ابن رشد: «الشارح الذي ملأ الدنيا»

ابن رشد: «الشارح الذي ملأ الدنيا»
- حسن الدولة
الاثنين 15 ديسمبر 2025-
إهداء
إلى الأصدقاء الأعزاء الذين استلهم منهم الكثير من المعرفة، واستوحيت منهم الفكر والحوار العميق:
القاضي عبدالعزيز البغدادي،
والدكتور شايف علي جار الله،
والمهندس عبدالغني ناجي،
تقديراً وامتناناً لما أغنوا به فكري ومعرفتي.
هذا مقال كتبته في 14 ديسمبر 2020، وقد أعاد تذكيري به اليوم إدارة فيسبوك، فوجدت نفسي مدفوعاً لإعادة نشره، لا من باب التكرار، بل من باب توضيح موقفٍ فكريٍّ التبس على بعض الأصدقاء. فقد كنت قد نشرت قبل شهر مقالا بعنوان (ابن رشد الذي تسلّق على أبي حامد الغزالي)، فظنّ بعض الأصدقاء – ومنهم القاضي عبدالعزيز البغدادي والدكتور شايف علي جار الله ، والمهندس عبدالغني ناجي – أنني أنتقص من مكانة ابن رشد، بينما كان الأمر على العكس تماماً.
لقد أردتُ التأكيد على أن جميع كتب ابن رشد، ولا سيما كتابه الشهير “تهافت التهافت” الذي ردّ فيه على كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة”، تمثّل قمّة في الفكر النقدي العقلاني. ومن المهم هنا التذكير بأن الغزالي نفسه لم يقل “تهافت الفلسفة”، لأنه كان فيلسوفاً محقّقاً، وإنما وجّه نقده إلى الفلاسفة في عشرين مسألة، وافقهم في سبع عشرة مسألة، واختلف معهم في ثلاث فقط، وهي: قدم العالم، والقول بأن الله لا يعلم إلا الكليات، وإنكار البعث الجسدي والقول بالبعث الروحي. كما أن الغزالي لم يُكفّر الفلاسفة برأيه الشخصي، بل استند في ذلك إلى آراء خصومهم من علماء الكلام، وبالأخص الأشاعرة.
ومما لا شك فيه أن ابن رشد يعد واحدا من أعظم العقول التي أنجبتها الحضارة الإسلامية، وقد لُقّب في الشرق والغرب بـ”الشارح”، لما بلغه من دقة وعمق في شرح فلسفة أرسطو، حتى قيل: “أرسطو قال، وابن رشد شرح”. نشأ في بيئة أندلسية علمية، فكان فقيهاً مالكيا، وقاضيا، وطبيبا، وفيلسوفا، جمع بين علوم الشريعة وعلوم الحكمة، ولم يرَ في ذلك أي تناقض. بل إن مشروعه الفكري كله قام على الدفاع عن العقل البرهاني، وردّ الاتهامات التي وُجِّهت إلى الفلسفة بأنها تُعارض الدين أو تُفسده.
وقد جاء دفاعه الأكبر في كتاب “تهافت التهافت”، حيث ردّ على الغزالي بالحجة والبرهان، لا بالتكفير ولا بالتجريح، مؤكداً أن الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين هو خلاف في مناهج الفهم، لا في أصل الإيمان. كما يحتل كتاب “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” مكانة مركزية في فكر ابن رشد، لأنه يمثّل البيان النظري الواضح لموقفه من العلاقة بين الدين والفلسفة، وهو في كل معظم كتبه يدور في ما كتبه حجة الاسلام ابو حامد الغزالي، ومنها كتاب “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة” وهو يدور حول ما كتبه الغزالي عن قانون التأويل.
وفي “فصل المقال” ينطلق ابن رشد من داخل النص الديني نفسه، لا من خارجه، ليبيّن أن الشرع دعا إلى النظر العقلي، وحثّ على التأمل في الموجودات بوصفها دلائل على الصانع. ويرى أن الفلسفة ليست سوى النظر في الموجودات من جهة دلالتها على الله تعالى، وأن كلما كانت المعرفة بصنعة الموجودات أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم. ويستدل على ذلك بآيات قرآنية كثيرة تدعو إلى استعمال القياس العقلي، أو الجمع بين القياس العقلي والشرعي معاً.
وإذا كان الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات، وكان الاعتبار هو استنباط المجهول من المعلوم، أي القياس، فإن هذا النظر – بحسب ابن رشد – يجب أن يكون نظرا برهانيا، وهو أتم أنواع النظر. ومن هنا يصل إلى نتيجة أساسية مفادها أن الدين نفسه قد دعا إلى الفلسفة، لأن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له، وأن البرهان الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع الشرع الصحيح.
ويرى ابن رشد أيضاً أن القياس العقلي لا يكتمل إلا بالاستعانة بأقوال من تقدّمنا من الأمم السابقة، سواء كانوا من أهل ديننا أم من غيرهم، لأن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها. غير أنه يشدد في الوقت نفسه على ضرورة تحكيم العقل فيما نأخذ عنهم: فما كان صوابا قبلناه، وما لم يكن كذلك نبّهنا عليه، وعذرنا قائليه.
ولتفادي التعارض الظاهري بين نتائج البرهان العقلي وظواهر النصوص الشرعية، يقرّر ابن رشد مبدأ التأويل وهو شرح لقانون التأويل للإمام ابي حامد الغزالي الذي صاغة في عدد قليل من الصفحات لكنه أعظم ما قيل عن الجمع بين العقل والنقل، وعدم الوقوف عند ظاهر النص دائماً، من غير أن يعني ذلك إلغاء الظاهر أو تجريده كلياً من معناه. ويؤكد أن كل ما ثبت بالبرهان وخالفه ظاهر الشرع، فإن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهي قضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن. كما يميّز بين مستويات الناس في الفهم، فيرى أن التأويلات البرهانية لا يجوز إذاعتها على الجمهور، لأن الخطاب الموجّه إليهم خطاب إقناعي، بينما الخطاب البرهاني خاص بمن امتلك أدواته.
ويخلص ابن رشد في نهاية المطاف إلى أن مقصود الشرع هو تعلّم العلم الحق والعمل الحق. فالعلم الحق هو معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه، ومعرفة السعادة والشقاء الأخرويين، أما العمل الحق فهو الالتزام بالأفعال التي تؤدي إلى السعادة واجتناب ما يؤدي إلى الشقاء. وتندرج تحت ذلك الأفعال الظاهرة التي يبحث فيها الفقه، والأفعال الباطنة النفسانية التي تبحث فيها علوم الزهد وعلوم الآخرة.
وهكذا يبيّن ابن رشد أن لا تعارض بين الدين والفلسفة، ولا خصومة بين الشريعة والحكمة، بل إنهما متلازمتان بالطبع، متحابتان بالجوهر، وأن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها، وهو المعنى الذي يؤكده في خاتمة «فصل المقال»، لتظل دعوته واحدة من أعمق الدعوات العقلانية في تاريخ الفكر الإسلامي.





