسألهم عند وصوله المستشفى أن يتعاونوا على إنقاذ البلد بالفرار فامتنعوا عن خوض تلك المغامرة؟. إذن ليقرأ في صلاته بهم (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) إلى آخر الآيات. وبعد أن أكمل صلاته تظاهر بأنه ذاهب إلى الاستنجاء فأخذ وعاء الوضوء وتوجه نحو المراحيض ومرَّ من بين نوبتي الحراسة، ولاحظ أحد الجنود ينفخ نار الموقد ليغلي عليها قهوة القشر وكان الدخان يتصاعد من ذقنه المشوشة فمشى وهو يتلو(وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) لقد كان حريصا كل الحرص ألا يروه ذاهبا حتى لا يراقبونه آيبا فيكتشفون هروبه في وقت مبكر.  وسلَّم الله فلم يبصروه. ودخل المرحاض ومنه إلى الكوة وقفز منها إلى الخارج حيث وجد نفسه وحيدا.. بدون رفيق منتظر.

فوجئ بهذا الموقف. وتحيَّر في أمره. هل ينتظر؟ هل يرجع؟. لقد كانت لحظات حرجة يتقرر فيها مصير الخطة نجاحا وفشلا نتيجة ما سيتخذه من قرار صائب أو خاطئ. ويصور لنا الأخ «إبراهيم» حالته تلك في رسالة منه جوابية فيقول:(قمت أجري لا أدري إلى أين. ولم أجد إلاَّ سكون الليل وخلاء ممتدا بدا لي بلا نهاية، فعدت أدراجي أحاول التسلق لأعود إلى الكوة، ولا أدري كيف استطعت العودة. نفضت الغبار الذي علق بي وعدت أدراجي إلى الغرفة.)

ولحسن الحظ فقد عاد إلى غرفته قبل عودة حارسه فلم يلحظ هذا الأخير شيئا. وما لبث أن وصل أخي «محمد» فلقي إبراهيم في باب المستشفى الرئيسي فوقفا يتحدثان بعفوية وتبادلا ما حدث وأن الخطة قد أرجئت يوما واحدا بسبب تأخر «الهجن» في «ضلاع».

وفي اليوم التالي يوم 2 أو 3 ربيع الثاني1373/9-10 ديسمبر 1953  ودَّع الأخوان «عباس» و«محمد» والدتهما وأختهما «حورية» وزوجة أخيهما «عباس» «أمة الحسيب» وطفلاها الصغيران «عبد الله بن عباس» و«فوزية بنت عباس». كان وداعا مؤثرا اعتنقت فيه الشجاعة بالتضحية والإشفاق بالإقدام. وقالت الوالدة للأخوين -وهي تسلم مسدسا لأبنها الصغير«محمد»-: (أذهبوا على بركة الله ولا تأتوني أسرى يدردحون بكم في الشوارع. إنني أفضل أن أرى جثثكم على أن أراكم أسرى) وخرج الأخوان وقت المغيب متنكرين في ثياب بدوية، وعلى ظهر أخي «عباس» شيئا مما يحمله البدو، ومرَّا بالعلاَّمة «محمد المنصور» وهو في طريقه إلى «مسجد الفليحي» فلم يعرفهما، فاطمأنا إلى حسن تنكرهما وتابعا خطاهما حتى «فروة». وفور وصولهما أرسل الأخ «عباس» «ناجي صالح الزايدي» إلى المستشفى ليصحب «إبراهيم» إلى نقطة اللقاء، وبينما كان يخب في طريقه إلى خارج المستشفى لمرافقة «إبراهيم» كان «إبراهيم» يكرر قصة الأمس.

في نفس الوقت جاء الحارس ليقول أنه  مضطر للذهاب إلى بيته لسبب لا يعرفه أحد حتى الآن. صلى إماما بنفس أولئك المعتقلين. تابع نفس الطريق، ردد نفس الآيات. مر بنفس الجندي وهو ينفخ النار والدخان يتصاعد من شعر ذقنه المشوشة. ألقى بنفسه إلى خارج السور. ومرة ثانية لم يجد أحدا. ويقول: (لكني صممت هذه المرة على المسير ولو تائها. وسمعت همهمة قافلة فاتجهت إليها. ولكني شعرت بقشعريرة من يحس بأنه لم يصادف غرضه. إذ كانت قافلة من الجمال تنتظر فتح «باب البلقة» بعد صلاة العشاء لتدخل العاصمة. وكانت الأبواب تغلق بين الصلاتين. قفلت راجعا. ولكني لم أتجه إلى سور المستشفى وإنما إلى الطريق الذاهب إلى « فروة» من خارج السور. وإذا يلوح لي شبح قادم فاتجهتُ إليه وألقيت السلام عليه فرد السلام. والحمدلله فقد كان الشخص المكلف بمقابلتي. لقد كان « ناجي صالح الزائدي» فاتجهت معه جريا إلى «شعوب» حيث وجدت أخوي «عباس» و«محمد»)  

وفي نقطة اللقاء اجتمع الأخوة الثلاثة والمرافقون الثلاثة والشيخ «حسين سراج» و رسول المهمات “علي الجرادي” الذين خرجا بقصد وداعهم والتأكد من نجاح خروجهم من«صنعاء» بأمان ويسر. وبعد وداع عاد الشيخ سراج إلى صنعاء قبل إغلاق باب شعوب بينما توجه الجرادي صوب السر، وربما صوب سعوان لزيارة أقاربه، وقد رأوه يغادرهم وهم منطلقون . بينما بقي الشيخان «أحمد الزائدي» و«ناجي الغادر» في “صنعاء” وقد افتعلا قضية يشارعان من أجلها، ثم بعد حين من فرار الإخوان توجها إلى «تعز» للمزيد من التغطية  .

بعد أن غيروا أسمائهم إلى سعيد ومبروك وصالح اعتلى سعيد(عباس) على بركة الله خلف سعيد الطعيماني على واحدة من الهجن، واعتلى مبروك (إبراهيم) خلف ناجي الزايدي على أخرى، واعتلى صالح(محمد) خلف أحمد عبيد الطعيماني على الثالثة وتوجه الركب خائفا يترقب في طريقه إلى المشرق عبر «بني حشيش» . لاحظوا ورائهم ضوء نار ظنوه أضواء سيارات تتبعهم؛ فأطلقوا «للهجن» أعنتها، فانطلقت بأقصى طاقتها، وشملهم الصمت فلم يعودوا يسمعون إلا هبوب الريح تجري حول أذانهم وإلا وقع أخفافها على التراب في إيقاع سريع ورتيب، وما كانوا رأوه هو أضواء محاريق القص في ضواحي الغراس. على كل حال كانت الهجن تجري بأقصى سرعتها، وساعد «الأخوان الثلاثة» على التماسك على ظهرها أن كل واحد منهم كان رديف جمَّال ماهر، ثم إن تعودهم على ركوب الخيل قد كان مساعدا مفيدا. وعندما مروا «بالهجرة» ورأوا قبة الإمام «محمد بن عبد الله الوزير» من بعيد سلموا عليه وقرأوا على روحه وروح آبائهم الفاتحة، ولعلهم أو بعضهم تذكر أو تذكروا كيف خرج الإمام من «صنعاء» خائفا يترقب بعد أن أنقلب عليه علماء الاقتطاع ومشايخه بينما كانت الهجن تنطلق بهم مسرعة صعدا نحو«الشرفة» ومنها هبوطا إلى «حريب القراميش» تحت جبال بني جبر في الوقت الذي بدأت فيه أضواء الفجر في الانتشار، فاستقروا في «وادي اللحين» فوق «قرية بيت الفقيه»  ليختفوا فيه حتى الليل ثم يتابعوا سفرهم.

لم يكونوا قد أكلوا شيئا وكان معهم ما اعدته الوالدة من سبايا وخبز وكعك واصحبتهم بدقيق وسمن كافية لرحلة يومين أو ثلاثة أيام؛  فأكلوا الجاهز كله من شدة الجوع، وسقطوا نياما، ثم اعتمدوا فيما بعد على عجن الدقيق وتحويله أقراصا مدببة على شكل الكمثرى يضعونها على حجارة قد احمرت من النار حتى تنضج فيسكبون عليها قليلا من سمن أو لبن، وتسمى هذه الأكلة بـ«الجمري» وهو طعام البدو الرحل.

كانوا-كما يصف أخي محمد مرهقين للغاية (تسلخت أفخاذنا من شدة الحركة فوق القتب، وسال منها الدم فنمنا لا تعرف من أمرنا شيئا حتى بعد صلاة العصر)

فلنتركهم قليلا يتهنون بنومهم العميق ليستريحوا من رحلة التعب ، ونعود إلى «صنعاء» لننظر ما حدث فيها قبل أن نتابع أخبار الرحلة- المغامرة.

التفتيش  

كانت نقطة الضعف في الخطة هي الفترة الزمنية، فلو لم يحدث في الحسبان احدث لكانت إمكانية القبض عليهم واردة أو قتلهم لأنهم بالفعل مصممون على القتال. ولكن إذا أراد الله أمرا يسر أسبابه، فعندما عاد الحارس إلى المستشفى افتقد الأخ «إبراهيم» ففتش عنه، ولمَّا لم يجده ظن أنه ذهب إلى البيت لزيارة والدته فتبعه إلى هناك، ولما طرق الباب ردت عليه الوالدة فسألها عن «إبراهيم» فردَّت عليه بجواب يوهم بأنه موجود وغير موجود، ولمَّا طلب منها أن تفتح الباب ضربت له موعدا في الصباح، فأنقلب على عقبيه إلى منزل السيف «العباس» وملء ظنه أنه عند والدته وأخويه داخل البيت فأخبره بما حدث، فأمر بدوره مدير الضبط «علي بن علي الأعور» بالذهاب إلي المنزل، وإعادة «إبراهيم» إلى السجن؛ فذهب مع شرذمة من الجنود وطرقوا الباب، وبعد حوار عن الغرض من مجيئهم، طلبوا فتح الباب ليفتشوا المنزل فردَّت الوالدة: أين جئتم بابني؟ هل قتلتموه ثم جئتم تبحثون عنه لتغالطوا الناس؟ فألحوا بفتح الباب فرفضت أن تفتحه رفضا نهائيا.

وكانت الأم البطلة والنادرة المثال قد احتاطت لنفسها فأغلقت الباب إغلاقا محكما، وأسندته بالخشب والحجارة الكبيرة حتى يصعب فتحه، ثم أضأت غرفة المفرج بشكل يجعل الظل مواجها للنافذة، ووضعت على المداعة شكل عمامة. وأمرت كلا من «عبد الله»- البالغ من العمر ست سنوات وأخته «فوزية» البالغة من العمر أربع سنوات- بالدخول والخروج إلى الغرفة، بينما تولت زوج الأخ «عباس» والأخت «حورية» تحريك المداعة المعممة بين الحين والأخر.

هذه التمثيلية الساذجة أعطت فائدتها، إذ أنه عندما رفضت الوالدة فتح الباب انفردت طائفة منهم فذهبت إلى خلفه وشاهدت شكل العمامة وهي تتحرك وأشباحا تدخل وتخرج فتيقنت وجوده داخل البيت مختبئين. وهنا وقع الجنود في الفخ، ومن ثم قرروا ضرب الحصار حتى الصباح، إذ كان ما يزال عند الناس أخلاق فلم يقتحموا البيت في الليل.أخرت هذه الحركة مطاردة الهاربين حوالي أكثر من 12 ساعة، ولولاها لأمكن ملاحقتهم بالسيارات وربما إلقاء القبض عليهم ولما يبتعدوا عن«صنعاء» كثيرا، وهكذا جاء التيسير من حيث لم يحتسبوا.

وفي الصباح ألبست الوالدة «عبد الله عباس» ثياب طفلة صغيرة خوفا من أن يعتقل حتى وهو في ذلك العمر، ثم فتحت الباب فدخل العسكر ومعهم  «علي بن علي الأعور» ومعه من المدنيين المسؤلين السيد «يحيى النهاري» ففتشوا البيت تفتيشا دقيقا إلى درجة أنهم كانوا يقلبون الوسائد ويرفعون البسط عن الأرض ليروا ما تحتها، ولماَّ لم يجدوا أحدا سأل السيد «يحيى النهاري» الوالدة برفق إذا كانت تعرف أين هم؟ وهو يضمن سلامتهم، وأقسَم لها على ذلك، وأنه يخشى العثور عليهم فتكون العاقبة وخيمة بخلاف لو أنهم سلموا أنفسهم و.. و..و.. فردت عليه بسؤال أخر قائلة له: قلِّي يا سيدي يحيى هل قتلتم أولادي ثم جئتم تتظاهرون بالبحث عنهم لتوهموا الناس؟ فأقسم أنهم لم يقتلوهم، عندئذ قالت فأين هم إذن؟ فقال لا أدري ولكنك يـ«أبنت أبو راس» تعرفين أين هم. وبعد حوار من هذا النوع خرجوا يائسين من الحصول على أي نتيجة، ليتبوأ السيد يحيى دكة الحانوت المواجه للمنزل ليراقب من يدخل ويخرج.

بعد قليل أقبل الأخ «إسماعيل بن أحمد الوزير» يسعى، حالما بأن تعطيه الوالدة أرنبة بيضاء، كالعادة، وإذا به يقف أمام عساكر مكشرة الأنياب، فاستقدمه السيد «يحيى» وأستنطقه عما لديه، وهدده إن لم يفصح عن مكانتهم. ولما تبين له براءته من معرفة مكانهم أخلى سبيله فدخل إلى البيت وإذا بهم في حالة أخرى. عاد منطلقا إلى «سجن القلعة» حيث الأخوان المعتقلين من «آل الوزير» وأخبرهم بالنبأ.

ثم بعد حين أقبلت مديرة سجن النساء المعروف بـ « بيت الزوقبي» – لتفتيش السيدات حتى لا يكون الرجال متخفين في أثواب النساء ، صَّفت الجميع في مكان واحد وبدأت التفتيش بدون جدوى.عندئذ أمر «العباس» أبواب العاصمة «صنعاء» أن تغلق، وأبرق إلى الإمام بالخبر فوصله أثناء المواجهة فقام مغضبا وأجاب على أخيه أن أعلنوا بهرب الرصاص أيضا، وهو قد أراد بذلك أن يثير القبائل المعادية للرصاص فتجِّد في تتبعهم كما يبدو، وأبرق إلى كل «العمال» في الحدود بمراقبة الطرق وإلقاء القبض على أبناء الوزير الهاربين الثلاثة والرصاص .

حدثني العلامة التقي «احمد بن محمد عثمان الوزير» قال: (كنت مع «عامل السر» الوالد«أحمد بن مُحمد مفضل» في «وادي حريب القراميش» للنظر في قضية قبلية وكان معنا الشيخ الوفي«صالح سعيد المنصوري» الذي اختير «عدلا» لفريق منهم. وكنا قد تناولنا غدائنا وإذا بـ «سواري»[خيَّال] يدخل على عامل «السر» ومعه رسالة سلمها إليه فتوجست خيفة منه وأحسست علامات شر تطل من وجهه، وأن خبرا مهما يحمله، ولو لم يكن كذلك لما وصل هذا السواري إلى هذه البقعة في هذا الوقت، وكنت أترقب فرار الأخوان في أي يوم بدون أن أعلم ساعة الصفر، فلما قرأ «العامل» الرسالة وتأملها تغيَّر وجهه، ثم وضعها أمامه لبعض الوقت، ثم عاد فقرأها مرة ثانية ووضعها أمامه، ثم أخذها فقرأها للمرة الثالثة ووضعها أمامه، ثم التفت إليَّ وقال: هل تعرف أين «إبراهيم بن علي الوزير»؟ قلت: آخر عهدي به في «حبس القلعة» فقال إنه قد هرب مع أخويه «عباس» و«محمد» ثم استدعى الحاج «صالح أبو زرعة»- وكان جنديا مع السيف «يحيى بن الإمام» فلما توفي بقي في عكفة السيف «العباس»_ فهمس في أذنه شيئا لا أعرفه. ثم خرجنا للصلاة وإذا بالحاج«صالح» يقول لي أن «أولاد الوزير» هربوا وأنه مكلف باستقصاء الأخبار عنهم عن طريق الرعيان والمسافرين فقلت مداريا: أمر صواب. فالتفت إلي وقال: يا سيدي أحمد والله العظيم لو لقيتهم لفررت معهم، والله لن أسلمهم ليقتلوهم. وعلمت أن الأمر من «العباس» كان يقضي بإلقاء القبض عليهم أو قتلهم. ثم مضى اليوم وأنا في قلق على الأخوان، ولم أنم تلك الليلة وبقيت أفكر في وسيلة للاتصال بهم وتحذيرهم. وبعد الفجر- والناس ينامون بعد الصلاة عادة- تسللت إلى مرقد الشيخ الفاضل«صالح بن سعيد المنصوري» فهززته برفق ولكنه- بطبيعته الحذرة- فزَّ من مرقده كأن شيئا ما قد لدغه فهمست في أذنه أن يهدأ، ثم أبلغته بفرار الأخوان وطلبت منه التفكير في إيجاد الوسيلة لتحذيرهم فقال لي: لا عليك سأذهب أفتش عنهم، فقلت له كيف وأنت قد اختاروك «عدلا» بين المتخاصمين؟ فقال أنا سأتدبر أمري مع «العامل» فلا تقلق، وعدت إلى مرقدي، وعند الصباح طلب من «العامل» الأذن له للسفر إلى بلاده بسبب مشاكل هناك، فلم يقبل لكونه «عدلا» وما زال به حتى أقنعه ورحل. وبعد يومين رجع وأخبرني أنه ذهب إلى بيته فأخذ ناقته وأوقرها بما يحتاجه من الزاد كما أخذ فلوسا معه فيما لو احتاجوا إلى مال، وذهب يفتش عنهم فلما لم يجدهم عاد فاطمأننت. ثم صعدنا إلى «باسق» في طريق العودة إلى «الهجرة»- مركز الناحية- وهناك لقيت الشيخ «صالح راشد» فأومأ لي بما فهمت من إشاراته أن الأخوان قد نجوا.. فاطمأننت مرة ثانية ولكني ظللت خائفا. وعند العودة إلى «الهجرة» وصلت إلى البيت، وإذا بي أفاجأ بأن الجنود ومعهم الأخ «محمد غالب» كانوا قد دخلوا البيت أثناء غيابي وفتشوه تفتيشا دقيقا، ولما لم يجدوا شيئا أرادوا أن يتأكدوا أن من أمامهم نساء وليسوا رجالا متنكرين في أثواب النساء فطالبواُّ بمسك أثداء النساء ليتأكدوا من ذلك، لكن الأخ «محمد غالب» رفض ذلك بشدة ونهرهم وقال هذا لا يمكن أن يكون فنحن نعرف نسائهم كوننا جيران لهم).وأضاف الأخ أحمد ( وكنت خائفا على«بصائر» أموالكم التي كانت موضوعة في الخزانة والتي فتشوها فرأوها مكدسة أمام أنظارهم ولكونهم مشغولين بالبحث عن الرجال فلم يتأملوا محتوياتها ولو أنهم فعلوا لعثروا على كنز طالما جهد السيف«العباس» في الحصول عليه وطالما جهدتم في إخفائها وتهريبها من مكان إلى مكان حتى استقرت عندي قال فحمدت الله على ذلك. وبعد الظهر وإذا بجندي يستدعيني إلى «العامل» فتيقنت أنه السجن وذهبت إليه وإذا به يكل إلي بعض الأعمال اليومية).  

 وحدثني الأخ«علي بن محمد الوزير» المعروف بالكدف بدلا من الوزير قال: (كنت عريفة في الجيش النظامي في«دمت» فوصل أمر إلى عامله وحاكمه السيد فلان «العلوي» من جبلة فطلبنا أنا والعريفة «محمد عبد الله الزبير»  من مناخة من محل «الهجرة» وأخبرنا أن ثلاثة من «بني الوزير» قد فروا، فلما سمعت ذلك تمالكت نفسي. وكانوا لا يعرفونني إلاَّ «بعلي الكدف». وأمرنا أن نستصحب عشرة جنود نتوجه بهم إلى طريق «قعطبة» وكان هناك طريقان تفضي إليها: طريق المرحل للقراش من الحمير والبغال والجمال، وطريق صعبة لا يمشي بها إلاَّ الراجلون. فلما خرجنا كنت في حيرة من أمري فقررت أن أفتح على «محمد عبد الله الزبير» بنسبي ومن أكون ثم سألته كيف بي وأنا أواجه عيال عمي. وكان الرجل شهما فقال لي: الذي تريده نعمله. ووالله وبالله لن اقبض على واحد وسأسايرهم حتى أبلغهم مأمنهم، فلما أطمأننت من جانبه قررنا أن نفتح الموضوع على الجنود فوافقا على تهريبهم أو يهربون معهم بشرط أن يتسلموا مالا مقابل ذلك. وعندما تفرقنا ليأخذ كل «عريفة» أصحابه الخمسة ليراقب طريقه كان الاتفاق قد تم على أن من وجدهم أولا يبلغ الثاني لنسهل فرارهم. وبقينا ليلتين ويوم قبل أن يأمروا بإعادتنا).

عودة إلى الصحراء

 نام الفارون نوما عميقا واستراحوا هناك طيلة يومهم. وبينما هم على ذلك الحال- كما أخبرني«صالح الزائدي» جاء إليهم («احمد بن ذيب» من «آل جمعان» من «نهم» فسألني أين تبوا بهؤلاء الرجال؟ فقلت: حجاج من “حضرموت”، وجاء قريب لسعيد الطعيماني وهو من حريب القراميش ومعه نعجة فذبحها ضيفة لنا.

ولما جنَّ الليل استأنفوا رحيلهم في اتجاه «الجدعان» فخرجوا على منزل ذهب إليه قريب “سعيد الطعيماني” فتزود منه، ثم ذهبوا مسافة قليلة وصعدوا إلى جرف هناك استقروا فيه بقية الليل خلف الجبل الذي كان فيه عامل بني حشيش الذي بيحث عنهم، وفي الصباح انطلقوا صوب منازل الشيخ «مبخوت بن كعلان» وكان الشيخ «حسين سراج» قد اتفق معه على أن يأويهم في حصنه حتى تهدأ «الضوارب» على حد تعبيره. وبالقرب من منازله توقفوا وأطلقوا رصاصة فوق بيته –وهي إحدى الطرق في إرسال رسالاتهم المتفق عليها مسبقا- فلم يأت فأطلقوا أخرى، وبينما كانوا في انتظاره أشعلوا نارا يتدفئون بها من البرد الشديد، وما لبث الشيخ «مبخوت» أن أقبل مسرعا ومظاهر الخوف بادية عليه، وقال أنه سمع الطلقة الأولى وكان لديه عسكر ورسالة من عاملي «حريب» و«مأرب» يأمرانه بإلقاء القبض على «أولاد الوزير» وينذرانه بأن من آواهم أو مروا من حدوده فلم يقبض عليهم فمصيره السجن وما يقرره الإمام. وسلم الرسالتين إلى الأخوان ليقرأوها وإذا بها نفس ما قال وقال «الزائدي» أن خمسة جنود وصلوا بالرسائل.

واعتذر الشيخ عن إيوائهم- كما قال الأخ «إبراهيم»- في حصنه واقترح عليهم التوجه نحو«قبيلة عبيدة» لأن لكم بها أنصارا. وقال أنه سيسافر إلى الشيخ «علي بن محسن بن معيلي» للاتفاق معه والسماح بالسفر عبر «قبيلة عبيدة» و«الربع الخالي» وطلب منهم أن يبقوا في نفس الشعب لخلوه من المارة، وقال الزائدي أن الشيخ «مبخوت» أستقل هجنه عائدا إلى حصنه، وقال الأخ محمد أن الأخ عباس أعطاه خمسة عشر ريالا. وبعد حين-كما يقول محمد- جاء ابنه «ربيش بن كعلان» ليخبر أن والده قد صرف الجند وأن العربان قد سمعوا بأنكم فررتم وأنه يخشى عليكم، فقالوا له أنهم متفقون مع والده، وبعد كلام طويل تعهد بالوفاء بعد طلبه كسوة العهد. ثم عاد مرة ثانية ومعه رفيق له فتعهد بالوفاء وطلب له ربيش: كسوة العهد فغضب ناجي الزايدي وقام منتصبا وبندقيته بيده غاضبا، فتدخل الأخ «إبراهيم» ومسكها بيده، ثم أعطوه شيئا يسيرا وذهبا. وقال الزائدي (ان مبخوت أرسل رسولا أننا نسري) وقال سعيد في رواية محمد أنا باشم خيانة نترك المنطقة الآن بسرعة بدون انتظار عودة الشيخ «مبخوت» فتوجهوا إلى واد واسع تحفه الجبال ومليء بالأشجار. قال أخي محمد: (بعد وصولنا بساعة بدأ مطر خفيف بالنزول ولف الوادي ضباب كثيف لمدة ثلاثة ليال متتالية لا ترى سوى ثلاثة أمتار أمامنا) وفي مثل هذا الموسم كما أخبرني “طالب مبارك عمير” تهب على هذه المناطق رياح رملية ناعمة تحجب الأفق وتمنع الرؤية، وقال أخي إبراهيم أنهم آووا  إلى شجرة وارفة ، وأوقدوا نارا للأكل والتدفئة، وبقوا فيها ثلاثة أيام حسوما عمياء.

ولما أشرقت الشمس عليهم كان الوقت عصرا فاغتنموا الفرصة فواصلوا السير على هدى آثار غنم قادتهم إلى راع تنم مخائله عن ذكاء وقاد، فسلم عليه الرفاق ودار بينهم الحوار الأتي:

س- كيف حالك؟

ج- سلِّم حاله

س- خبر ولاَّ علم؟

ج – لا خبر ولا علم

س- من القوم؟

ج- حنَّا قوم خَوَف.

قال الراعي: أمنتم ويا مرحبا بكم مرحب الصوت.

ثم نادى: الضيوف الضيوف. كان هذا هو “مبارك عمير” وإذا بصيحات الترحيب تنطلق من خيمة غير بعيدة. قادهم الغلام إليها فوجدوا فيها صاحبها «طالب مبارك عمير» فرحب بهم وأراد أن يذبح لهم من الكباش على عددهم فراجعوه حتى قبل براسين فقط.

كان «طالب مبارك عمير» شهما وفيا شجاعا. يسكن منطقة « الزور» في خيمة بدوية مجردة من الأثاث الفخم لكنها مفروشة بمكارم الأخلاق فأضافهم ولم يسأل من هم قط، فلما جن الليلَّ ولمعت نجومه استأذنوه بمواصلة السير فقال: لا أنصحكم فالأخبار تملأ المشرق أن «أولاد الوزير» هربوا ومعهم «الرصاص» مع خمسين مرافقا، وأنتم قوم خَوَف فأخشى أن يقبضوا عليكم، والطرق كلها محروسة والحدود مغلقة من «مارب» حتى«لفج يلا» فوافقوا على البقاء عنده. ومع كل شروق شمس كان يذهب ليستطلع أمر الطرق المغلقة ويأتي في الليل، بينما كانت أمه الكريمة تقدم لهم وجبة الطعام كبشا مطبوخا. كل تلك المروات والمضيفون لم يسأله منهم فراع الإخوان هذا الكرم وتلك الشهامة واختلى أخي عباس بطالب وأعطاه خمسة عشر ريالا فرفض قبولها فالح فقبل بعد لأي وقد حدثني «مبارك» قال أن أمه ذات ليلة أخبرته أنها لاحظت من الخطوات المتأنية والمشفقة من الرمل والحصى أن ضيوفها ليسو بدوًا وإنما هم من أسرة شريفة، وأخبرت أبنها بذلك وطلبت منه أن يتفانى في خدمتهم فهم أشراف وغرباء فوعدها -كما أخبرني- بذلك وكان أبوه وعمه غائبين في رحلة تجارية بدوية، وفي آخر روحاة “طالب” إلى«ذنه»- كما أخبرني مبارك- ليكتشف الطريق التقى بشريفين من أشراف «مأرب» خرجا يفتشان عن الأخوان لإلقاء القبض عليهم فسألاه عن سبب مجيئه وعم يبحث فقال: إبلي فارة أفتش عنها واخُوف حد يذبحها؛ فسألاه عن الوزراء هل مروا من عنده؟ أو يعرف عنهم شيئا؟ فأنكر معرفته بهما فبذلا له مأتي ريال فرانصي فأنكر، وقال لهم أنه مسئول أمام الدولة لو وجدوا في منطقته؛ فلما أطمأنا عليه أخبراه أن عامل«حريب» قتل بيد أحد الأشراف، وأن العسكر الذين انتشروا من «مأرب» إلى «لفج يلا» قد ارتفعوا لذلك السبب. فعاد متهلل الوجه ليخبرهم بأن أحد الأشراف قتل «عامل حريب» محمد عبد الله إسحاق وأن الجنود قد هربوا من مواقع الحراسة. وكان قتله من قبل الشريف “حسين عبد ربه سلكا” وهو جندي بفرق جيش اليمن المرابط في حريب في13 ربيع الثاني1373/ 20 ديسمبر1953 

كان الوقت قبل الغروب فتحين أخي “عباس” فرصة فالتقى بـ “طالب” على حدة وأعطاه عشرين ريال فرفض بكل قوة وأقسم عباس على ذلك وتمنى على طالب ألا يخبر أحدا وبقي عباس نادما انه لم يعط هذا الرجل الشهم ما بقي معه وهو قليل . بعد أثني عشر يوما من الاختباء في بطن الصحراء- قرروا الانطلاق فورا وبدون تأخر. ورافقهم «طالب بن عمير» ثلاثة أربع أيام ثم دلهم على المخرج الآمن من الحدود من «ذنه» فودعوا الرجل الكريم وأمه بعد أن زودتهم بطحين وسمن وانطلقوا عبر الكثبان الرملية. وعندما كانوا في طريقهم إلى “بيحان” كان أحد مرافقيهم «حمود بن عبيد الطعيماني» يعود من«ذنه» حسب الاتفاق، وأرجعوا معه الناقة المعارة من صديق للشيخ “علي الزايدي” وأكرمه أخي عباس ببعض المال، وانطلقوا على ذلولين اثنين- ثلاثة على واحد إبراهيم ومحمد وسعيد وعباس وناجي إلى آخر- فارتحل ثلاثة على الذلول الكبير واثنان على الآخر. 

يقول الأخ محمد الوزير: (وصلنا إلى جبل يطل على مفازة كبيرة من الكثبان الرملية تنتهي بجبل يطل على وادي حريب فبتنا هناك حتى غربت الشمس وانحدرنا على الكثبان الرملية وفي أثناء انحدارنا تعثر الجمل الذي كان عليه أخي عباس فوقع على الأرض وكان المرحوم ناجي الزايدي هو الذي يمسك بزمام هذا الجمل فغضب المرحوم سعيد الطعيماني على ناجي وتلاسنا وأرادا الاشتباك لولا حكمة أخي عباس حيث هدأ الموقف بحزم. ونجانا الله من تلك الحالة لأنه لو حصل قتال بينهما لكانت العواقب غير حميدة لنا).

وأخبرني أخي «عباس» نوَّر الله ضريحه- أنهم عندما اقتربوا من الحدود شاهدوا ثلاثة جنود ممددين كانوا بقية الجند الذين ارتفعوا بعد قاتل «عامل حريب» إذ كانوا حملت الشائعة حبرا بأن ثورة بالبيضاء قد تكون نتيجة فرار الرّصاص إذ أتفجرت فكان ارتفاعهم قبل أن يغرفوا حقيقة الحادثة وأنها بفعل حادث داخلي.

توقف المرافقون قليلا لما رأوهم ريثما يتشاورون فيما بينهم بدون أن يشركوا الأخوان معهم، وكانت تلك عادتهم عندما يحتاجون للتشاور، فيعدون بيتهم مؤتمرا يتناجون فيه بحسم ثم ينطلقون لتنفيذه، ولن يأخذ منهم هذا المؤتمر سوى دقائق يسيرة واستأنفوا المسير، وفي سرعة هائلة ثوبت البنادق  إليهم  بينما مرقت النياق من قربهم مسرعة نحو الحدود، فتظاهر الجنود بالنوم حتى أن واحدا منهم انقلب على جنبه ولو أبدى الجنود حركة ما لكانت تصفيتهم مؤكدة. ولكن الله ستر.

وبينما كانت أشعة الفجر تلوح في الأفق كان الأخوان يدخلون الحدود من رأس أكمة شديدة الانحدار فتسرب أخي “عباس” من على الناقة ووقع على الرمل الناعم ولم يحدث به أذى، فلام سعيد ناجي على إهماله وحصلت بيتهم منافرة حادة أطفاها أخيي عباس بحزم.

 لقد انتهت بهذه الواقعة الناعمة خاتمة المسير في أرض الخوف. وكانت السرعة هي اللحظة التي يتدخل فيها القدر لتمرير قضية من القضايا بسلام، وفجأة ارتفع صوت سعيد وناجي بالمهيد وبهجة الانتصار تسيل مع كلماته رافقه صوت رصاصتين تعلنان خروجهما من يمن الإمام أحمد.

كانت «جبال بلق» على اليمين تتلقى قبلات الشمس الدافئة عندما شاهدوا «بيت شعر»[خدر] فتوجهوا إليه ووجدوا صاحبه أمامه فلَّما رآهم صاح: مرحبا مرحب النور. قادهم الرجل الكريم إلى خدره حيث توجد «فردة زعل» واحدة داخله. ثم جاء بالزبدة وأخذ يفرك أرجل ضيوفه ثم قام فذبح لهم غنمة وشواها وقدمها لهم فأكلوها هنيئا بعد جوع شديد. وبدون أن يعلموا بعث رسولا إلى «الشريف» فبعث بدوره أخاه على حصانه وسألهم: من أنتم؟ فقالوا: مهاجرون من «اليمن» قال: هل تعرفون عن «أولاد الوزير» شيئا؟ قالوا: نحن أولاد الوزير؟ وقد أخذنا تعهدا من الشريف. ورووا له ما دار بينهم أثناء بقائهم بالسجن. قال: سأعود لأخبر «الشريف حسين» بوصولكم.

وواجهوا مشكلة تمكنوا من حلِّها بسرعة؛ فقد كان بين «سعيد الطعيماني» وبين قوم من أتباع الشريف حادثة قتل- وله بتلك القبيلة صلة صهارة- أوجبت فراره منها وسكن «وادي ظهر» إلى أن جاء الآن فخاف على نفسه وأراد الرجوع، لكن الأخوان أقنعوه بأنهم يضمنون ألا يسجن أو يقتل. وأنهم سيقفون معه ولو أدى الأمر إلى أن يظلوا في مكانهم. وبعد قليل من الزمن شاهدوا سيارة تقترب منهم وإذا بالشريف«حسين» نفسه فاجتمعوا به وهنأهم بنجاتهم، فشكروه على جوابه الذي لولاه لظلوا في السجن، ثم أخبروه بموقف «سعيد الطعيماني» فقال: أرحبوا لو كان قتل ثلاثة من أولادي. فاطمأن الجميع إلى نخوة «الشريف». ثم أخذهم إلى مقامه وأذن للذين جاءوا لمقابلته اليومية بالدخول عليه وعليهم، وسأله أحد الزائرين: من هؤلاء؟ قال: من أهم بيت في «اليمن»، قال فهم «بيت الوزير» قال نعم.

ثم أنزلهم في «دار الضيافة» وكان بها جهاز راديو تمكنوا من خلاله من الاستماع إلى أخبار العالم بحرية كاملة. وزارهم وزاروه وأخبروه بمهمتهم وفق الخطة التي تمت في«سجن القاهرة» بـ«حجة»، وسألوه أن يساعدهم قبليا على إيجاد موقع في الداخل وفي منطقة المشرق بالذات؛ لأن تعاونه معهم أمر ضروري. كما أخبروه بأنهم عازمون على السفر إلى«عدن» للقاء الزعيم «عبد الله علي الحكيمي» ثم إلى «القاهرة» لمقابلة الأستاذ «محمد محمود الزبيري» للتشاور معه حول ماتم عليه «اتفاق حجة» ثم يكون العودة إلى «بيحان» ومنه إلى الداخل مرة أخرى.

***

 صنع في اليمن .. الحلقة ( 15 )

 من بيحان إلى عدن

كان الشريف «حسين» رجل وفاء لا ينقض عهدا، ولهذا كان المعارضون لحكم الإمام يلتجئون إليه ويفرون إلى دياره، وكان يؤويهم حتى لو لم يرض «البريطانيون» وكان يتحمل لهذا السبب غضب الإمام “أحمد” عليه لأنه  لم يرجع إلى الإمام “أحمد” . وكان إلى جانب ذلك صادق المشورة ولما سأله الأخوة أن يساعدهم قبليا على إيجاد موقع في الداخل وفي منطقة المشرق بالذات؛ لما له من صلة قوه بهم أجابهم بما معناه: «ربما لا تستطيعون العمل بشكل علني إذ لا ندري كيف سيكون موقف «والي عدن» أما بقاؤكم عندي فعلى الرحب والسعة وأنتم في بلادكم وبين أهلاكم.»   وما لبثت أن وصل «ضابط بريطاني» كبير على طائرة حربية- ومعه مضيفتان عسكريتان وقائد الطائرة ومساعده- للاطلاع على سبب حشد عسكر الإمام على الحدود. فأقام له الشريف حفلة غدا دعا إليها الأخوان، ولم يحدث بينه وبينهم أي حوار، ولم يطلب اللقاء بهم،  كما أنهم لم يطلبوا اللقاء به، لكنهم كانوا في المطار عندما عاد راجعا، بعد أن اطمأن إلى أن الحشد العسكري كان بسبب فرار الأخوة.  ولم يكلمهم «الشريف» فيما إذا دار حديث عنهم مع هذا “الضابط» أملا.

_ كان أخي “قاسم” وأنا- على علم بأعدادهم للفرار عن طريق المكاتبة بالليمون السري، وكانت الإشارة بيننا عند سفرهم عدم وصول بريد منهم. وعندما وصل البريد العام لم يأت لنا معه بشيء فتأكد لنا فرارهم، وبين الفرحة بفرارهم والخوف عليهم من مخاطر الطريق وإلقاء القبض عليهم عشنا أياما يتصارع فيه الفرح بالقلق والأمل بالخوف. ولكي نتأكد من فرارهم ذهبت إلى الشاوش أستطلع ما عنده وأخبرته باستغرابي لعدم وصول أي كتاب منهم، وقلت له أننا لن نكتب لهم هذا الأسبوع، فرد علي بكل بساطة قاسية: “أكتب لهم فربما وهم قتلوا”. ولو لم أعرف الحقيقة لألقت بي الظنون في بؤرة الرعب الهائل، ولما لم نكتب رسالة لهم أبرقت  والدتنا إلى «نائب حجة» رحمه الله تسأله عنا وتطلب الاطمئنان عنا وفي الوقت نفسه تطمئننا على صحتها وأن كل شيء على ما يرام؛ فحوّل “النائب” البرقية إلينا. فاطمأنت خواطرنا بعض الشيء وبقي القلق متقدا في جوانجنا خوفا عليهم، وفي الأسبوع الذي تلاه وصل البريد وعليه إشارة الشفرة؛ وكانت واضحة بعض الشيء ولو أمعن الحرس الذين يطلعون على الرسائل الذاهبة والواردة لأمكن قراءة بعض كلماتها على الأقل. كانت أختي «حورية» لأول مرة تكتب بالشفرة فلم تتمكن من المعادلة اللازمة بين الماء والليمون مما أبقى بعض الحروف وبعض الكلمات معتمة غير مخفية. ولكن الله ستر. وفي هذه الرسالة تطمئننا هي والوالدة بخروجهم من «صنعاء» بدون أن تذكر نجاتهم من «اليمن» فبقينا في قلق الانتظار.

وبينما نحن في هذه الحالة القلقة، نحسب وقع كل خطوة قادمة إلينا إيذانا بإلقاء خبر القبض عليهم؛ إذ بنا نسمع صوت سيارة جيب تدخل المقام. سقطت قلوبنا هلعا. وهب أحد الحراس متكهنا: لقد أوصلوهم. لم يبق شك لدينا أنهم القوا عليهم القبض فمنذ أن وصلنا حجة لم تأت سيارة إطلاقا وها هي اليوم قادمة، إذن لقد ألقي القبض عليهم. وذهب أحد الحرس يستطلع الخبر بينما ظللنا في عذاب الانتظار فترة حسبناها طويلة، وعندما جاء ألقى إلينا بأن الأمير «صمصام» وصل في طريقه إلى «شهارة» لغرض للإمام. سجدنا شكرا لله.

في اليوم التالي كما أظن فوجئنا بغتة بالتفتيش علينا لسبب لم نعرفه وأثناء التفتيش عثروا على أربعين ريالا كنا نقتطعها من مصروفنا لنرسلها لولدتنا لتستعين بها على شطف العيش، وكنا ننام على جوع، لنوفر لها أي مبلغ واذكر كيف صبر أخي قاسم على جوعه الممض ذات ليلة، ونام مطويا على جوع شديد من اجل ألا ينقص ما نوفره. ولحسن الحظ فلم يأخذ المفتشون المبلغ ، ولم يهتموا به؛  لقد كانوا يفتشون عن شيء أخر لم نعرفه، ولم نسألهم ولم يسألونا . كان كل شيء يمضي في صمت متوتر.

أرسلنا المبلغ إلى والدتي في البريد فوصل في اليوم الذي توفت فيه أم الشهيد “محمد ريحان” -سائق السيارة التي حملت المكلفين يقتل الإمام “يحيى”- وكان الناس يحجمون عن اللقاء بها، أو الكلام معها، لأن ابنها قاتل الإمام،  وكان تعيس في عوز بعد استشهاد ابنها “محمد” وحبس ابنها الأخر “عبد الله”  فما كان من والدتي ألا تتركها تموت بين شماتة الشامتين وألا تجد نصيرا لها في موتها كما لم تجده في حياتها، فتولت بالأربعين ريالا تجهيزها تجهيزا كاملا يليق بأم شهيد، وأقامت لها الدرس في الجامع ثلاثة أيام، والعزاء في البيت  مثلها فتشجع بعض الناس على تشجيعها وحضروا دريسها وحضرت بعض النساء عزائها. وما بقي من الأربعين صرفته لابن المرحومة “عبد الله “ولم تستبق لنفسها شيئا ورحم الله بنت أبو راس أم النجدات وأي عظيمة كانت .

_ وفي “صنعاء” بعد فرار الأخوان منها أصاب أعضاء «عصبة الحق والعدالة»  اضطهاد ملاحقات وسجن، وكتب لي المرحوم الأخ “طه مصطفى” –   أن  القاضي «عبد الله الشامي»- صهر السيف “العباس بن الإمام”  منع الأخ «عبد الكريم الغسَّالي» من إن يلتقي به، ومنعه من نزوله من صنعاء -حيث يسكن- إلى «بئر العزب» وحيث يسكن المرحوم “طه” لمنهما تحديا هذا الأمر، عندئذ أمر السيف «العباس» في 18جمادى الأخرة1373 / 21يناير1954 -أي بعد فرار الأخوان بشهرين- باعتقال الأخ «عبد الكريم الغسالي » و العميد «أحمد الجرموزي» والأخوين «فتحي صدقي» و«حامد الجرموزي» وغيرهم بتهمة توزيع المنشورات، فعذبوا عذابا نكرا، وكان السيف «العباس» بنفسه يتولى ضرب بعضهم بيده. وفي مذكرات المرحوم الأخ العميد المجاهد الصابر «أحمد محمد الجرموزي» «مذكرات ضابط جريح»-والتي لم تنشر إلى الآن- تفاصيل وافية عما لقيه أولئك الشباب المجاهد وعما لقيه هو من ضرب مبرح.

ووَصلنا هذا الخبر من الأخ طه، وكان-أخي «قاسم» وأنا- وقتها سجيني «بيت المؤيد» بـ«حجة» وليس لنا من طريقة للتعبير عن مشاعرنا نحوهم إلا أن نكتب قصيدتين نحييهم فيهما فكتبت قصيدة لم أعد أتذكر منها سوى بيت واحد:

شباب الحمى في سبيل الإله  عذابكم الواصب المنهمر

 فطلب أخي «قاسم» أن يوقعها معي فرفضت؛ فصاغ قصيدة من أروع قصائده شجعهم فيها على الصبر وقوة الاحتمال، ونسج لهم من غسق اليأس ضوء أمل مشع واستهلها بقوله:

أسد الشباب الناهض المطماح لكم الغد المبني بالأرواح

وقد بلغ إعجابي ذروته عندما صدح:

ولربما كان العذاب لأمة في مقفل الثورات كالمفتاح

بل إني أقول أني غبطته على قصيدته، بل ربما حسدته عليها، فلم أعد أتذكر صحيح مشاعري آنذاك وهل أكنت هازلا أم جادا عندما قلت له: ليتني سمحت لك بالتوقيع معي لكي تظل قصيدتي هي المغرد الوحيد، ولكني على كل حال قد كنت سببا لأن ينشأ أحد قصائده الرائعة

_ ذلك ما كان يحدث في الداخل بينما الأخوان يتابعون هجرتهم السياسية، وبمجرد وصولهم أنزلهم «الشريف» في دار الضيافة في الوقت التي وصلت برقية من الإمام إلى “الشريف” يخبره أن أولاد الوزير هربوا من بيت الأدب وأنهم ربما توجهوا إلى “بيحان” فإذا وصلوا إليه  يعيدهم إليه، فأجابه “الشريف” أنه ليس من أخلاق العرب إعادة اللاجئين إليه، فسكت الإمام ،و اتصل بـ “والي عدن”.

وبعد أن قضوا سبعة أيام في ضيافته استأذنوه بالسفر إلى «عدن» فأمر بركوبهم على طائرة عسكرية وصلت إلى “بيحان”، وستعود عن طريق «مكيرس» فغادروا في ربيع الثاني 1373/ سبتمبر عام 1954م -على ما أظن- إلى “عدن”، ورافقهم قريب من أقرباء الشريف لم يتركهم لحظة واحدة حتى بلغوا مأمنهم، وعندما كانت الطائرة تهبط في اتجاه المدرج فوق البحر ظن «ناجي الزائدي»- وكان لأول مرة يرى البحر وأمواجه العالية – أنها ستهبط فيه فصرخ بلهجته البدوية الجميلة: البحر با يبتلع الطائرة يا خبرة.

وصلوا إلى المطار الحربي ومعهم قريب الشريف فجاءت سيارة إسعاف مرسلة من قبل «الوالي» لتأخذهم إلى المستشفى، فخافوا أن يوضعوا في مكان لا يقدرون منه على الاتصال بأحد، ويظلون تحت المراقبة حتى يُبَتَّ في أمرهم، وفي الوقت نفسه كان حماس الشباب الثوري يغتلي في دمائهم،وساءهم أن يركبوا على سيارة يبعث بها “وال محتل” ففضلوا أن تأخذهم سيارة تكسي وهكذا تملصوا وغادروا المطار.

كان أول مشهد رأوه شدَّ ابصارهم واثر فيهم هو المطار بمدرجه المعبد وبمبانيه وبموظفيه، وطائراته، وعندما هبطت بهم فيه لم تثر نقعاً، ولم تملأ المكان غبارا، فتأثروا بما رأوه –رغم بساطته- وما فيه من خدمات، وقارنوا بينه وبين الممر الترابي الموجود في “صنعاء” والذي كانت الطائرة عند الإقلاع والهبوط يثير عاصفة ترابية تحجب الطائرة في رحلتها الداخلية النادرة (لا يوجد طيران خارجي) وعندما ينزاح الغبار ينزل منها بعض الركاب إلى العراء مباشرة حيث لا مكان ولا غرفة استقبال.

ولما غادروا باحة المطار امتدت أمامهم طرق معبدة نظيفة تنساب عليها سيارات عديدة ذاهبة وآيبة، أين منها حمير صنعاء وبغاله وخيله، وتقوم على جانبيها المنازل البيضاء الجميلة، وتتفرع عنها شوارع معبدة نظيفة.

وأفاقوا من انبهارهم على صوت يهتف بهم: إلى أين ستذهبون ؟ تذكروا أنهم كانوا يسمعون بنزل يسمى «فندق التركي» لكنهم في الوقت نفسه قرروا أن يتجهوا أولا لزيارة الزعيم الكبير الشيخ «عبد الله الحكيمي» حيث إن زيارته مقدمة على كل شيء، فطلبوا من السائق التوجه بهم نحو منزل الزعيم الكبير. وأصر قريب “الشريف” أن يصحبهم إليه. 

كان الزعيم “الحكيمي” يحسد في شخصيته  قضية “الثورة الدستورية”، والعمل من أجل الشورى والدستور ولا يهدف قط إلى نيل منصب من ورائه جهوده كما هو عليه سائر المتزعمين، وكان هذا الزعيم الكبير قد غادر “كرديف” في 12 الحجة1371/ 2 سبتمبر 1952 عائدا إلى الوطن لينطلق نضاله من نقطة قريبة، وفي طريقه إلى عدن زار كثيرا من البلدان الأجنبية والعربية ولما  وصل “مصر” قابله الرئيس “محمد نجيب” وباحثه في “قضية اليمن”، واجتمع بالأستاذ “الزبيري” ورفاقه، وفي “السودان” قابل الزعيمين “عبد الرحمن المهدي” و “علي المرغني” ثم زار “أثيوبيا” و”كينيا” وقابل والي “ممباسه” “أمين بن سعيد”، ثم توجه نحو “الصومال”  وفي يوم الخميس15ربيع الثاني1372/1يناير1953 غادره إلى “عدن”  وعندما وصلها في29 ربيع الثاني1372 /15 يناير 1953 استقبل استقبالا لم تعرف له “عدن” مثيلا  ، بيد أن مؤامرة خبيثة دبرها له بعض اليمنيين من عملاء الإمام في “كارديف” كدرت صفو اللقاء. ذلك أنهم وضعوا خفية في حقائب سفره – التي أرسلت قبل وصوله واحتجزت في جمرك عدن- بعض الأسلحة وعلم “الحكيمي” قبل وصوله بذلك، لكنه استمر في السفر علما ببرائته  والغريب أن “السلطات البريطانية” لم تتحرك وقتها حتى إذا مضى شهران ونصف على وصوله “عدن”  أقدمت قي 17 رجب1372/2 ابريل 1953 على اعتقاله لمدة سنة مع الأشغال  لكن بعد أربعة أشهر و في 6 القعدة1372/17 يوليو 1953 أطلقته محكمة استئناف شرق إفريقيا البريطانية، واعتذر له حاكم عدن، وكرمه أهاليها يوم السبت5 الحجة1372 /15 أغسطس 1953 تكريما حافلا ورائعا، وأقام “نادي الإصلاح العربي” احتفالا كبيرا له، ووسط هتاف الجماهير ألقى الزعيم الكبير كلمة رائعة ألهبت القلوب والأكف والحناجر، كما ألقى الشاعر الكبير “محمد سعيد جرادة” قصيدة ترحيبية رائعة مطلعها

جئنا نحيي مجدك الوثابا ونفي علاك من الولاء نصابا

وهي قصيدة رائعة تتناغم من شاعر كبير مبدع مع زعيم كبير مقنع.

وفي17 صفر1373 /25 أكتوبر 1953 انتخبه :الاتحاد اليمني” بالإجماع رئيسا له  وكانت أولى مهماته أن يزيل ما نجم من خلاف بين صفوف المعارضة، أو بالأحرى بين “الإتحاد اليمني” في “عدن” وفرعه في “القاهرة” وكانت بوادره قد ظهرت؛ فحاول  الزعيم “الحكيمي” أن يلملم صفوفهم، والتف حوله الشباب الجديد من أمثال «علي عبد العزيز نصر» و”ياسين قايد الأغبري” «احمد عبد الرقيب حسان» و«محمد الاسودي» و«محمد سلام» و«علي الأحمدي» وآخرون. ويصف الأخ «قاسم» مكانة الشيخ «عبد الله الحكيمي» في تلك الفترة الحرجة التي تكوَّن فيها «الاتحاد اليمني» أنه: (كان ملء العيون والقلوب، يطوي تحت عباءته في صبر القديسين كل التناقضات محاولا توحيد وتوجيه كل الجهود نحو الهدف المنشود صابرا على فنون من الإيذاء بلغ حد الإيقاع به).

هذا هو الزعيم الذي استقبل في بيته بـ “الشيخ عثمان” الإخوان لثلاثة الهاربين من سجن الإمام، وظلم الإمام ليناضلوا للتخلص من حكم الظلم والجور.

وصلوا إلى منزله ودخلوا إلى الطابق الأول في الوقت الذي وصل فيه رجل تشير قيافته إلى أنه من وجهاء البلد؛ يضع على رأسه «دسمانا» جميلا لا يضعه إلا من كان له مكانة اجتماعية مرموقة، فخاطب الآذن بأن يبلغ الشيخ أنه يريد أن يراه لخبر هام، فاستفسره الأخوان عن الخبر فقال: بأنه تأكد له أن القبائل أوصلت «أولاد الوزير» إلى «بيحان»، فهمس أحد الأخوان للآذن: أبلغ الشيخ أن «أولاد الوزير» يريدون مقابلته. وبعد لحظات سمعوا صوت الشيخ الجليل ينادي: أهلا وسهلا بينما كان يهبط لاستقبالهم وهو في ذروة الفرح والابتهاج وكان يهتف :«الحمد لله لقد انتصرنا عليه، لقد انتصرنا على الظالم» وكان يردد وهو يعانقهم: «إن وصولكم انطلاقة جديدة ذات أهمية سوف تدفع بالعمل خطوات كبرى إلى الأمام» معتبرا وصولهم انتصارا واضحا على الإمام.

بعد حديث موجز- كما حدثني المرحوم الأخ “إبراهيم”- استأذنوه في الذهاب فقال الشيخ الجليل مستنكرا: (وأين تذهبون؟ إن مقر «الاتحاد اليمني» مقركم، وكل مواطن يمني أب لكم وأخ وولد. لقد استشهد آباؤكم في سبيلهم) وأمر أن توضع سيارة تحت تصرفهم، وأن تفرد لهم غرفة في مقر «الاتحاد اليمني» وأن يشترى لهم كسوة، وأن يجهز «المقر» لإقامة حفلة ابتهاج كبرى بمناسبة نجاتهم. وطلب من الأخ «إبراهيم» أن يجهز كلمة ردا على خطب الاحتفاء ففعل. فذهبوا إلى “الاتحاد اليمني” ومعهم قريب “الشريف” فلما وصلوا إليه واطمأن عليهم في مأمنهم هذا ودعهم بمحبة عارضا عليهم خدماته في أي حين.

كان يقيم في الاتحاد آنذاك “عبد الملك الطيب” و “عبد الله حمران” و “قاسم غالب”، ومجموعة أخرى من الشباب اليمني الهارب كأولاد المقحفي الاثنين و “عبد الله عبد الله عامر”، فلم يجدوا لهم غرفة منفردة فنزلوا مع المرحوم “قاسم غالب” في غرفة فاستقبلهم ببشاش وترحيب، وحدثهم عن الوضع في “الاتحاد اليمني” وشن هجوما على معظم القائمين بالعمل الوطني واتهمهم بعدم الجدية، وأسبل على الزعيم “الحكيمي” برود الثناء واصفا إياه بالإخلاص وبطيبة القلب. ولا تسأل عن مدى صدمة حديث قاسم غالب في أنفسهم إذ كانت الصورة لديهم عن معارضي الخارج نقية صافية ولم يكن لديهم بالخلافات تلك علم.

وزارهم الزعيم الكبير “الحكيمي” في محل إقامتهم وتحرى المسؤولين في العناية بهم، وتكررت زيارتهم له وفي اجتماعاتهم به شرحوا له طبيعة مهمتهم وأن خطتهم منذ البداية هو الهرب إلى “عدن” للاجتماع بفضيلته ودراسة الخطة معه تلك الخطة التي وضعت في “معتقل” حجة ثم السفر إلى “القاهرة” للاجتماع بالأستاذ المرحوم “الزبيري” لتنسيق الحركة والعودة إلى “عدن “والذهاب إلى المناطق الجبلية في الداخل للقيام بالثورة، وشرح لهم الزعيم “الحكيمي” الوضع، وتحدث مطولا عن أخي “عبد الله” وأخبرهم أن رسالة منه وصلت إليه بعد سفره من عدن ولم تصله إلى “كارديف” إلا وقد انتقل الشهيد إلى ربه، وأن هذا ما آلمه وأحزنه.  كما أعطاهم فكرة عن حقائق الوضع داخل صفوف المعارضة وما تعانيه من انشقاق بسبب الطموحات الشخصية والنعرات المذهبية والعنصرية، وأطلعهم المجاهد الوقور في أسى على الخلافات القائمة بين «الاتحاد اليمني» في «عدن» و«الاتحاد اليمني» في «القاهرة» ثم قال لهم: أرجو أن يكون وصولكم بداية لمرحلة جديدة تتوحد فيها الجهود لخدمة الهدف الواحد.

أتاحت لهم الأيام القادمة القلية فرصة التعرف على “عدن” وعلى الفوارق الحضارية بينها وبين “صنعاء” فزارهم الأخ “ياسين الأغبري” واستضافهم للغداء في بيته مع لفيف من “العدنيين” وحضر مقيله آخرون للتعرف عليهم ودار فيها النقاش حرا بدون خوف ولا وجل،  كما وجدوا الجرائد بين أيديهم على اختلاف وجهات نظرها وهي التي كان بعضها يتسرب إليهم في سرية مطلقة وكأنها منشورات ثورية محرمة. كما زاروا الأخ “محمد لقمان” وقيلوا معه وعقب المقابلة صرحوا (إن الأستاذ لقمان في عدن رجل عرف بجهاده المتواصل من أجل اليمن وأبنائها) 

وفي أثناء بقائهم القصير بعدن وصل إلى زيارتهم المرحوم “حسين بن محمد عثمان” الوزير احد ثوار الدستور والناجين من قبضة الإمام واستضافهم في فندق التركي، وقدم لهم قطع اللحم الاستيك الأمريكي الشهير فتذوقوا ما حرموا من اللحم طويلا، ثم أخذهم إلى السينما لمشاهدة عرضين كان الأول لفريد الأطرش. فانبهروا بما رأوه لأول مرة.

 وجاء السلطان الماجد “صالح بن حسين العوذلي” إلى باب “الاتحاد اليمني” وأخذهم معه بسيارته وطاف بهم على “عدن” و “التواهي” و “الميناء الكبير” وسط طرق معبدة، وسيارات ذاهبة وآيبة، وحركة تجارية واسعة. ثم عادوا إلى المقر وملء عيونهم صور شتى تتألق من مطاعم نظيفة، إلى سينما حالمة، إلى شوارع مضائه بالكهرباء، إلى متاجر تسطع فيها أضواء النيون والثريات ويسيل منها الضوء فتجعل ليالي “عدن” بحرا من النور. ولعل الظلام الدامس في ليالي “صنعاء” المظلمة قد أسهم في تضخيم أضواء “عدن”، وبضدها تتبين الأشياء.

وذات يوم وصلت سيارة السلطان “شريف بيحان” تستدعيهم إلى قصره، فذهبوا إليه فوجدوا عنده ذلك الشريف النبيل الذي رافقهم في الرحلة، ولم يعلموا حتى الآن هل قام برفقتهم من نفسه أو بتكليف من الشريف.

في هذا الأوان وصل الأستاذ “علي الجناتي” من “القاهرة” ،مبعوثا من قبل الأستاذ “الزبيري” لرأب الصدع داخل “الاتحاد” والذي بلغ مرحلة متوترة ، وكان الشرخ واضحا.

وكما أمر الزعيم “الحكيمي” بإقامة حفلة تكريم الأخوة الثلاثة في مبنى “الاتحاد اليمني”  فقد أقيمت حفلة كبرى حضرها عدد كبير من أدباء ومفكري «عدن» وغيرهم وخطب الشيخ الجليل خطبة رحب فيها بهم فأطال الترحيب وكان خطابا يعد -كما كتب أخي “قاسم” فيما بعد- درسا في أخلاق النضال السياسي والعمل الثوري وارتفاعا بهما إلى مستوى المبادئ التي يستهدفها. كما تحدث الأخ الشهيد «علي أحمد الأحمدي» وأشار في خطابه ( لقد استقبلت هذه الدار سيف الحق «إبراهيم» في الماضي وها نحن اليوم نستقبل سيف الحق «إبراهيم» الأخر وإخوانه) وخطب المرحوم “علي الجناتي”، فدعا إلى الألفة والاتحاد ثم قام الأخ «إبراهيم» فألقى كلمته الشاكرة الذاكرة محرضاً على وحدة الجهاد داعيا إلى لملمة الصف واعدا ببذل كل الجهود في إنقاذ «اليمن» من الحكم الفردي الظالم.

مواجهة مع مدير الأمن البريطاني

بعد حفلة التكريم بيوم أو يومين- ولم يكن أحد بـ«الاتحاد اليمني» غيرهم- وقفت أمام «المقر» سيارة حكومية نزل منها سائقها وهو من “جيش الوالي العربي”، ودخل إليه طالبا «أبناء الوزير» وقال لهم أنتم مطلوبون إلى عند مدير «الأمن العام» الآن فذهبوا معه. ومن العجيب أن أحدا لم يخبر رئيس «الاتحاد اليمني» الشيخ «عبد الله الحكيمي» وقتها بأمر هذا الاستدعاء.

استقبلهم المدير العام الإنكليزي باحترام، ثم فاجأهم ببرود إنكليزي معروف بأن عليهم أن يغادروا «عدن» في ظرف48 ساعة؛ فاحتج الأخوان على هذا الأمر المتعسف، وقالوا له بطهر ثوري لا يعرف أي تكتيك سياسي أنهم لن يغادروا «عدن» لأن «عدن» بلادنا ونحن لسنا مستعمرين وأنك أنت المستعمر الذي يجب أن يغادرها» فرد بنفس البرود المثلَّج وعلى فمه ابتسامة: «إن هذه أمور ليست من اختصاصي. أنا مسئول فقط عن ترحيلكم وسأنفذه وفي وسعكم أن ترفعوا على “الوالي” وعلى “البريطانيين” قضية في المحاكم، لكن الشيء المطلوب مني هو ترحيلكم عن «عدن» فورا. هذه مسئوليتي. ولكم أن تختاروا أي مستعمرة إنكليزية وسنتكفل بنقلكم إليها إلا «عدن» و«الجنوب» فسألوه ا وإذا لم نغادر فما هي الإجراءات؟ فرد ببساطة متناهية “نرجعكم من حيث جئتم».

أطل وجه الإمام «أحمد» ساخرا وهو يراهم قد عادوا إلى بين يديه مكتّفين قبل أن يلقي بهم في غيابات السجن. فقال «إبراهيم» بتحد ثوري منفعل ملوَّحا بـالرئيس «نجيب»: «بل نرحل، ولكن لا إلى مستعمراتكم وإنما إلى «قاهرة العرب الثورية» فرد بنفس البرود وعلى فمه نفس الابتسامة: «لكم ذلك».

رجعوا إلى المقر وأبلغوا الشيخ بما حدث فغضب غضبا شديدا لأن أحدا لم يبلغه وقال لن تسافروا إننا نرفض هذا القرار سوف نرفضه وسنخرج إلى الشوارع ونتظاهر ونقاتل إن لزم الأمر، ولكن لسوء الحظ فقد سقط الشيخ مريضا، وجاء بعض الأخوة فاجتمعوا بالإخوان الثلاثة وأقنعوهم بضرورة السفر حرصا على سلامتهم وسلامة الشيخ وسلامة الحركة وألاَّ يعطوا «الإنكليز» المبرر لسحق الحركة وأن وأن وأن.. فوافق الأخوان على السفر وابرقوا إلى اللواء “محمد نجيب” يشرحون فيه هروبهم من سجن الإمام إلى “عدن” وتهديد البريطانيين لهم بالطرد وأنهم يستأذنونه بالأذن بوصولهم إلى القاهرة عاصمة العرب فأجاب عليهم “أهلا بكم في ارض الكنانة”

تم حُجز مكان لهم على سطح باخرة صغيرة عتيقة متجهة إلى «القاهرة» عبر «بورت سودان» بدون أن يخطر أحد الشيخَ « عبد الله الحكيمي» -وهو المسئول الأول- ، ولما علم الشيخ «عبد الله الحكيمي» بعد ذلك  بأن كل شيء قد أعد غضب غضبا شديدا نازلا باللوم على الذين حجزوا لهم دون أن يخطروه، وانفجر الشيخ بالفعل باكيا. وانطوى في داره غاضبا وهو كظيم.

جرى كل ذلك بسرعة وتكتم ولم يعرف أحد ما جرى في المقابلة من تهديد وطرد؛ ومن دبر ذاك وقد يكون البريطانيون قد استجابوا للإمام الذي اشتد في مطالبته بهم ولكن من الذين حجز لهم على ظهر باخرة ستتعرج على مدينة “جدة” والسعودية حليف للإمام  ويصور لنا الأخ المرحوم “محمد الرباعي” – وكان قد وصل هاربا إلى عدن ونزل بالاتحاد اليمني في ذلك الأوان- مدى التستر على العملية بدقة:(لم نعرف جميعا أعني كل الشباب الذين كانوا معنا في الاتحاد بأن سفر الإخوان كان نتيجة ضغط من البريطانيين، وإنما كان تحرك الأخوة أعضاء الإتحاد يوحي بأن ترتيب السفر ضمن الخطة المتفق عليها من الأخوان آل الوزير، وكان الكتمان هو السائد على كل التحركات والترتيبات ثم علمنا بأن الحكومة البريطانية أبلغت رغبتها إلى الأخوان بضرورة مغادرة عدن)  .

وكانت صدمة للإخوان الثلاثة عنيفة حطمت النية على الرجوع إلى “عدن” لتنفيذ خطة مقاومتهم لنظام الإمام؛ إلى جانب ما سمعوه في “عدن” من صدى الخلافات، إذ كانوا يظنون أن أعضاء “الاتحاد اليمني” جميعا قلب واحد ويد واحدة، وما كانوا يعلمون أن بعضهم يدبر شرا للشيخ الجليل ولهم و”للاتحاد اليمني”. ولأول مرة يواجه «الأخوان» غير ما ألفوه من نبل الجهاد وطهر الكفاح وصفاء الزمالة ونقاء المقاصد. ولم تتكشف لهم الأهواء التي ما لهم بها من علم إلاَّ بعد ذلك بفترة عندما كاتبهم الشيخ الجليل وقد بلغ به الضيق مبلغه بما حدث. وهم قد جاءوا مخلصين ليضعوا أنفسهم تحت قيادة “الزبيري” وتخلى “إبراهيم” عن البيعة في “حجة”.

وقد علموا فيما بعد هذه الفترة -من خلال مكاتبات جرت بين الشيخ الشهيد نفسه، وبينهم- أن بعض أعضاء «الاتحاد اليمني» احتجوا عليه لحرارة الاستقبال وأمره بإعطائهم غرفا خاصة وهم زيود وهاشميون في حين أن غيرهم من الهاربين لم يحظوا بمثل هذا؛ وكشف لهم أن بعضهم احتج عليه لحرارة الاستقبال الذي استقبلهم به معتبرين وجودهم خطرا على طموحاتهم لأنهم سيخطفون الأضواء. وحاول أن يشرح لهم أن المقارنة غير واردة وأن من فقد أباه وماله وأرضه وفر من سجنه وهو بالثقل الاجتماعي الذي يمثلونه غير من هرب بدون أن يحمل تلك التضحيات الثقال. وأصرَّ الشيخ الجليل على موقفه، ولما لم يجدوا بدا من مسايرته سكتوا أو أضمروا أمرا وبيتوا كيدا. ومن المؤكد أن العنصرية والتمذهبية كانت نشطة خلال تلك الفترة في الداخل والخارج على السواء

وتأهب الأخوان الثلاثة إلى مغادرة “عدن” ليواجهوا مخاطر أخرى 

 ***

صنع في اليمن _  الحلقة ( 16 )

  العودة إلى الداخل

تغيبت طويلاً عن مواصلة الكتابة عن “صنع في اليمن” لأسباب عدة، أجبرتني على إرجاء الحديث زمناً متعباً، وكنت قد توقفت عند وصول إخوتي الثلاثة إلى “عدن” وطرد “البريطانيين” لهم، كما سبق أن طرد أخاهم الأكبر “عبد الله بن علي الوزير” والأستاذ الزبيري وغيرهما عقب الثورة الدستورية.

_ وسأعود الآن إلى الداخل فأستكمل ما لم أذكره لتتكامل “الصورة اليمنية” ولنلتقط أنفاسنا بعد مشوار لاهث لنستقر في مكان ذي أربعة جدران تضطرب فيه حياة نفسين لم يجد جديد على حياتهما الرتيبة في سجن «بيت المؤيد» الانفرادي سوى تبادل الرسائل مع والدتهما وأختهما “حورية” في “صنعاء” أسبوعياً.

وقد ذكرت سابقاُ قصة مرض أختي “أمة الخالق ونزولنا “الحديدة” على سيارة حمل عليها غرائر القمح المتعرجة والتي أمكن بجهد سائقها الفاضل الحاج “أحمد بسباس” أسبل الله عليه رضوانه مكاناً مستوياً بعض الشيء، وما زلت اذكره بالخير وأترحم عليه لرعايته لها طيلة الرحلة الشاقة.

وعندما واريت أختي الثرى في “مقبرة الصديقية” موجع القلب باكياً، بقيت في “الحديدة” شهراً لا أريد أن أفارق أهلها ذوي القلوب البيضاء الرحيمة، وبقيت مع العلامة الأكبر “على الشامي” في غرفته بــ “دار الضيافة” أتزود من علمه، وكان من أوائل المعارضين لطريقة الإمام “يحيى” في الحكم وصديقا حميما لوالدي. وكان إلى جانب علمه يحب الشعر ويحب المتنبي على وجه الخصوص وكان أيضا معجبا بشعر المرحوم “أحمد بن محمد الشامي” الذي سيصبح أستاذي وعندما لقيته أخبرته بإعجاب العلامة بشعره فارتاح وعندما توفى هذا العلامة رثاه الشاعر الكبير بقصيدة عصماء جاء فيها..

يا من على البعد لن أنسى مودته

وكان هذا العلامة الجليل ينتحي جانباً فيملي على ولده “أحمد” رسائله إلى الإمام “أحمد” ينقده بقوة على احتكار وكيله لبيع “البن” ويطالبه بإطلاق المساجين.

 وذات يوم خرجت مع الصديق الوفي، بل الأخ الوفي “محمد الطشي” من علماء رداع، وخطيب مسجدها-وكان قد وصل إلى “الحديدة” لأمر نسيته، فكنا نجتمع معاً، ونتجول معاً، وذات يوم استأجرنا “سنبوكاً صغيراً ومضينا في رحلة بحرية بقرب الشاطئ كانت فيه أمواج البحر واهية ناعسة، كأنها تستريح من معاناة صاخبة. وكانت أولى نزهة بحرية بالنسبة لي، وكنت اعتقد إنني سألاقي من صراع الموج ما لا يريح، ولكنها على كل حال تجربة. ركبنا على “السنبوك ” وإذا به يجرى فوق حرير ناعم، أو انه مستقر على حرير ناعم،  وكانت ثمة هبات من رياح خفيفة تسوق السنبوك بنعومة، وأمواج البحر هادئة تتراقص على وقع نسيم عابر فلا علو ولا هبوط، وإنما سير منبسط نستمتع بموسيقي النسيم العابر، وإيقاع  المجداف، وانبعاث الرشاش الأبيض المتطاير من خلفنا كأسلاك من الفضة ترتفع وتتساقط لؤلؤا  منثورا، وأمامنا ينبسط البحر يعيداً بعيداً  إلى حيث يختلط بالأفق البعيد، فيلتحمان في لون رمادي طويل، وبينما كنا نستمع بما نحن فيه،  إذ بنا نجد سنبوكا أكبر وأسرع  من سنبوكنا يلحق بنا عليه جندي مسلح من حرس البحر يطلب من الملاح المذعور أن يتوقف، وسألنا ماذا نعمل في البحر؟ قلنا: نزهة قصيرة ونعود. قال: النزه ممنوعة وبلهجة صارمة، طلب منا العودة  إلى الشاطئ،  وقال لي الصديق “محمد” أنت امشي وأنا سأتعامل معه” فسبقته في طريقي عائداً إلى “دار الضيافة” و ما لبث أن لحق بي واخبرني انه سوى المسألة مع الجندي بـ “حق القات” وانه لن يرفع بنا إلى النائب، أو غيره فيكيدون،  ولسنا بحاجة إلى كيد جديد وحسبنا ما فينا،  ولكن  الخبر شاع  ومعه إشاعة بأني أريد الهرب إلى “عدن” ولا اعتقد أن الجندي أوشى بنا لآن صاحب “السنبوك” لم يعتقل ولا أزعج الأخ “محمد الطشي” عن “الحديدة” وتمحور حديث الهرب حولي، فتقرر أن أغادر “الحديدة” إلى” صنعاء” على أول “سيارة حمل” وأنه في حالة توقف السيارة لسبب ما علي  أن اركب السيارة الثانية ودفعت الحكومة ثمن المقعدين. ولم يرافقني جندي حراسة، ولكن ربما أُخذ على السائقين تعهداً بإيصالي إلى “صنعاء” ولكني لم أحس بشيء من الرقابة، وغادرت “الحديدة” وقد تركت فيها قطعة مني. وبقلب جريح على فراقها، وبقلب يمله الحب لـ “أهل الحديدة” الذين رحبوا بنا حين هجرنا الناس، وتعاطفوا معنا حين جفانا الناس، فسلام عليهم في العشية والأبكار.

_ ومضينا في نفس الطريق التي ذهبنا منها، أمسينا في “قرية العبيد” وفي الليل تناهت إلى مسمعنا صوت سيارة قادمة فعرف سائقنا من صوتها أنها سيارة من نوع “شفرليت” وبالفعل كانت كذلك، وهي المكلفة بنقلي فيما إذا حصل بالتي أنا عليها خلل ، ولكنها لم تصب بخلل وترافقت السيارتان وكانا يتسابقان، ففي السهل تسبقنا “الشفر” وفي الجبال نسبقها حتى وصلنا “صنعاء” ولم تفارقني صورة أختي قط وكانت  تطالعني ذكرياتها في كل منعرج ومنبسط، وكان أنين أوجاعها بسبب “الغراير وألم المرض- في كل وقفة توجعت فيها لا تفارق أذني وصورتها وهي مستلقية على “الغراير” المتعرجة مستيقظة داخل عيوني وما زلت اسمع أنينها في كل موقف أنَت فيه. لقد ظلت معي روحا كما كانت معي جسدا.

_ وفي اليوم التالي مررنا بوادي “صياح” الجميل، ولكني هذه المرة لم أر فيه جمالاً، بل رأيت فيه وحشة متجهمة، وأوراقا ذابلة، وأصوات طيور نائحة باكية. لقد عكستُ نفسي عليها فكان ذلك المنظر الحزين.

 كان علينا بعد هذا الوادي أن تتسلق السيارتان “جبل الشرق” الخطير، والذي أودى بكثير من السيارات وأصحابها- وطلب من السائق ومن عليها أن ننزل ونصعد الجبل مشيا خوفاً علينا وتخفيفاً عن حملها. كانت الطريق ترابية لا تساعد السيارة على الصعود بسهولة فما تكاد تصعد بضعة أمتار حتى تتوقف، فيسرع اثنان من معاونيه وبيدهما حجارة كبيرة فيضعانهما وراء عجل السيارة حتى لا ترجع إلى الوراء، لتستأنف صعودها، وهي تحن حنينا متصاعدا لبضعة أمتار أخرى، فإذا ما استوت الطريق قليلا أمكن لها أن تواصل سيرها حتى تجد مرتفعا عائقا، وهكذا قطعنا الجبل في حوالي 3 ساعات مقلقة، وكانت سيارتنا من نوع “دودج” أقوى على صعود الجبال من “الشفرليت” فسبقناها إلى قمة الجبل، وبقينا ننتظرها وما لبثت أن وصلت مرهقة، لكنها استعادة نشاطها في السهل القادم وكانت أسرع في السهل فغابت عن أنظارنا فتبعناها بعد حين في” معبر” وأمسينا هناك.

وكان من العادات الجميلة و”العرف” الواجب عند السواقين أن (لا أحد يفارق صاحبه) لأن السائق هو المهندس أيضاً، وهو الذي يصلح الخلل، وحتى إذا عجز-وهو وحي- فعلى كل سيارة تمر به -ذاهبة أو آيبة-أن تتوقف عنده وتساعده حتى يتم إصلاح الخلل، لقد كانت عادة تعاونية حميدة.

وفي اليوم الثالث عبرنا سهل جهران الجميل وتسلقت السيارة نقيل يسلح ببطيء بدون أن ننزل منها ثم انطلقنا صوب صنعاء التي شاهدنا تربض في وسط السهل تتباهى بمناراتها الجميلة الرائعة، وبيوتها الشامخ. وبينما كنت أتملى هذا المنظر الجميل وكانت السيارة قد توقفت لسبب ما لم اعد أذكره وصلت سيارة ثالثة فتوقفت فهبط منها مسافر من “الحجاز” لا اعرفه قط، واتجه نحوي مسلما بباش، سائلا عن صحتي وأحوال عائلتي فاستغربت في نفسي وقلت لعل صاحب السيارة  كلمه عني وعن  أسرتي وانه ملزم بي في حالة خراب السيارة، ولعله قصدني بعدما تعرف عني، لأنه كان  يعرف عن ثورة الدستور وعنا بني الوزير على كل حال تحدثت معه وأخبرته باقتضاب عن حالنا وعرف مني أني سأذهب في الغد لزيارة أخي السجين “أحمد” في القصر، فقال أنه يريد أن يزوره أيضا فقلت له أن الحراس لن يسمحوا له.

ودخلنا صنعاء وكنت بقدر فرحي بلقاء أمي وأختي وأخوي “قاسم” ومحمد وزوجة أخي عباس وابنيها عبد الله وفوزية كان الخوف مما سيثيره اللقاء من أحزان يملأ عليّ أقطار نفسي. على نحو ما سبق لي شرحه في مقال سابق.

وفي اليوم التالي طلعت إلى حيث أخي “احمد” في غرفة سجن خاصة كان بها من ابن عمي أحمد بن محمد بن محمد” لأزورهما في سجنها وبينما كنا نتحدث وإذا بأخينا الحجازي يدخل علينا ويسلم عليهما ويقعد معنا وقتا، ولست ادري حتى الآن كيف سمح له السجانون بالدخول بدون أذن رسمي، وبطبيعة الحال فلم اسأله كيف دخل ولماذا جاء إلى اليمن؟ واعتقد الآن أنه الأخ والصديق المرحوم “أحمد الحازمي” رسول الملك سعود إلى اليمن عندما يحز به أمر وكان له خبرة واسعة بتاريخ اليمن وقبائلها وكان متواضعا جدا وهو قد درس وتخرج في “المدرسة العلمية” بـ “صنعاء” من “شعبة الاجتهاد” والذي ستنعقد بيننا وبينه صداقة حميمة سيأتي ذكرها في موضعه. ولقد سألته عن هذا اللقاء فقال إنه لا يذكر شيئا منه.

استأنفت وأخي قاسم ما كان  أخوي “العباس” و”إبراهيم” يسعيان إليه فكنا نواصل بأعضاء “عصبة الحق” نتشاكى الحسرة على الثورة، ونعبئ أنفسا بآمال طوال عراض، وذات مرة أثناء اجتماع  قبيل المغرب خلف “باب الروم” تعرفنا على أحد ضباط المدرسة الحربية الذي اشتهر بشجاعته أثناء حصار “صنعاء” حيث كان يركب “موتوسيكل” فيطوف ليلا من خارج سور “صنعاء” ليتعرف على مواقع قوات أعداء الثورة الليلية رغم الخطر المحدق والمؤكد، وقد نجاه الله فلم يصب برصاصة غادرة، وقد سجن بعد الثورة، ثم أطلق سراحه، وظل وفيا “للثورة الدستورية” وللرئيس جمال، وكان طيف من الحزن يغلف وجهه الوسيم الضارب إلى البياض، وكان كثير التنهد يسكب حزنه في صوته الجميل وهو يغني

سرنا وجينا والزجاج مردود وروحنا الغالي يدق بالعود

ولست أظن أنه كان يقصد بها حبيبة غالية قابعة خلف الزجاج، تدق الحان الفرح في لقائه، ولكنه كان يريد روح “الثورة الدستورية” المنتظرة خلف الأبواب المغلقة تنتظر ثوارها، والغناء أحيانا يعكس تعبيرا كامنا في النفس، مثلما تعكسه الآهة الصاعدة أو الدمعة الهابطة.

وبعد حديث عن الرئيس “جمال” و “الثورة الدستورية” وما لاقاه طلبة “الكلية الحربية” من قسوة السيف “الحسن” غادرنا على أمل لقاء آخر، ولكنه كان أخر العهد به، كان هذا البطل هو المرحوم “محمد الحافي” وقد وصفه “أحمد الشامي” أنه تلميذ الرئيس “جمال جميل” النجيب، وأنه (أحد خريجي المدرسة الحربية، وأنجب ضابط يمني عرفته من أبناء صنعاء) ، وعندما عدت من سجن “حجة” إلى سجن “صنعاء” –كما سيأتي – سألت عنه فعرفت أنه قد رحل إلى الله ملتحقاً بركب الشهداء.

وفي نفس الوقت واصلنا الأخوة الثالثة قاسم ومحمد وأنا لدن استأذنا “البردوني” ساعات من اليوم، وساعات نمارس الرياضة على دراجتين اشتريناهم بالدين من صديق عزيز، كان يؤجر الدراجات، وكنا نذهب معه دورات خارج صنعاء إلى “آبار مطهر” أو إلى “حدة” فتعودنا على ركوبها لمسافات طويلة، مكنتنا من السفر بها إلى “السر” لزيارة بني عمنا يحيى وعبد الله.

وفي هذه الأثناء أطلق سراج “عبد الله ريحان” شقيق “محمد ريحان” رحمه الله -سائق السيارة التي حملت المكلفين بقتل الإمام يحيى- فجاء وسكن معنا، وكان يذهب فيقعد أمام منزل الأميرة تقية “بنت الإمام يحيى” وزج أخي “عبد الله” السابقة فتضايقت من قعدته، فطلبت أمه ووبختها، وسلمت لها مبلغا من المال الذي أودعه عندها “محمد ريحان” وقدره ألف ريال وهو المبلغ الذي سلم له ولغيره ممن ساهم في قتل الإمام ليعالج به وضعه في حالة انكشافه فأودعها لديها، وكانت تظن أن وقفة شقيقه عبد الله أمام منزلها مطالبته لها بالمال وكانت تخشى أن يعرف أحد أنها خبئت مال الرجل حتى لا تتهم فورا بأنها تعرف بمقتل أبيها، ووعدت “أم ريحان” بأنها ستسدد المبلغ على أقساط.

وكان “عبد الله ريحان” يهيأ نفسه للهرب، فسرق دراجتي وهرب في اتجاه “ذمار” وعرفنا بالفور فهب أخي قاسم وصديقنا “علي” فتبعوه فأدركوه في “حزيز” فاعتذر بأنه كان سيعود بها، وعاد الثلاثة إلى صنعاء وبعد حين اختفى نهائيا ولم نعرف له خبرا حتى إذا كان يوم وأنا في الحديدة بعد إطلاقي فوجئت به يأتي إلي وأنا على شاطئ البحر فقعد معي قليلا ثم اختفى نهائيا وقد سمعت شائعة أنه انضم إلى الجبهة الوطنية وقاتل معها في الجنوب وأنه قتل هناك. والله أعلم.

وعلى تلك الدراجتين ذهبنا- أخي قاسم وأنا إلى هجرة “بني الوزير” بوادي السر” التي تبعد عن صنعاء بحوالي 25 كبلوا متر في طريق ترابية تتخللها سوائل تغوص فيها العجلات فننزل عنها ونسحبها بأيدينا حتى وصلنا لزيارة أبناء عمي “يحيى” و “عبد الله” وقضينا أياما جميلة أضافنا فهيا العامل العم العلامة “أحمد بن محمد مفضل” على غداء، في دار الحكومة، فلبينا الدعوة شاكرين.

بعد أيام عدنا إلى “صنعاء” وبينما كانت الدرجتان نهبط موضع “المطلع” نادتنا سيدة مسافرة من سيدات الهجرة: مبروك أخوكم “عباس” في البيت، فغمرتنا الفرحة فذهبنا وسلمنا عليه، ولبثنا أياماً وهو يفكر بأن نذهب إلى “سجن حجة” حيث سيتولى رعايتنا وتدريسنا إخوان كرام بدلاً من البقاء في «صنعاء» وما نلقاه من ازورار الناس عنا، وكان السجن بالفعل أحب إلينا من البقاء فيها،  فراجع السيف “الحسن” بإرسالنا إلى “حجة” لزيارة أخينا “إبراهيم” وندرس فيها كمن سيق لأولاد بني عمنا، فرد السيف “الحسن” بسرعة لم تُعهد عنه بالموافقة، وكتب رسالة إلى “نائب حجة” يسمح لنا بزيارة أخينا وبالدراسة عند القاضي “عبد الرحمن الإرياني” وكان قرار أخي “العباس” نعمة إلهيه ومباركة. ورحلنا إلى حجة لنقع في السجن بعد حين. ولكنا كنا قد درسنا وتعلمنا الشيء الكثير.

***

 صنع في اليمن الحلقة (17) إلى معتقل قاهرة حجة

استرخت قبضة الإمام قليلاً فسمح بخروج “المعتقلين” للنزهة اليومية مع “المحافظين” وبشرط عدم الاختلاط بالناس، استجابة منه لبعض المراجعين، ولكنه لم يسمح بخروج ثلاثة من “بني الوزير”.

وفي 5 رجب1370/11 أبريل 1951م يقول “المعلمي” (ذهبنا “للدورة” إلى “السوائل” وكنا أربعة الأديب الشاعر “إبراهيم الحضراني” والسيد “أحمد بن مُحمد بن علي الوزير” والسيد “أحمد بن محمد بن عبد الله الوزير”، وأنا، وما كدنا نستقر حتى وصل فضيلة “النائب” بـ “حجة” فكانت هذه أول مرة، أفاجأ به في “الدورة” ولم أجد بداً من مقابلته، فقمت وسلمت عليه، وأما رفقائي، فإنهم كانوا قد قابلوه، فقابلني مقابلة حسنة، وسألني عن حالة السيد “عباس الوزير” فأفدته بمرضه، فأذن له بالخروج للدورة مع السيد “إبراهيم بن علي” فعرفت أنه لا يريد “إبراهيم بن علي” لأنه مأذون له بـ “الدورة” فقلت: إن المتأخرين عن “الدورة” الذين لم يؤذن لهم من “آل الوزير” ثلاثة وهم الذين وصلوا أخير للدراسة: السيد “عبد الصمد” والسيد “عباس بن علي” والسيد “عبد الرحمن بن عبد الله،” فقال لا بأس بخروجهم “للدورة” بشرط إبقاء الذين يخرجون، أي أنهم يخرجون بالمناوبة، وتقدم رفقائي فسلموا عليه وأخبرهم بهذا وألزم المحافظين الذين معنا فعدنا فرحين بهذه الإذن) . ثم يقول: (كان من “النائب” حفظه الله الأذن لـ “بني الوزير” بـ “الدورة” بدون مناوبة، وإنما اشترط ألا يخرجوا دفعة واحدة، وإنما يفترقون فرقتين كل فرقة تيمم جهة) .

 وكان أخي “عباس” مريضاً يشتد مرضه يوما بعد يوم، فبعث أخي “إـبراهيم” في 4 رجب 1370/10 أبريل 1951م برقية إلى الإمام يطلب منه نقل أخي “عباس” إلى “مستشفى الحديدة” بعد أن عانى من المرض. ويقول الأستاذ “أحمد المعلمي”: (أشتد مرض السيد “عباس الوزير” وصار في حالة يرثى لها، ورفع أخوه السيد “إبراهيم” برقية يطلب نقله إلى “مستشفى الحديدة” أو “تعز” وهي برقية مؤثرة)    ولم يأت بها على غير عادته.

عاد الجواب من الإمام بالأذن بسفر أخي “عباس” مادام أخي “إبراهيم” “رهينة” عنه، فغادرها يوم 17 رجب 1370/24 أبريل1951 ” إلى “مستشفى الحديدة” على إحدى “السيارات” التي حملت مليون ريال إلى “تعز” وكان الشيخ المرحوم “عبد الولي الذهب”- أحد أبطال المقاومة عن صنعاء أثناء “الثورة الدستورية”- قد أطلقه الإمام وطلبه إلى “تعز” فترافقا معاً. 

 وبقي أخي “عباس” في “مستشفى الحديدة” فترة لم أعرف، أطالت أم قصرت، ولكنه وصل إلى “صنعاء” في تاريخ لم أتبينه ولكنه في اليوم الذي عدنا فيه من “هجرة السر” وبينما كنا نهبط من “المطلع” وكانت “صنعاء” تشاهد على بعد، نادتنا سيدة من “الهجرة” كانت في زيارة لـ “والدتي” وكانت في طريقها إلى “الهجرة” تخبرنا بصوت عال أن أخي “عباس” قد وصل من “الحديدة” فكانت فرحة جعلتنا نسرع أكثر على “دراجتينا” ولما وصلنا سلمنا عليه وفرحنا به، وسعد بنا، وكانت الفرحة تتلألأ على وجه أمنا وأختينا “أمة الخالق” المريضة “أمة الخالق” -الذي سبق أن أفردت مأساتها بحديث مستقل- وأختي “حورية”.

نشط أخي “عباس” بسرية وحذر في التواصل مع “عصبة الحق والعدالة” وكان معه استأذنا “عبد الله البردوني” الذي كان يدرسنا الأدب” و “النحو”، لكن أخونا “العباس” رأى أن نذهب إلى “قاهرة حجة” لندرس عند أولئك النخبة فيها ” فكتب للسيف “الحسن” يطلب منه الأذن لذهابنا لزيارة أخينا المعتقل “إبراهيم” فأذن لنا بالزيارة وأضاف من عنده وللدراسة عند القاضي “عبد الرحمن الأرياني” ويبدو أن الأمر بـ “الدراسة” هو بقاؤنا في “قاهرة حجة” حتى لا نعود بسرعة، ولعل دافعه إلى ذلك هو ابتعادنا عن “صنعاء” حتى لا يتعاطف الناس معنا  ونحن في حالة من البؤس والفقر، وكان في ذلك الخير لنا، فقد ذهبنا إلى “حجة وتعلمنا وأشتد إيماننا بـ النظام الدستوري”  وبمقاومة الحكم على بصيرة ومعرفة. وترسخ أيماننا بأن علينا العمل بكل ما نملك من جهد لنعمل استعادة “النظام الدستوري” وتغيير الحكم الفردي المنغلق.

  وهكذا كان، وعندما كنا في حالة التأهب للسفر قال لي أخي “عباس” أنك ستذهب إلى قوم هم نخبة اليمن علماً وأدباً، وقد يسألونك ماهي “الطبيعة” فماذا سترد؟ فاحترت في الجواب، فما كنت قد قرأت “الفلسفة” ولم أسمع بـ “الطبيعة” ولا بما “وراء الطبيعة” وكان جل معرفتي بها أنها هي هذا المناخ المنظور الذي نعيشه من شمس وقمر، ورياح ومطر، وزرع ذي ثمر، وهواء نتنفسه، وماء نشربه، ولم أكن قد سمعت عن “الطبيعة” وما “وراء الطبيعة” الخ فقال لي ستعرف الجواب هناك.

وهكذا ذهبنا الثلاثة إلى “المعتقل” بأنفسنا، ورغبة منا في الابتعاد عن شعور “الغربة” و “الاغتراب” بين الناس فغادرنا «صنعاء» إلى السجن في1 ربيع الأول1371/ 29 نوفمبر 1951 طوعاً لكنا بقينا فيه بعد ذلك غصباً.

 ارتحلنا على ثلاثة “بهائم”  استؤجرت لهذا الغرض، وشُدّت على ظهورها أدواتنا، بطريقة تجعل ركوبنا عليها سهلاً، وكان يرافقنا ويهتم بنا الصديق الوفي “علي الجرادي” وكان هذا الرجل البار قد سبق أن تحدثت عنه في فصل سابق أول رسول سري من أخي “إبراهيم” إلى زعماء “الثورة الدستوري” قبل استشهاد الإمام “عبد الله بن أحمد الوزير” و”زيد بن علي الموشكي” رضوان الله عليهما- والذي تتابع إرساله إليها ولخطورة مغامراته اسماه “المعتقلون” باسم “رسول القيصر”  تشبها بقصة “جول فرن” الأديب الفرنسي المشهور ( 18 محرم 1323ه/ 24 مارس 1905م) فيما لاقاه في سفره من محن ومصائب.

وضمن موكب من المسافرين العائدين من “صنعاء” بما اشتروه منها، ليبيعوها في “الأسواق الأسبوعية الشعبية “سوق الخميس” أو “سوق الثلوث” أو “سوق الربوع” حيث يتجمع الناس من أماكن قريبة وبعيدة في هذه المنطقة أو تلك، بعد أن يحتفظوا بما يلزمهم منها.

توجهنا شمالاً مع هؤلاء تحت شمس حارقة وهم يتكلمون في مواضيع شتى في “المطر” و”القحط” وما يخصهم من شؤون وشجون، ونحن تستمع إليهم ولا نشاركهم، وكان البعض منهم يفترقون عن مداخل هذه القرية أو تلك وينضاف إلينا آخرون من تلك القرية أو تلك، ويقل العدد حيناً ويكثر حيناً، وتتولى أحاديثهم عن نفس المواضيع، وعن أخبار من جاء من “صنعاء” وماذا وجدوا فيها وما استصحبوا منها.

ومن الطبيعي أن تؤلف الطريق بين الناس، فيتحدثون إلى بعضهم بعضاً بأخبارهم، وبما يسمعون من أخبار، وكان نصيبنا أن انضممنا إلى ركب مسافرين بينهم جندي من “الجنات” قرب “عمران” كان خير رفيق.

وبينما كان الركب يخب في طريقه،-بعد خروجنا- بدأت ثرثرة المسافرين تتعالى، وسمعناهم يتحدثون عن هذه الصخور السوداء المنتشرة على الطريق، بأنها كانت بيضاء، ولكنها لما عصى أهلها الإمام “القاسم بن محمد” سلط الله عليهم النار، فأحرق هذه الأرض، وحولها إلى هذا السواد، عبرة لمن يعصي الإمام، فأدركنا أننا مع فئة شديدة الولاء لـ “آل القاسم” الذين منهم الإمام المنصور “محمد بن يحيى” والمتوكل “يحيى بن محمد” والناصر “أحمد بن يحيى حميد الدين” فسكتنا على مضض، بعد أن كنا ننوي أن نشرح لهم مظالم العهد، ولكنا فضلنا الصمت لا لعجز في النطق ولكن لصمم في آذانهم؟. مع أن حقيقة هذه الحجارة السوداء وتحول ألوانها كان نتيجة “بركان” تفجر ذات يوم موغل في التاريخ، ولكنها تحولت بفعل فاعل إلى “كرامة” “للإمام القاسم” الذي حظي بكرامات كثيرة وعديدة وخيالية لا يحتاج إليها.

واصلنا سيرنا حتى الظهر حيث حطينا الرحال في “ضروان” لتناول “الغداء” وانضم إلينا ذلك “الجندي” وكان يساعد العم “علي الجرادي في حط الرحال وشدها من جديد، وأصبح جزءاً خامسا منا. وتقع “ضروان” على مسافة 25 كيلو من صنعاء تحت “جبل ضين” التي أمر النبي- صلى الله عليه- “أهل صنعاء” أن يتوجهوا “للقبلة” نحوه لأنه على سمت “مكة”.

بعد تناولنا “غدائنا” وتناول بقية الركب غدائهم توجهنا نحو “عمران” فوصلناها بعد المغرب، فنزلنا في إحدى “المقاهي” وهي عبارة عن غرف تستأجر للنوم، ولا يقدم فيها أي طعام، وعلى النازل بها أن يشتري أكله من صاحبها الذي يشتريها له من “السوق” أما إذا كان مزودًا بـ “الكعك” أو “الخبز” أو “الملوج” أو “القفوع” فلا يحتاج إلى طعام إلا القهوة، وكنا مزودين بمثل هذه الأطعمة .

 وفي الصباح ساعدنا ذلك الجندي الكريم في شد أحمالنا على “بهائمنا” ثم ودعناه شاكرين رفقته، وإذ توجه إلى أهله في “الجنات” واصلنا نحن طريقنا إلى “المعتقل” فتوجهنا غربا نحو “كحلان” وكان المسافرون إليها قلة فلم نترافق مع أحد، وبدأنا نصعد في الجبل إلى “المصانع” فأنخنا ساعة من الزمن فيها، تناولنا بعض “القهوة” ولم تشرب “الماء” لأن الاعتقاد آنذاك -وربما كان صوابا بحكم التجربة أن “القهوة” هي التي تطفئ الظماء، بينما لا يزيد “الماء” الظماء ولا يطفئه.

وتابعنا طريقنا صعداً نحو مدينة “كحلان” الرابضة على ذروته، ولم تكن المسافة بين عمران” و”كحلان” طويلة، ولذلك وصلناها بعد الظهر، وقضينا بقية يومنا وليلتنا فيها، وكانت لنا بمثابة استراحة بعد أن قطعنا بالأمس خمسين كيلو.

وفي اليوم الثالث هبطنا من أعلى الجبل إلى سفحه إلى “وادي شرس” حيث تناولنا القهوة في “مقهاية” تكاد تلامس مجرى نهر صغير يهبط من “جبال مسور” فيملأ بعض “الحفر” الصغيرة  بالماء عند إذن يتكاثر فتعيش  فيه “البعوض” و”الهوام” ويخشى الناس أن يناموا فيه حتى لا يصبهم مرض “السدم” .ولم نقعد فيه إلا وفق طائر حط عل نهر وشرب منه وطار، فصعدنا بعد أن قطعنا الوادي الضيق جبلاً مرتفعاً حتى بلغنا بعض قممه واخبرنا هناك، بأن “اليمنيين” أثناء قتالهم “العثمانيين” كانوا يدحرجون الحجارة الكبار التي يفجرونها بـ “الباروت” فتتحرج فتقتل كل من تلقاه من “الند العثماني” وكان الجبل شديد الانحدار، فاقشعر جسدي مما سمعت.

 بعد أن تجاوزنا القمة دخلنا في طريق مستقيمة مشينا عليها، وإذا بنا نجد أبناء عمومتنا “إبراهيم بن محمد” و “عباس بن محمد” و “محمد ابن عبد الله” – رحمهم الله -وكانوا قد جاءوا لزيارة أهلهم، وللدراسة عندهم- في طريقهم لاستقبالنا فتعانقنا، ورحبوا بنا، وأبلغونا أننا سنذهب إلى “النائب” أولا، ثم إلى “قاهرة حجة” وذهبنا جميعاً إلى “بيت النائب” فوجدناه كهلاً متكئا على “مدكا” وأمامه طاولة عليها أقلام وأوراق، وحوله رجال كهول معممون، فسلمنا عليه وسلمناه التصدور” من السيف “الحسن” فرحب بنا، وأذن لنا بالطلوع إلى “قاهرة حجة” فصعدنا إليها.

دخلنا من بوابة كبيرة ذات بضعة درج وإذا بكل المعتقلين في انتظارنا، فتسالمنا وغمرونا بعواطفهم، وحسن استقبالهم، وكريم حنانهم، فكأننا فعلا دخلنا بين أهلنا وأحبابنا، وهمسوا في أذهاننا إذا كان لدينا رسائل سرية فنحذر أن يعرف بها “حسن العمري” -رئيس وزراء فيما بعد- لأنه ثرثار ويجالس “حرس السجن”. ولم يكن لدينا أي رسالة مكتوبة فحذر أخي “عباس” جعلنا لا نحمل شيئا إلا ما كان شفاهاً.

في طريقنا إلى أعلى دور في البناية حيث ستستقر توقفنا في الطابق الثالث لنسلم على الوالد “محمد بن أحمد الوزير”-شقيق إمام الدستور عبد الله بن أحمد الوزير فسلمنا عليه واحتضننا بحنان وكان رحمه رغم ما به من محن قويا صابرا ممتحنا إذ فقد أخاه الإمام وابنه عبد الله بن محمد” الشاب الشجاع وكان يسكن في المكان الذي تحت غرفتنا مع ولده “إبراهيم رحمهم الله جميعاً

  صعدنا إلى الطابق الرابع إلى مكان طويل كان قد سبقنا إليه أخونا “إبراهيم” وابن عمنا “أحمد بن محمد الوزير” وكان بين المكان حجرة ضيقة اقتطع من شرقها مرحاض صغير، ومن شمالها غرفة صغيرة يحل بها “أحمد بن محمد الوزير” لابد أننا أوينا إلى النوم بعد أن أدينا صلاة المغرب والعشاء جمعا بعد سفر شاق؟

في اليوم التالي جاء إلى غرفتنا الأخ «أحمد بن محمد الشامي» معتمراً شبه عمامة بيضاءـ لم نكن نعرفه من قبل، فتعرفنا عليه الآن وقعد معنا يتحدث مع الأخوين «أحمد بن محمد الوزير» و«إبراهيم» عن دراستنا وتدريسنا، وعندما ودعنا كان مسئولية دراستنا قد ألقيت على عاتقه، فكان بحق الأستاذ الحاني، بينما تولى الأخ «أحمد بن محمد الوزير» الاهتمام بحياتنا اليومية من مأكل ومشرب. وكان أخي «إبراهيم» أبا حنونا، يرعانا بحب أخ أرغمته الأيام أن يصير أبا.

خرجنا من الغرفة لتستكشف هذه القلعة التي استقبلت معارضي الحكم من قبل، وثوار الدستور من بعدهم. وكان دليلنا الأخ “عبد الرحمن بن الإمام عبد الله بن أحمد”-رحمه الله- فهبطنا إلى الدور الثالث حيث كان يحل فيه القاضي “عبد الرحمن الارياني” والقاضي “محمد السياغي” والقاضي “محمد الأكوع” والقاضي “أحمد المعلمي”، فسلمنا عليهم، ثم هبطنا إلى خارج البناية، ومررنا بجانب غرفة الحرس، ومنه إلى “المفرج: الذي كان يحتله الوالد حسين الحوثي، ثم القاضي “عبد الله الشماحي” وهو يطل على بعض مدينة حجة، ومن باب مفتوح نفذنا منه إلى ساحة يقع في وسطها “الجامع” وخلفه “بركة مياه تتجمع فيها المياه من الأمطار، وخلفها ساحة يقع في أحد جوانبها نوبة عسكرية، وفي الجانب الأخر نوبة حراسة أخليت ليحل فيها القاضي “محمد الإرياني” المصاب ب”مرض السل” وفي هذه الساحة كان “المعتقلون” فيها يلعبون “رياضة كرة القدم،” و”القيود” بأرجلهم فلا تسمع وقع خطوات، بل صرير حديد.  وعلى بعد خطوات من المسجد يقع مدفن كان للحبوب، لقد همل منذ زمن، وامتلأ بالتراب وبما يرمي في المساجين من بقايا حاجاتهم، ولم يبق منه إلا قامة رجل متوسط القامة.

فإذا ما نزلنا من الساحة عبر درجات قليلة يكون على يسارنا، مكان يدعى “حر البقرة” كان محلا “للبقر” و “الغنم” و”الكباش” لتُؤكل إذا ما وقع حصار، لكنه الآن أصح مكانا يحتله الأخوة “عبد الله السلال” ولده و”حسين العمري” ومحمد الغفاري” و”محمد الفسيل” و”محمد صبرة الأبي” وعبد السلام صبرة” و بجانب الباب الكبير وعلى بعد غير قليل من “البوابة” كان “الصفي محبوب” يسكن في مكان صعير وليت أدري من كان يسكن معه

أما المدخل الرئيس فيتكون من فناء واسع بعض الشيء حيث تقع غرف الحرس من اليمين وغرفة فاضية من الشمال تستخدم للزوار أن سمح لهم، ويمتد فوقهما مكان يحل فيه “أحمد بن محمد الشامي” و”حمود الجايفي” و “علي الغفري”

كانت تلك هي الصورة لقلعة القاهرة وما فيها من بقية مساجين الثورة الدستورية على أن ساكني الغرف كانوا يبدلون أمكنتهم بمجرد إطلاق فرد من أي عرفة أو أفراد فينتقل أو ينتقل أكثر من واحد إلى تلك الغرفة

*

 وإذ انتهيت من وصف “القلعة” كما بقيت مطبوعة في ذهني، علي أن أتحدث عن ساكنيها كما عرفتهم. كان المعتقل يضم ثلاث فئات إنسان منفرد؛ وفئة العلماء، وفئة الشعراء والأدباء وفئة العسكريين.

فأما الإنسان المنفرد فالأستاذ “علي ناصر العنسي” خريج الأزهر والمتبني “للنظام لديمقراطي” و”الحكم المدني” 

وأما فئة “العلماء” فعلى رأسهم القاضي “عبد الرحمن الإرياني” الذي تحلى بميزة سعة الصدر، وعدم الغصب فلا تراه إلا مبتسماً وهي مؤهلات جعلته المرجع في حالة اختلاف بين “المعتقلين” يرجعون إليه ويسرع عليهم، وكان منفتحاً على الثقافة الحديثة وعلى المذاهب الأخرى شأن “الزيدي” المتفتح من أتباع الإمام “المقبلي” والإمام “نشوان الحميري” ومن هذه الفئة كل من القاضي “محمد الأكوع” العالم النحوي والعلامة “محمد السياغي” وتوصف هذه الفئة بالانفتاح على تفاوت بينهم فيه. ويلحق بهم وإن لم يكن عالما إلا انه من نفس تفكيرهم السياسي القاضي” عبد السلام صبره” ذي الوجه المبتسم والصبر والجلد والوحيد الذي لم يراجع الإمام في أطلاق سراحه وكان يعتبر أنما ينزل بهم سعادة خالدة فسماه “المعتقلون”: “السعادة الخالدة”.  وإلى جانب تلك الفئة كان ثم ثمة فئة أخرى كالوالد العلامة “محمد بن أحمد الوزير” والعلامة الحافظ “الصفي محبوب” والعلامة الأديب “عبد الواهب المطاع” يمثلون الخط المحافظ، فلا يرون في تدريس “الفلسفة” أو كتب “إسماعيل بن الأمير” وغيره نفعا، ويدعون إلى التمسك بـ “المذهب الهادوي؟

 أما فئة الشعراء والمؤرخين والأدباء فإن “أحمد بن محمد الشامي” كان أبرزهم قامة، وأشعرهم وأنثرهم وأكثرهم اطلاعا ومسايرة لكل جديد، فهو إلى جانب كونه الشاعر والمؤرخ المنصف واسع الاطلاع على الثقافة الإسلامية والثقافة المعاصرة، ومن هذه الفئة كان الشعراء الأدباء الشاعر النابع “أحمد المروني” و والشاعر الجيد “احمد المعلمي” والشاعر الرقيق المهذب “محمد أحمد صبرة” والشاعر المشاغب “محمد الفسيل”.

  وأما فئة “العسكريين” فعلى رأسهم يقف “عبد الله السلال”-أول رئيس جمهورية في “اليمن”- وكان أحد المقربين إلى الرئيس الشهيد “جمال جميل العراقي” وخريج “كلية بغداد العسكرية” وكان يتحلى بالصبر والمرح والنكت اللاذعة، بينما كان “حمود الجايفي”-رئيس وزراء فيما بعد- منطوياً على نفسه، مبتعدا عن أي تجمع مداوماً على الرياضة في غرفته، أنيقا في ملبسه، كثير الصمت، كثير الابتعاد عن اللقاءات مع “المعتقلين” الآخرين وكان “حسن العمري” -رئيس وزراء ونائب رئس الجمهورية فيما بعد- يكثر من معايشة “الحرس”، فيقيل معهم، ويختلط بهم. ولا يشارك في كثير من لقاء الآخرين أيضا، ويبدو أن بعض “المعتقلين” كان يشكك في مستواه “الثقافي” و “السياسي” ولا يطمأن إلى آرائه والدليل على ذلك أنه لما بعث الأستاذ “محمد أحمد نعمان” إلى بعض المعتقلين رسالة يسأل فيها عن: ماذا نريد في7 الحجة 1372ه /16 أغسطس 1953م في كتاب نشر فيما بعد سماه “من وراء الأسوار” حول مستقبل اليمن لم يكن بينهم   صحيح أن هذه الرسالة لم تعرض على آخرين كـ “أحمد الشامي” و”إبراهيم الوزير” و”احمد بن محمد الوزير” ولكن لسبب آخر هو وجود عنصرية. وقد سبق أن شرحتها  سابقا.

 كان ذلك هو انطباعنا الأول عندما وصلنا إلى هذه القلعة وعن أولئك “الأساتذة” و”العلماء” الذين درسنا على أيديهم.

فماذا تعلمنا، وماذا درسنا ومن كان أساتذتنا…يتبع

اقرأ أيضا:المفكر الكبير زيد بن علي الوزير يكتب عن الاستبداد وتسلط الفرد في كتابه “الفردية”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى