كتابات فكرية

المولد النبوي وسؤال التغيير والبناء

المولد النبوي وسؤال التغيير والبناء

    بقلم : عبدالرحمن مراد

في عالم اليوم ثمة تناقضات في جوهر الأشياء وفي ظواهرها العامة , فالكثير من أفراد المجتمع المسلم يعد العدة للاحتفال بعيد الكريسمس وهو احتفال ديني عند المسيحيين يبالغون فيه إلى درجة عالية من الترف وهو احتفال متعدد الوجوه بين طقوس دينية وقداس الميلاد , وبين احتفالات عائلية وتبادل للهدايا واستقبال رمزهم الديني البابا نويل وبين طقوس رمزية كوضع شجرة الميلاد ومغارة الميلاد , ويقف العالم المسيحي إجلالا واحتراما لهذه المناسبة , والكثير من أفراد المجتمع المسلم يفرح بهذه المناسبة ويذهب الى الغرب حتى يشارك في مباهجها , وتقف دولة الإمارات على رأس الدول العربية التي تبتهج بالمناسبة وتنفق أموالا كبيرة في مظاهر الاحتفال وفي الألعاب النارية وتوظف الإعلام العالمي لتغطية الحدث في دبي , وهذه الدولة نفسها تقف ضد الاحتفاء بالمولد النبوي ولا تكاد تنفق علي مظاهر الاحتفال به سنتا واحدا بل يذهب الكثير من تيار الوهابية الى القول أن الاحتفال بالمولد بدعة وفي السياق بدأت الوهابية في سنوات هيئة الترفيه في السعودية تحتفي بالكريسمس مجاراة للعالم .

العالم المسيحي يحتفل برموزه الدينية ومثل ذلك أمر مستحسن عند الوهابية لكنها تقف ضد المولد النبوي الشريف الذي يشكل بعدا تحوليا وقيميا في حياة العرب والمسلمين هذا البعد التحولي هو من ترك أثرا محمودا على الحضارة الإنسانية المعاصرة , فعصر النهضة الأوروبية بدأ من عند المسلمين وهو الذي أحدث كل هذا التحول عند الغرب بشهادات رموزهم الفكرية بل يمكننا القول أن التقنيات الحديثة التي تعتمد الخوارزميات يعود الفضل فيها للمسلمين وما يزال المصطلح دال على أسسه الأولى التي ابتكرها العرب والمسلمون .

لقد كان الإسلام ثورة عميقة أحدثت تحولا عميقا في التاريخ البشري كله ,ولذلك يقف العالم الرأسمالي ضد فكرة الإسلام لأنه يرفض رفضا قاطعا فكرة الاستغلال والعبودية ويدعو إلى الحرية والاستقلال والى كرامة الإنسان , وقد كانت تلك المبادئ جوهرية في الفكر الإسلامي وفي الفقه التشريعي ,في حين ظل العالم غير المسلم يعاني من العبودية ومن الاستغلال ومن التمايز الطبقي إلى عهد قريب , وعلى إثر ذلك نشأ تيار الاشتراكية الذي اصطدم مع النظم الاجتماعية القائمة على الاستغلال والتمايز الطبقي , وقد استفاد مفكرو الاشتراكية من ثورة الإسلام التي جاءت كي تنتصر لكرامة الإنسان وتحرره من العبودية والاستغلال وقالوا بفكرة العدالة الاجتماعية وهي فكرة أصيلة في حركة وتاريخ الرسالة المحمدية .

ما يحدث اليوم في عالمنا الإسلامي هو انصهار في ثقافة الغالب ظنا منهم أنه يقود الحضارة الإنسانية المعاصرة وتناسى هذا الجمع المعنى العظيم للثورة المحمدية التي قادت هذا التحول العميق في حياة البشر كلهم , وما يزال الكثير يجهل حجم التحول الذي أحدثته الثورة الاسلامية ويجهل ظلالها وفضلها على الحضارة المعاصرة , فحركة التجهيل كانت مشروعا استعماريا غربيا يهدف إلى التيه والتضليل للعرب والمسلمين حتى لا يستعيد العرب والمسلمون دورهم الرائد في التحكم بمقاليد الحياة المعاصرة القائمة على أسس ومنطلقات قيمية وأخلاقية ذات تواشج عميق مع مقاصد الله في التشريعات السماوية للبشرية جمعاء .

ومن هنا يصبح الاحتفال بالمولد النبوي من ضرورات العصر حتى يستوعب المسلمون والعالم من حولهم القيمة المثلى للثورة المحمدية ويدركوا أثرها ويعوا دورهم الريادي في الحياة القائمة على مبادئ الحق والخير والعدل والحرية وعلى مكارم الأخلاق وهو دور لابد أن يتحول الى سؤال دائم يحفر في الوعي الجمعي الذي أمسى ضحية التعسف ورهن التضليل الذي يمارسه النظام الرأسمالي على البشر اليوم .

فما الذي يحدث اليوم ؟

 لماذا يبدو الواقع الإسلامي اليوم ضبابيا ومتوحشا وغابيا بعد أن عملت فيه الجماعات التابعة للجهات الإستخبارية العالمية على تفكيكه وتشويه صورته المثالية في الأذهان ؟.

إن الجماعات التي تدعي الانتماء الى الاسلام وتعمل باسمه وتحت رايته هي من يفت في عضده , وهي من تعمل على تقويضه من خلال أخلاق التوحش والغابية والفوضى التي ساد منطقها وتداولها الإعلام منذ مطلع العقد الأول من الألفية , تلك الصورة التي تسيطر بقتامة مشهديتها على العقول اليوم هل تمثل الجوهر الحقيقي للإسلام ؟

نحن نرى أن فقه التمدن في الإسلام , وفكرة الحريات العقائدية , وفكرة التدافع بين الجماعات سياقات ذات تجذر وعمق في الفكر الثوري الإسلامي الذي قاد مرحلة انتقال من أصعب المراحل ليبدع واقعا اجتماعيا وثقافيا جديدا في عهد الرسول الأكرم عليه وعلى آله الصلاة والسلام  ويوم السقيفة كان سببا مباشرا في كل التنظيرات والتخريجات الشرعية لنظرية الحكم التي تستند اليها الجماعات التي تشوه في الإسلام وجل تلك المدخلات الثقافية لا أصل لها في جوهر الإسلام بل فرضتها ضرورة العصبيات وروح الاستبداد في الذات القروية , تلك الروح التي تستند إلى مبرر فساد الخروج واستقرار الدولة هي التي  عززت هذه الروح إلى درجة الاعتقاد بجوهريتها في الدين وأصوله وثوابته ومنطلقاته النظرية .

 لقد أصبحنا أمام واقع حضاري جديد , ودلت التفاعلات أن الفكر الإسلامي بحاجة إلى حركة تدافع لتحديد المفاهيم الحضارية الجديدة والمستجدة عليه  ليكون أكثر ديناميكية مع واقعه , فالتمدن ما يزال يأخذ بعدا نظريا جامدا في تصورات البعض , والتدافع ما يزال يأخذ بعدا نظريا متوحشا عند الكثير , والحريات تأخذ بعدا نظريا الغائيا إلى حد الفناء عند البعض , والوقوف أمام هذه المصطلحات لتحديد مفاهيمها هو البداية الصحيحة للولوج إلى العصر للتأثير فيه لا التأثر به  وخاصة في اليمن الذي عمل الصراع فيه كما لم يعمل في غيره من البلدان .

وأمام هذا الواقع المعاصر يصبح الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ضرورة اجتماعية وثقافية فالقراءة الواعية وفق منهج جدلي للسيرة النبوية قد تبعث سؤالا دائم التجدد وقادر على البعث وإحياء ما اندثر .

 اقرأ أيضا:بين يدي ميلاد منقذ البشرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى