كتابات فكرية

رد وتعقيب على مقال “الواقعية السياسية والخلل في موازين القوى” للأستاذ محمد حسن زيد

رد وتعقيب على مقال “الواقعية السياسية والخلل في موازين القوى” للأستاذ محمد حسن زيد

بقلم: حسن الدولة

الخميس 21 أغسطس 2025_

اطلعت على المقال القيم الذي كتبه ابننا الفاضل الأستاذ محمد حسن زيد، نجل الشهيد المجاهد حسن زيد، والمنشور أول مرة في 26 يوليو 2006م إبّان حرب تموز، والذي أعاد نشره مؤخراً وأرسله إليّ عبر تطبيق الواتساب. فوجدت فيه قراءة واعية لواقع الأمة، وتحليلا استشرافيا دقيقا لمشاريع الصهيونية، وقد بدا لي المقال وكأنه كُتب اليوم لا قبل عقدين من الزمن، لولا أنني أعلم بنبوغ الكاتب المبكر ونفاذ بصيرته.

لقد تناول المقال ثلاث مراحل من المشروع الصهيوني، وتطرق إلى أزمة “الواقعية السياسية” في العالم العربي، حيث تتحوّل الواقعية من أداة تقييم عقلاني إلى غطاء للاستسلام والتفريط. وكان واضحا من الطرح أن الكاتب يدرك أن مشروع المقاومة، رغم كل التحديات، هو الخيار الوحيد المتبقي لأمة تنزف جراحا، وتبحث عن موطئ قدم في عالم لا يحترم إلا الأقوياء.

وإذا كان المقال قد كتب في سياق حرب تموز 2006، فإن ما تتابع من أحداث حتى يومنا هذا لا سيما مع انطلاق معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م ، لم يزد ما جاء في المقال إلا صدقاً ووضوحا. فالمشهد العربي اليوم، بما يحمله من حصار وتطبيع وتجويع، وسقوط عواصم عربية في فخ التبعية، يؤكد أننا أمام تنفيذ متسارع لمشروع “الأرض مقابل السلام” الذي أعيد إنتاجه تحت اسم جديد: “السلام الإبراهيمي”.

لقد ظهرت النتائج الكارثية لهذا المشروع منذ بداياته، حين تم تفريغ ساحات الصراع السياسي والعسكري لصالح الكيان الصهيوني. وما جرى من اختراقات أمنية في عمق محور المقاومة، من فلسطين إلى لبنان، فإيران وسوريا، ثم ما تلا ذلك من اغتيالات لقادة بارزين، ما كان له أن يمر لولا فخ “الطوفان”، الذي وفر لإسرائيل غطاء دوليا لتسويق حربها على أنها “دفاع عن النفس”، والتلويح بقضية الأسرى كذريعة للعدوان الشامل وكم كنت اتمنى على حماس ان تنزع هذه الذريعة وتستمر في المقاومة.

وتحت هذا الغطاء، وتأثيره فإن اعلام إسرائيل يستغل مطالب اسر الأسرى بسرعة الإفراج عنهم اسراهم فتمعن في الإبادة الجماعية، أي أنها من خلال إبراز مشكلة الأسرى، وبكاء ونحيب عائلاتهم، فإسرائيل تجيد خلق المبررات التي تقنع حكومات العالم المتمدن، لكي تمارس أبشع جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وللأسف الشديد أن هناك معلومات عند دعم خليجي غير معلن لإسرائيل، التي باتت عمليا جزءا من التآمر على محور المقاومة، وما التطبيع الاقتصادي والدعم الإعلامي إلا وجها من هذا الدعم، بل وحتى التواطؤ العسكري.

إن الحرب الدائرة اليوم ليست على فصيل بعينه، بل على مشروع المقاومة برمته، وعلى ما تبقى من ذاكرة الشعوب وكرامتها. ومن المؤسف أن هذه الحرب تمهّد، وفق تصريحات قادة الاحتلال، لإعلان ما يسمّى “مملكة إسرائيل الكبرى”، كما قال نتنياهو بصراحة قبل اسبوع: “إن الله يبارك خطواتنا، وسنقيم مملكة إسرائيل من النيل إلى الفرات.”

إن ما يجري ليس مجرد توسع، بل مشروع استعماري متكامل، تُنفذه أيدٍ عربية ملوّثة، ومهمتها تفكيك وجدان الأمة، وتحطيم إرادة شعوبها.

نحن اليوم أمام إعلام عربي يعاد برمجته ليجعل من العدو صديقا، ومن المقاوم خائنا؛ وتحويل إيران بدلا عن إسرائيل كعدو أول للأمتين العربية والإسلامية،  واستغلال منابر دينية  لتبرير التطبيع وتمجيد السلام المزعوم؛ وأموال خليجية تسخر لبناء جسور اقتصادية مع الكيان، بدل أن تُوجّه نحو دعم فلسطين أو إيواء نازحي غزة.

وقد حذر مقال الأستاذ محمد المذكور آنفا من الخلط بين المقاومة المشروعة والعنف الأعمى، أما اليوم، فهناك مشروع ممنهج لتكريس هذا الخلط، بهدف إدراج فصائل المقاومة في قوائم “الإرهاب”، وتبرير استباحة أراضي دول الطوق باسم أمن واستقرار المنطقة.

ورغم ذلك، فإن مشروع المقاومة ، رغم الضربات والهجمات  لا يزال هو الأكثر واقعية واتزانا، إذ أن محاولات شيطنته تعجّل بتحقيق حلم إسرائيل من النيل إلى الفرات – لا سمح الله – ، ولا يوقف هذا المسار إلا وعي الشعوب العربية والإسلامية لتشكل قوة ضغط على حكوماتها، ومن اجل تكامل الجبهات، وتجذير ثقافة المقاومة بوسائل أكثر نجارة من السلاح فهناك وسائل للمقاومة فخورة الحجارة ركعت اسرائيل وحققت حلم الدولة الفلسطينية الواحدة لو لا انفصال حماس، وغاندي بالعصيان المدني جعل البريطانيين يجرجروا اذيالهم متجرعين مرارة الهزيمة ونالت الهند الاستقلال، ونظرا لعدم وجود لغة توحد الهنود لعدد اللغات فقد اختاروا لغة المستعمر لغة رسمية.

فالصراع اليوم ليس فقط على الأرض، بل على الهوية، والإرادة، والوجود. إنها معركة بين مشروع الهيمنة ومشروع التحرر، بين من يسير تحت ظلال البنتاغون، ومن يسير مع الحرية والاستقلال.

ومع كل ملابسات “الطوفان الأقصى” وتلك النتائج المؤلمة التي نجمت عنه فإنه مما لا شك فيه قد فضح هشاشة المشروع الاستسلامي العربي، فقد يكون أيضا بداية لانبعاث مشروع التحرير، إذا أحسنت فصائل المقاومة إدارة المعركة أخلاقيا وسياسيا وان تعجل بنزع الذرائع التي يتحجج بها رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو.

وفي هذا الإطار، لا بد من التنبيه إلى أن استمرار حجز الأسرى الإسرائيليين، مع كل التقدير لحماس ومواقفها، قد أصبح الذريعة الأولى التي يتكئ عليها الاحتلال لتبرير حرب الإبادة. إن استمرار احتجازهم على فداحة ما ترتكبه إسرائيل من مجازر في حق شعب اعزل الإنسان – يمنح إسرائيل مبررا “دولياً” لتمديد العدوان، ومواصلة التهجير والتدمير، بدعوى “الرد المشروع”.

من هذا المنطلق كتبت أنا كاتب هذه السطور أكثر من مقال منذ طوفان الأقصى وحتى اليوم، مؤكدا بأن الإفراج عن الأسرى ضمن مبادرة مدروسة، قد يساهم في سحب الذرائع من يد الاحتلال، ويعيد زمام المبادرة إلى الشعب الفلسطيني الذي يباد بصمت، بينما العالم يتفرج، والأنظمة تتواطأ.

وما يجري منذ السابع من أكتوبر 2023م من إبادة جماعية في غزة، واستباحة لكل المحرمات الدولية، وتواطؤ عربي مخز يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن من يطالب اليوم بنزع سلاح حزب الله أو أي فصيل مقاوم، قبل قيام دولة لبنانية حقيقية ذات سيادة كاملة وجيش قادر على الدفاع عن حدودها، هو إما واهم يجهل الواقع، أو متآمر يخدم المشروع الصهيوني بقصد أو بغير قصد.

لقد كانت المقاومة وما زالت صمام أمان حين غابت الدولة، ودرع الوطن حين انهارت المؤسسات. والذين يطالبون بتسليم السلاح قبل زوال الاحتلال، يتناسون أن هذا السلاح هو الذي حرّر الجنوب في عام 2000م، وهو الذي أوقف العدوان في 2006م، حين عجزت الدبلوماسية عن فعل أي شيء يُذكر.

ولعل أبلغ من عبّر عن هذه الرؤية هو الشهيد القائد السيد حسن نصر الله، حين سُئل ذات يوم:

“متى تسلّمون سلاحكم؟”

فأجاب بكل وضوح:

“عندما تزول مبررات وجوده” أي عندما تكون هناك دولة حقيقية تحمي البلد وتدافع عنه، وتستعيد الأراضي المحتلة وتمنع العدوان، عندها لا نحتاج إلى المقاومة، أنها كلمات تُقرأ بموازين التجربة والحكمة، لا بمقاييس الخطاب السياسي العابر.

ومن يقرأ التاريخ الحديث يعلم أن نكسة 1967م لم تكن إلا ثمرة لوهم السلام، حيث سُرّحت الكفاءات العسكرية، وتم تهميش المقاومة، فكانت النتيجة سقوط القدس وسيناء والجولان خلال أيام معدودات. وكذلك اجتياح بيروت عام 1982م جرى في ظل غياب أي قوة رادعة، وهو ما مهّد لولادة المقاومة في لبنان.

إن سلاح المقاومة ليس ملكا لطائفة، بل لشعب أعزل لا يمتلك جيشا، ولا غطاء دوليا، ولا عمقا استراتيجيا. ومن يطالب بنزعه دون أن يطالب بزوال الاحتلال، ومحاسبة مجرمي الحرب، وتمكين الدولة من فرض سيادتها على أرضها، إنما يخدم المشروع الصهيوني شاء أم أبى.

إن نزع سلاح المقاومة اليوم يشبه في عبثيته مطالبة صلاح الدين بتسليم سيفه قبيل معركة حطين بدعوى “بناء الدولة”!

فهل كانت القدس لتحرر من غير سيف؟، “ولينصرنّ الله من ينصره، إن الله لقويّ عزيز.”

اقرأ أيضا للكاتب:الجمهوريات الوراثية: من ثورات الشعوب إلى مؤامرات العائلات (قراءة في مقال القاضي عبد العزيز البغدادي)

اقرأ أيضا:أحمد محمد نعمان .. بين المقابلة والمذكرات والسيرة قراءة فكرية سياسية (4 ـ 4) أ + ب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى