ثقافة وسياحةكتابات فكرية

اليوم العالمي للترجمة

اليوم العالمي للترجمة

  • إبراهيم عبدالمجيد

          في الثلاثين من سبتمبر/أيلول الماضي كان اليوم الدولي للترجمة، والذي مر عليان مرور الكرام ،  هناك أيام كثيرة في العالم تم اعتمادها تحظى باهتمام كبير. منها اليوم العالمي للكتاب، واليوم العالمي للقراءة، واليوم العالمي للتسامح، واليوم العالمي للطفولة، وغيرها كثير استقرت عليه منظمة اليونيسكو، وكل هذه الأيام يتم الاحتفال بها وتملأ التعليقات صفحات السوشيال ميديا بالحديث. من بينها للأسف يظل اليوم العالمي لحقوق الإنسان بلا يوم، أو ضائع بين الأيام. يكفي أن تنظر حولك لتعرف، فما يحدث في بلادننا مثلا من ضياع لهذه الحقوق، ليس منفصلا عن تأييد الدول الكبرى، للنظم التي لا حقوق للإنسان فيها، وهي الدول التي قطعت مراحل مهمة في حقوق الإنسان لأهلها.

دائما أتذكر ذلك حين أفكر في الكتابة عن أي يوم. سأحاول أن أنسى ذلك الآن، لا تحدث عن الترجمة وأهميتها.

عودة إلى التاريخ ستجد أن الدول القديمة حين توسعت في ما حولها بالغزو، أو التجارة التي كانت هي أبرز أنواع الاتصال، كانت مؤلفات مفكري وكتاب الدول الأخرى، رافدا مهما للدول الغازية أو الزائرة، وهكذا كانت الكتب من مباهج الغزو أو الزيارة، إلا في حالة التتار أو المغول. الأمثلة كثيرة على ما عرفه العرب من الفكر اليوناني في العصور العباسية، خاصة عصر المأمون، أو غير اليونان. الأمر نفسه حدث في أوروبا بعد سقوط الأندلس، وكيف عرفت أوروبا أفكارا مهمة لمفكرين مثل، ابن رشد كان لها تأثير في مفكريها، ناهيك عن الملاحم الأندلسية التي كان تأثيرها مثل تأثير ألف ليلة وليلة المقبلة من الشرق، بعد ترجمتها وعبورها من العالم العربي إلى العالم كله.

لو قفزنا إلى العصر الحديث في بلد مثل مصر، فسنجد أن البعثات التي أرسلها محمد علي وأبناؤه إلى فرنسا وأوروبا، عادت إلينا بفكر افتقدناه، عن التعليم والحريات. لم يكن ذلك نتيجة خبرات بالحياة في فرنسا فقط، لكن كان نتاج قراءة للكتابات الفرنسية وغيرها عن ذلك. لم يقتصر الأمر على الفكر فقط، لكن امتد ليشمل الفنون جميعا، وعلى رأسها فنون العمارة. نقل فنون العمارة عمل أشبه بالترجمة، وهو يتحقق في بلد آخر، ولا مانع أن تضاف إليه لمسة العمارة المحلية، إسلامية أو مسيحية في بلادنا. باختصار كانت الترجمة ولا تزال، بحثا عن الجمال الغائب في تجلياته المختلفة، من حريات وتعليم وتنظيم المدن، بما يتناسب مع موقعها الجغرافي وموقعها التاريخي، فلا مكان للعشوائيات إلا في عصور الانحطاط.

مسيرة ترجمة الأعمال الأجنبية في مصر والعالم العربي في العصر الحديث طويلة، لكنها لم تكن بالكثرة التي هي عليها الآن. كانت ترجمة أعمال من المسرح اليوناني القديم مثلا، في أواخر القرن التاسع عشر، أو بداية القرن العشرين عملا مبهرا. بعد ذلك صارت ترجمات المسرح عملا عظيما له تأثيره في حركة المسرح المصري، فليس كل الناس يقرأون بلغات أجنبية، وصارت كثافة الترجمة كبيرة حين صارت لدينا سلسلة شهرية مثل «روائع المسرح العالمي»، أو «مسرحيات عالمية» امتدت من مصر إلى الكويت أيضا. التطور والتجديد الذي حدث في المسرح لم يأتِ من فراغ، لكن من متابعة الحركة المسرحية في العالم وإصداراتها. لا شك أن التطور في المسرح كان أسهل من السينما، لأن السينما لا تقف عند ترجمة السيناريوهات، وهو عمل قليل جدا، لكن لا بد من الرؤية، ورغم الرقابة على الأفلام التي لا تنقطع، كان للسينما العالمية دورها في تطوير السينما المصرية، ومن ثم العربية في ما بعد. الآن لدينا شلال من الكتب التي تتم ترجمتها، خاصة في الرواية والفكر النقدي والفلسفي، قليلا ما يحدث في الشعر للأسف. وهناك دور نشر كثيرة تعمل على ذلك في إصدارتها يطول ذكرها، وكذلك كتّاب يطول ذكرهم، وهو أمر طيب بلا شك. لكن كثيرا ما يطال الترجمة شيء من النقد، مثل أن هذه الرواية أو هذا الكتاب تمت ترجمته من قبل، فلماذا تُعاد ترجمته. هو سؤال يبدو منطقيا، لكنني لا أقف عنده لأسباب بسيطة، أنك لا تعرف كيف أخذ العمل بروح المترجم، فقرر أن يترجمه بنفسه. هناك مثلا ترجمتان لـ»مئة عام من العزلة» إحداهما لصالح علماني، والأخرى لسليمان العطار. صالح علماني قام بدور عظيم في ترجمة الأدب الإسباني، وسليمان العطار أستاذ في الدراسات الأندلسية، كان يوما مستشار ثقافيا في إسبانيا، ومؤكد خطفته الرواية.

الأمثلة كثيرة منها ترجمات لدوستويفسكي من أكثر من مترجم، بعد أن ترجم سامي الدروبي كل أعماله تقريبا. هناك من يقف عند هذه الأسئلة، ويجيب عليها أن الترجمات الثانية جاءت عن اللغة الأصلية وليست لغة أخرى وهكذا. لكن في الحقيقة أن الأسئلة من هذا النوع يجب عدم الوقوف عندها، فحتى لو تعدددت الترجمات فالقارئ حر في اختياره. السوشيال ميديا تزيد من هذه الأسئلة، فهي مجال مفتوح للجد والفراغ أكثر. ورغم أني لا أعتبر نفسي من المترجمين، فقد حدث معي شيء من ذلك، حين ترجمت كتاب «رسائل من مصر» للوسي دوف جوردون. صحيح أني كتبت في حياتي عشرات المقالات عروضا لكتب أجنبية قرأتها بالإنكليزية، لكنني ابتعدت عن الترجمة التي كان يمكن أن تخطفني من كتابة القصة والرواية، ولم أحب ذلك. حين ترجمت كتاب «مذكرات عبد أمريكي» لفريدريك دوغلاس، كان ذلك نتيجة لحوار مع الكاتبة رضوى عاشور التي سألتني لماذا لا تترجم ما تكتب عنه. قلت لها الرواية تأخذني عن كل شيء. قالت لي ترجم أي شيء حين تبعد عنك الرواية، واقترحت عليّ الكتاب الذي قالت لي أن لديها نسخة منه، أهدتني أياها. بعد أكثر من ثلاثين سنة حين ترجمت كتاب «رسائل من مصر» كنت انتهيت من كتابة رواية وأشعر بالفراغ حولي كالعادة، فاقترحت عليّ الصديقة سالي سليمان الناشطة السياحية، أن أترجم كتاب لوسي دوف جوردون خلال هذا الفراغ. ما إن أعلنت ذلك حتى شهدت السوشيال ميديا السؤال المكرر عن لماذا ترجمة كتاب تمت ترجمته، وضربوا مثلا بكتاب أحمد خاكي الذي يحمل العنوان نفسه. أتيت بكتاب أحمد خاكي فوجدته دراسة لكتاب لوسي جوف جوردون، وإن حمل العنوان نفسه، وما فيه من رسائل لا يزيد عن خمس عشرة رسالة. كذلك عرفت بكتاب آخر يحمل العنوان نفسه لماجد محمد فتحي، ووجدت الرسائل المترجمة فيه لا تزيد عن أربعين. رسائل دوف جوردون أكثر من مئة وثلاثين رسالة، بما فيها الرسائل التي لم تنشرها ابنتها لما فيها من حديث عن العاهرات في ذلك الزمن، لكن نشرها حفيدها في عشرينيات القرن العشرين كاملة، فأحضرت كتاب حفيدها من لندن عن طريق الصديقة الصحافية مديحة زكي، وترجمت كل الرسائل وأوضحت ذلك وانتهى الأمر، بل وكتبته في مقدمة الكتاب. لكن يظل السؤال يتردد مع الآخرين دون اعتبار لمشاعر المترجم ورؤيته التي يشعر بأنها تختلف عن غيره. الأهم من ذلك كله أنه رغم فيض الترجمة ينقصنا الكثير جدا من الأعمال، وعلى الناحية الأخرى ينقصنا الفيض المضاد من ترجمة الأدب العربي بالكثافة نفسها إلى اللغات الأجنبية، فلا يتوقف الأمر عند الجوائز وحائزيها. في النهاية من خلال خبرتي أرى عنوان «الجميلات الأجنبيات» الذي عرفته في فرنسا في أحد معارض الكتب عن الترجمة، هو أجمل عنوان. فالكتاب الأجنبي هو الجميلة التي تستدعيها إلى لغتك. كيف تستدعيها وعند أي شيء تقف من جمالها. هنا تختلف لغات المترجمين بين مترجم وآخر، ويظل للقارئ أن يختار هو الجميلة التي يقع في غرامها، سواء بمعرفته بجهد المترجم من قبل، أو بمعرفته بالعمل المترجم أيضا من قبل، أو بعد قراءة عدة صفحات يقرر أن يستمر في العشق، أو يخرج إلى جميلة أخرى استحضرها مترجم آخر. وفي النهاية التحية واجبة لكل المترجمين الذين حقيقة يستحقون مكانا أجمل في الثقافة العربية.

كاتب مصري _ عن القدس العربي

اقرأ أيضا:يوميات البحث عن الحرية .. في أهم متطلبات الوحدة الوطنية في الحرب والسلم!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى