كتابات فكرية

الشهداء… صنّاع الحياة ومهندسو النصر

الشهداء… صنّاع الحياة ومهندسو النصر

بقلم الدكتور: عبدالرحمن المؤلف

السبت 8 نوفمبر 2025-

في عالمٍ تتبدّل فيه المفاهيم وتُختطف فيه القيم، يبقى الشهيد هو الحقيقة الثابتة التي لا تزول، النور الذي لا يخبو، والقدوة التي لا تموت. حين تحدّث القرآن الكريم عن الشهداء، لم يتحدث عنهم كذكرى تُستحضر في المناسبات، بل قدّمهم كحالة وجودية خالدة تتجاوز الموت والزمن:

 {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ، بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (البقرة: 154)

فهم أحياء، عند ربهم يُرزقون، لأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه، وبذلوا أرواحهم في سبيله دون رياءٍ أو طمعٍ أو دنيا، بل إيمانًا خالصًا بأن الكرامة لا تُوهب، بل تُنتزع بتضحية ودمٍ ووفاء.

إنّ الشهداء هم قمّة الهرم الإيماني، بلغوا كمال الصدق والإحسان، فاستحقوا الحياة الأبدية. لم يخرجوا طلبًا لسلطة، ولم يحملوا سلاحهم حبًا للقتال، بل لأنهم رأوا في الجهاد مشروع حياة، وفي الشهادة بعثًا جديدًا لأمةٍ أراد الأعداء قتل روحها.

الشهيد لا يموت، بل ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الخلود، من زمنٍ محدود إلى زمانٍ مفتوح على رضوان الله. ومن هنا كانت الشهادة ليست خاتمة الطريق، بل بدايته؛ بداية وعيٍ جديدٍ، وبعثٍ جديدٍ لأمةٍ تصنع مجدها بالدماء الزكية، لا بالخطب ولا بالشعارات.

الشهداء في ميزان الأمة: من القدوة إلى القيادة

إنّ الأمم التي لا تقدّس شهداءها، ولا تحفظ وصاياهم، هي أممٌ فقدت بوصلة التاريخ. فالشهداء ليسوا مجرد رموزٍ في الذاكرة، بل هم صانعو الاتجاه ومهندسو المستقبل. هم الذين رسموا بدمائهم خرائط الحرية والسيادة.

وحين نتأمل قوله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ… فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (التوبة: 111)

ندرك أن الشهداء عقدوا مع الله صفقة العمر؛ باعوا الفاني واشتروا الباقي. ومن أوفى بعهده من الله؟ لذلك فهم ليسوا ضحايا حرب، بل رواد مشروعٍ إلهيٍّ لبناء الإنسان الحرّ والمجتمع العادل.

من دمائهم تُصاغ معادلات القوة

اليوم، ونحن نعيش مرحلة الصراع المفتوح مع قوى الاستكبار، نرى أن كل إنجازٍ عسكريٍّ أو تقنيٍّ أو استخباراتيٍّ في محور المقاومة إنما هو ثمرة تراكم جهادٍ طويلٍ صنعه الشهداء. فالصواريخ الباليستية، والطائرات المسيّرة، والمنظومات البحرية ليست إلا الامتداد المادي لعقولهم ودمائهم، وتجسيدًا لروحهم التي ما زالت تقاتل فينا ومن خلالنا.

إنّ النصر لا يُولد صدفة، بل هو حصيلة تراكمية لجهدٍ ممتدٍّ عبر أجيال. فكل شهيدٍ هو لبنة في بناء النصر، وكل روحٍ طاهرةٍ ارتقت في سبيل الله إنما تسهم في هندسة مستقبلٍ تتحرر فيه الأرض وتنهض فيه الأمة.

الشهادة… مشروع وعي ومقاومة

الحزن على الشهداء ليس نحيب الضعفاء، بل هو حزن العارفين الذين يدركون أن الفقد طريقٌ للبعث، وأن الدم الطاهر هو الذي يُنبت الحرية. ولذلك فإنّ السير على نهجهم لا يكون بالعاطفة وحدها، بل بالعزيمة، والإيمان، والإعداد، والثبات، والعمل المنظم الواعي.

فالشهيد لا يريد أن يُبكى، بل أن يُتبع. لا يريد رثاءً عاطفيًا، بل استمرارًا في خط الجهاد والوعي والبناء.

خاتمة: من دم الشهيد تُولد الأمة من جديد

إنّ دماء الشهداء ليست كلماتٍ في الخطب، بل هي حبر التاريخ الذي تُكتب به فصول الكرامة. وهم الذين وهبوا للأمة فرصة أن تنهض من رماد الهزائم لتقف على أقدامها، صلبةً شامخةً أمام عدوٍ ظنّ أن بقتلهم يُسكت الحق، فإذا بالدماء تصرخ أبلغ من كل بيان.

فلتكن وصيتنا لهم كما كانت وصيتهم لنا:

أن نحمل الراية من بعدهم، أن نصون دماءهم، أن نكمل الطريق دون وجلٍ أو تراجع.

فمن صدق الله، صدقه الله، ومن سار على درب الشهداء، فقد اختار الحياة التي لا تفنى.

اقرأ أيضا: كيف تعمل واشنطن والرياض على إبطاء التحول السياسي في اليمن؟

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى