اخبار محليةنافذة على كتاب

حسن الدولة يقدم قراءة معمقة عن فكر الأستاذ الكبير القاسم بن علي الوزير بعنوان المفكرون الأفذاذ يولدون بعد رحيلهم

حسن الدولة يقدم قراءة معمقة عن فكر الأستاذ الكبير القاسم بن علي الوزير بعنوان المفكرون الأفذاذ يولدون بعد رحيلهم

 كتب الأستاذ والمفكر حسن الدولة قراءة بعنوان المفكرون الأفذاذ يولدون بعد رحيلهم، وهي عبارة عن قراءة معمقة في فكر الأستاذ الراحل المفكر الكبير القاسم بن علي الوزير،والذي رحل عن دنيانا في شهر مايو الماضي ، تاركا خلفه إرثا لا يقدر بثمن من كتب سياسية واجتماعية ، ودواوين شعرية ومحاضرات فكرية وسياسية واجتماعية ، كتب ذلك في مجلة المسار الصادرة عن مركز التراث والبحوث اليمني ، العدد الـ74 .

موقع صوت الشورى ولأهمية تلك القراءة يعيد نشره خلال الأسطر القادمة.

الاستاذ حسن الدولة

 المفكرون الأفذاذ يولدون بعد رحيلهم..قراءة في فكر القاسم بن علي الوزير

 أ. حسن حمود الدولة

في يوم الاثنين 12/11/1445 هجرية/20 مايو 2024م، انطفأ نور جسد القاسم، ورحل عنا جسداً، ليبقى ضياء ونور فكره حياً متقداً متألقاً في سماء الفكر المتجدد. فقد توارى شكلاً وهيئةً وجسداً، معلناً استمرار القاسم: الفكر والروح والسمعة العطرة، فكره الحي الإبداعي الخلاق، ذلك الفكر الذي جسده ومثله في حياته قولاً وعملاً. فقد كان الراحل من أولئك المفكرين الذين يولدون بعد رحيلهم، فقد كان الفقيد بحق مفكراً إسلامياً كبيراً، بذل حياته في خدمة الفكر والتجديد وفق النظرية الحديثة للفكر الحضاري “الأبستمولوجي” والدعوة إلى الفكر الإسلامي المستنير منظراً ومجادلاً ومحاضراً ومرشداً.

لقد رحل عن دنيانا القاسم بصمت الزهاد، وورع الأولياء، وصبر المتقين، وهدوء الحكماء، وعظمة المجاهدين الجسورين. مات في بلاد هو غريب عنها، ودفن في تربة غير تربة وطنه الذي أفنى جل حياته من أجل أن ينشد لأمته الخير، والسعادة والرفاهية والعيش الكريم، والتقدم والتطور، وتحقيق العدل والمساواة والحرية في ظل حكم شوروي ديمقراطي. جاهد مع إخوانه ورفاقهم ممن سار على درب الرعيل الأول.

فـالقاسم-طيب الله ثراه- كان بحق واحداً من عظماء التاريخ الذين وهبوا أنفسهم لخدمة أمتهم، ورسموا الدرب أمام الأجيال القادمة. كما أن كتاباته تتسم بالسلاسة واليسر، إذ ينطلق من محيطه الإنساني الخاص ليخاطب الجميع بلغة بسيطة وعميقة في آن. فهو مختلف وجامح في نصوصه، مدافع بشغف عن الحقيقة والوطنية، فهو بحق من الشخصيات البارزة والمؤثرة في الساحة الثقافية والفكرية على المستويين اليمني والعربي. وكلماته ستظل خالدة، تستلهم منها الأجيال المتعاقبة الفكر والمعرفة.

وكان سلوكه -رحمة الله تغشاه- سلوك العباقرة الأفذاذ الذين لا يريدون أن يتركوا إلا سلوكهم وفكرهم الحي. وقد اعتبر أستاذنا العلامة شقيق فقيدنا، مد الله بعمره، أن عزوف القاسم عن الظهور، وحرصه على عدم طبع إنتاجه الفكري، آفة الفقيد. ونحن هنا لا نوافق على هذا الوصف، بل نعتبر أن ذلك الهروب من الأضواء سمة من سمات المفكرين الأفذاذ. ألم يطلب المهاتما غاندي من أتباعه حرق كتبه وخطبه، وكذلك فعل أبو حيان التوحيدي الذي أحرق كتبه، وفعل مثلهما العشرات من عباقرة التاريخ، ومع ذلك فقد خلدهم التاريخ. فلنشمر سواعدنا لنتبع منهج هذا المفكر الذي حرص أن يكون بعيداً عن الأضواء، عازفاً عن طباعة أعماله، مقتدياً بـغاندي وأبي حيان التوحيدي.

قال القاسم في مرثاته التي رثى بها أستاذه أحمد الشامي، تحت عنوان “الإطار العام للصورة”:(وذلك لأن الإطار يفنى ليبقى المعنى الذي كان يمثله ذلك الإطار): “فرغ من دنياه، ولكنها لن تفرغ منه، ونفض يديه من غبار الحياة وتبرها، ولكنها لن تنفض منه يداً، ولا فكراً ولا أثراً. لقد خرج من الدنيا ليلج البقاء، وطواه القبر لينشره الخلود”. وهي فقرة تنطبق على القاسم نفسه.

وبذلك، فإن فقيدنا القاسم قد حجز لنفسه مكانة رفيعة كفيلة بأن يضاف اسمه في سجل الخالدين، فسجله حافل بالكثير من النقاط المضيئة، ففي النضال مكتوب اسمه مع تلك الكوكبة المضيئة من شهداء الثورة الدستورية الذين ظل وفياً لتراثهم النضالي منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين وحتى تاريخ وفاته. في الأدب كان شاعراً كبيراً يقف جنباً إلى جنب مع أبي القاسم الشابي في عذوبة شعره الوطني، وبدوي الجبل في رقة معانيه – حسب شقيقه علامتنا المجتهد زيد، مد الله بعمره– مضيفاً:إن النقاد العرب الذين تناولوا شعره نقداً وتحليلاً، يشهدون له بذلك. فهو شاعر هذا البيت (آل الوزير) بشهادة الأستاذ زيد، كما أنه في الفكر العربي الحديث مجدد لفكر صديقه مالك بن نبي. وتأثر بمفكري عصر النهضة الإمام المجدد جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام محمد عبده، وطه حسين، وزكي نجيب محمود.

صلته الفكرية بالمفكر الجزائري مالك بن نبي

إلا أن تأثره بفكر صديقه المفكر الجزائري مالك بن نبي كان له الأثر الأبرز في فكره، فصار بذلك أحد أبناء رواد النهضة العربية بجدارة. فقد لازم المفكر الجزائري مالك بن نبي سنوات، وربطتهما علاقة صداقة قوية. كان يحرص الفقيد أن يحضر كل محاضرات بن نبي ولقاءاته التي كان يعقدها في منزله بالقاهرة، وهي أخصب فترة تطور فيها فكر مالك بن نبي. ويتجلى لنا ذلك التأثير بكل وضوح في كتاب الفقيد موضوع هذه الإطلالة، الموسوم بـ: “حرث في حقول المعرفة”. والمفكران القاسم ومالك بن نبي تقاربا دون أن يتوحدا، وتماهيا دون أن ينصهرا. سعى كل منهما إلى تأصيل شروط النهضة، وطبق كل منهما نظرية الفيلسوف البريطاني توينبي، الخاصة بالاستجابة للتحدي. كل لمح في مجتمعه الخلل، وأن التخلف يعود برأيهما إلى سببين: داخلي، وخارجي.. الأول الاستبداد وتخلف الحكام الذين فرضوا أنفسهم حكاماً على الشعوب، والثاني القابلية للاستعمار حسب مالك بن نبي. ولن يجانبني الصواب إذا ما قلت إن القاسم بن علي الوزير يقف جنباً إلى جنب مالك بن نبي كمفكرين يتكاملان، وأنهما بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأنهما من أبرز المفكرين العرب الذين عنوا بالفكر الحضاري. ومع أنهما قد تمثلا فلسفات الحضارة الحديثة تمثلاً عميقاً، واستلهما في أحيان كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين، فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذهما الأول، وملهمهما الأكبر في علم العمران.

هكذا كان الفقيد، بالإضافة إلى تنوع مصادر معرفته، قد اطلع على الفكر الفلسفي بشتى مشاربه الوضعية والتحليلية والمادية، مطلعا على الفكر الإسلامي والتراث العربي المعاصر وقضاياه. يضيف الأستاذ زيد -حفظه الله- أن مفكرنا القاسم كان له اطلاع واسع على فكر عمالقة الفكر والأدب قديماً وحديثاً، كفكر المعتزلة وفلاسفة الإسلام، بالإضافة إلى أنه كان موسوعياً في مجال الأدب. وهو من الذين تأثروا برواد الإصلاح كـ: الإمام محمد أبو زهرة والرافعي وعباس العقاد وأحمد الزيات، إلى درجة لو جمع الأربعة لكان القاسم بن علي الوزير خير تمثيل لهم.

القاسم وإخوته على خطى الأحرار ورواد النهضة العربية

إن القاسم من أولئك المفكرين الذين يولدون بعد موتهم، تخلدهم أعمالهم، وتظل نبراساً تسترشد بها الأجيال. فحياته النضالية والفكرية في هذا المنحى المتشكل من علامات الخلق والإبداع والتواضع والعلم والرزانة، كما أن حياته الغنية بالعطاء والنضال والمثابرة في ظل ظروف رافقتها عواصف هائجة، بدلت حياته وحياة إخوته من حياة الرفاهية إلى حياة الغربة والشقاء والتعب وشظف العيش. تبدلت حياتهم من اليسر إلى العسر، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن حياة القصور إلى الغرف المظلمة والسجون. يصف لنا المناضل الراحل الأستاذ محمد عبد الله الفسيل عند زيارته لأخي الفقيد الراحل الأستاذ إبراهيم -رحمه الله- في القاهرة، فيقول: “لقيت إبراهيم في القاهرة يأكل الجوع، ويقتات الظمأ فعلاً بدون مبالغة. كان يقضي اليوم كاملاً بدون أن يذوق لقمة واحدة، حتى إذا دجى الليل قام واهناً ضعيفاً إلى سلة براميل الزبالات يفتش لعله يجد كسرة خبز أو كسرة عظم يقيم بها أوده”. فإذا كانت هذه هيحياة الراعي لإخوته، فعلينا أن نتخيل كيف كان حال بقية إخوته.

لقد قضى الراحل مع أشقائه حياتهم في نضال مستمر دونما كلل أو ملل أو من أو ادعاء، منذ سقوط الثورة الدستورية عام 1467هـ/1948م. وقد وصف بعضاً من هذا الجهاد علامتنا الأستاذ زيد،إذ يقول: “فلم تتوقف خطانا مع من سبقنا من الأحبة، ولم نغير من اتجاهنا الدستوري قط، حاملين إرث الثورة العظيم بلا كلل ولا ملل، رغم الترغيب والترهيب، ورغم التهديدات، والمنافي، والسجون، إلا أننا لم نهادن ولم نساير، بل سرنا في درب واحد لم تلتوِ فيه أقدامنا، ولم نغير اتجاهنا، وكان ذلك كله من أجل أن ننشد لأمتنا الخير والتطور، والحكم الرشيد” [تقديم كتاب “حرث في حقول المعرفة”].

لقد كان القاسم مناضلاً استثنائياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إنه من ذلك الرعيل الذين حفروا بصماتهم في حقول المعرفة الحديثة في مجالات الفكر السياسي والاجتماعي والأدبي. كما سيتبين ذلك فيما بعد من هذه الإطلالة التي سنثبت فيها تميز القاسم، وأنه كان مبرزاً في كل تلك المجالات وحقول معرفية شتى، كواحد من المفكرين الكبار الذين حملوا على عاتقهم مواصلة رسالة الآباء. فقد كان ومعه أشقاؤه العباس وإبراهيم ومحمد، ومن قبلهم المجاهد عبد الله، رضوان الله عليهم، ولايزال علامتنا المفكر الكبير زيد، مد الله بعمره، يسير على نفس الدرب الذي سار عليه أشقاؤه، درب طلائع أحرار اليمنيين يحرث كأخيه القاسم في حقول المعرفة.

وفي هذا الصدد، فإننا نعتبر أولاد الشهيد علي بن عبد الله الوزير، من أعظم النعم التي أنعم الله بها على بلدنا. فهم أكثر المفكرين اليمنيين المعاصرين إيماناً بالحرية والعدالة والمساواة، تطلعوا لبناء دولة تكفل تحقيق تلك المبادئ إلى أقصى مدى، فقد استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ اليمني، ويشهد بذلك تراث المفكر الراحل الأستاذ إبراهيم، طيب الله ثراه، وكذلك علامتنا المجتهد الأستاذ زيد الذي رفد المكتبة اليمنية بعشرات الكتب في التاريخ والفكر الزيدي والدولة المدنية والفكر السياسي.

نعم، إن مفكرنا القاسم وإخوته من أولئك الأفذاذ الذين يولدون بعد موتهم، الذين يغادرون مكانهم، فما يلبثون في غيابهم إلا قليلاً ليعودوا يملؤونه في زمن لاحق بحضور أكثر سطوعاً وبهاء. ذلك لأنهم، حسب الفقيد -في مرثاته النثرية لأخيه إبراهيم- “يبقون أفكاراً لا تغيب، ونماذج لا يتصل لها لون، وقدوة للعمل الصالح، ومصدراً للإلهام المستمر، وأمثلة حية للقيم الأخلاقية التي لا تبلى؛ فهي بهم دائماً تتجدد، وهم بها أبداً حاضرون”.

فـالقاسم وإخوته قد وهبوا حياتهم للنضال من أجل أن تنعم أمتهم بالرفاهية والحرية والعدل والمساواة والحق والخير والجمال، من أجل وطن تفوح في أرجائه نسمات الحرية. فقد ظل يدعو إلى كل ما يحرر الإنسان من كل قدر آسر، ومن قيود وأغلال الماضي بكل أشكالها، وما يطلق طاقاته للاكتشاف والخلق والإبداع، وإلى خلق جيل متحرر رسم له الطريق التي سيسير على خطاها. فقد ترك لنا فكراً يعنى ببناء دولة مدنية تضمن وحدة اليمن أرضاً وإنساناً، وليس فكراً سياسياً لموقف سياسي سرعان ما ينقضي بانقضاء ذاك الموقف، حسب مفكرنا القاسم في توطئته لكتابه الموسوم “حرث في حقول المعرفة”. فهو يقول عن تلك المحاضرات والأبحاث رغم مرور أكثر من عقد من الزمان على كتابتها، إنه لم يجد حاجة إلى تعديل في رأي أو تغيير في موقف، وإنه لواقف منها نفس الموقف يوم ميلادها، لأنها وجهة فكرية قائمة على منهج مستفاد من مصادر علوم معاصرة ضاربة أطنابها في أعماق الفكر الحي، فلا جرم ستظل صالحة للنظر ما احتاج الواقع للتغيير.

قراءة في “حرث في حقول المعرفة”

من يطلع على ما محتوى كتاب المفكر وعالم الاجتماع القاسم، سيقف أمام مفكر ملم بالفكر الإسلامي المستنير، والتراث العربي المعاصر، مستوعباً فكر عصر النهضة الأوروبي ومساره، ومطلعاً على مضمون الفكر الماركسي والعولمة والعالمية. كما يتبين أنه كان مجدداً ومطوراً لفكر مالك بن نبي، مستوعباً لفكر رائدي النهضة الإسلامية المعاصرة جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام محمد عبده. يلاحظ القارئ ذلك في محتويات هذا الأثر العظيم قليل الصفحات، جم الفائدة، وهي:

1. الموقف من الحضارة الغربية.

2. مراجعات وتأملات فكرية في مفترق قرنين.

3. أولويات للنهضة العربية.

4. أفكار حول الإصلاح والتغيير في البلاد العربية.

5. عوامل الانقسام والتجزئة في الأمة والمجتمع.

6. أسباب العنف في المجتمع.

7. جرائر الديكتاتورية.. العراق نموذجا.

8. الفقه في غفوة والعقل في إجازة.

9. نقاش حول الموقف من الحضارة العربية.

10. تنوع الملامح الفكرية والرؤى وواحدية المنهج.

وما يُميّز هذه الأبحاث والمحاضرات هو تنوع الرؤى والمقاربات التي تناولت جوانب عديدة في حقول المعرفة، سواء من الناحية الفكرية أو الاجتماعية أو التاريخية أو الاقتصادية. فقد كان الأستاذ القاسم ينظر إلى هذه القضايا بمنظور شمولي، مستفيداً من المعارف والمناهج المختلفة كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة وعلم التاريخ.

مضمون أي موضوع من المواضيع أعلاه يشهد لـلقاسم بأنه من تلاميذ رواد علم الاجتماع، تناول قضايا فكرية واجتماعية حيوية في كل موضوع، وكل منها مرتبط بواقع المجتمع وقضايا النهضة وشروط تحققها، تناول فيها جوانبها المختلفة، وقد وحد بين أطرافها -حسب القاسم طيب الله ثراه- المضمون من ناحية، ومن ناحية أخرى المنهج الذي توخى فيه الأصول المعرفية، والتركيز على معطيات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة وعلم التاريخ، ابتغاء امتلاك أداة تحليل وتقويم، توحد المختلف في مؤتلف يحمي جوهرها الواحد. نعم، كما أسلفنا القول، تعتبر أبحاثاً مرتبطة بشكل وثيق بقضية النهضة التي كانت محط اهتمام الراحل طيب الله ثراه، وتفكيره منذ أكثر من نصف قرن وحتى وقتنا الحاضر.

وهذا التكامل والترابط بين مختلف جوانب المواضيع التي تناولها القاسم في “حرث في حقول المعرفة”، يجعل من هذه الأبحاث والمحاضرات بمثابة فصول من كتاب موحد حول قضية النهضة والتطور المجتمعي. وهذا ما يجعلها ذات أهمية كبيرة في الحقل الثقافي والفكري؛ لما قدمته وتُقدمه من رؤى وتحليلات معمقة لقضايا جوهرية تؤثر في حياتنا اليومية.

تفكيك عتبة الأثر: “حرث في حقول المعرفة”

ومن خلال تفكيك العتبة، ابتداءً من مادة “حرث”: الحارث والحراثة: العمل في الأرض رعياً أو غرساً كان، وحرث يحرث حرثاً فهو حارث، والحرث قذفك للنواة لتنبت، والحرث هو الزرع، والحراث هو الزارع. فإذن، نحن أمام عمل فكري جديد يتم استنباته في حقول المعرفة الخصبة القابلة للإنبات، ولسنا بصدد تقليد أو استيراد فكر من الخارج. فيتبين لنا أن القاسم قصد أن الفكر لا ينبت إلا بالحرث في الحقول الخصبة القابلة للفلاحة والحرث لجني محصول الزراعة المعرفية في العقول. كما لا بد من أن نشحذ العقول بالذكاء والتطبيق. فالقوة ليست في القراءة فقط، إنما في إحسان توظيفها ضمن الجهاز الفكري حالياً. وليس شرطاً أن نقرأ ما قرأ القاسم بن علي الوزير من نصوص تراثية أم غربية، بل يجب أن نأخذ منه المنهج الذي اختطه لنا، بأن نستوعب الفكر الوافد، ونعمل على تبيئته من جديد، كما عمل المعتزلة مع فلسفة اليونان والمنطق الصوري، والمطرفية مع علوم الطبيعة التي استلهموها من علوم الأوائل، فطوروا بها الفكر الإسلامي. فـالقاسم يفتح لنا دروباً أخرى في القراءة، وإنتاج المعارف. كما يدعونا أن نقرأ التراث الحي، ويحثنا على الاجتهاد، وأن نقرأ من عمق الفلسفة والعلوم الاجتماعية والرموز الأدبية في شتى حقول المعرفة، ثم نقوم بفحصها وتَبَيُّن صلاحيتها للحرث والفلاحة، انطلاقاً من الإشكالات التي يمر بها واقعنا. وهذا هو سر الحرث في تلك الحقول المعرفية، فعندما يكون الحرث في أرض خصبة، تكون الثمرة جديدة ومفيدة تأتي نتيجة تطبيق معنى الحرث -كما هي في عنوان الأثر موضوع هذا التناول- من وجهة نظرنا فإننا أمام نظرية متكاملة قائمة بحد ذاتها.

وغني عن البيان أننا كي نفلح في زراعة المعرفة في حقولها، أن تلك الحقول كامنة في العقول. ولا بد من أن نشحذ العقول بالذكاء والتطبيق. فالقوة ليست في القراءة فقط، إنما في إحسان توظيفها ضمن الجهاز الفكري حالياً.

وبالتالي فإن مفكرنا القاسم لا يدعونا إلى التهام وجبات جاهزة من المعارف، فنصاب بغربة الزمان بالنسبة للتراث، أو غربة المكان بالنسبة للفكر الغربي المعاصر، بل يدعونا أن نعمل على تبيئة الفكرين -التراث وثقافة العصر- لنمتلك زمام الأصالة والمعاصرة معاً، وذلك من خلال الحرث في حقول معارف السلف والفكر المعاصر الذي أثبت العلم من خلال التجريب نجاحها. ولهذا فالحضارة عند القاسم لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن الحضارة إبداع، وليست تقليداً أو استسلاماً وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى. وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن القاسم أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع الفاعلية والعطاء والإنتاج. لأن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها، وسيكون من السخف والسخرية حتماً أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها.

فمفكرنا القاسم يدعونا في جل محاضراته وكتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوروبي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها.

مفهوم الحضارة عند قاسم الوزير

ينبني مفهوم الحضارة عند القاسم على اعتقاده الراسخ بأن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. وانطلاقاً من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة فقه حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها، حاول القاسم إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”

 (حرث في حقول المعرفة، ص134).

ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند القاسم شديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه. وبالتالي فلا بد من فهم عميق، وفقه حضاري نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية لـسنن وقوانين اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: “إن الإنسان هو البداية، وهو كذلك الوسيلة لأي تغيير. إنه وسيلة الحضارة وهدفها معاً، كما أنه أداة التحليل وموضوعه. والثقافة -بذلك المعنى- هي الأساس أو الوسيلة لتفجير طاقة هذا الإنسان، وإطلاق ملكاته، وقدرته، وتحديد وجهته، وليس من حيث هو فرد فحسب، ولكن من حيث هو مجتمع”. أي أن الثقافة عند القاسم هي أداة الحضارة والتغيير.

(المرجع السابق، ص89).

إطلالة على موضوعات “حرث في حقول المعرفة”

فالفكر الحي هو ذلك القابل لبعث الحياة، وهو القابل للتوليد عن طريق الحراثة. فكما أن الحقول تنتج لنا الورود، فإن العواصف والثلوج تطيح بالورود وتدفنها، ولكنها لا تستطيع انتزاع ما في قلب الأرض وقلب البذور من عشق أصيل متبادل يؤدي إلى التفتح والعطاء. وهكذا تلبس الأرض حلتها السندسية بالحرث والفلاحة، وتنضج بذور الأرض من قبور الشتاء في بعث الربيع البديع والحركة النامية. وهكذا هي بذور المعرفة كالوردة التي ترمز إلى الفكر الحي، والعاصفة ترمز إلى الجدب أو التقاليد التي تعوق الفكر من التطور والنمو، والجليد يرمز إلى القيود والأغلال والأسر التي تعرقل موكب الإنسانية من الوصول إلى التقدم والنهوض.

ومفكرنا القاسم قد نبه النخبة السياسية إلى أن تعتمد في معالجة قضايا الأمة على فهم الواقع، وأي إصلاح أو تغيير يجب أن ينطلق من الأرض التي يعيشون فيها. وهو يرى أن معوقات بناء الحضارة تكمن في استكانة الشعوب العربية للحكم الفرد المستبد، ويدعو إلى استقلال الفكر وعدم استيراد الفكر، لأن ذلك يعني التفكير بعقلية الآخر، والذوبان فيه دون التفريق بين هويتنا وهويته. أو بلغة مفكرنا القاسم بن علي الوزير أن نقوم بأنفسنا باستنبات المعرفة عن طريق الحرث في حقولها الخصبة.

ومن أهم ما دعا إليه الفقيد القاسم بن علي المسلمين، أن يعيشوا بعقلية الزمن الحاضر لا بعقلية الماضي، وهو أحد شروط النهضة كما جاء في كتاب “حرث في حقول المعرفة”: “وهي بناء الإنسان، والمحافظة على المكان، وإعطاء قيمة للزمن”. وفقيدنا القاسم ينطلق من موقفه تجاه الحضارة المعاصرة “من موقف المشاركة الإيجابية في إنجازاتها العامة، وموقف الاستفادة والإفادة، ثم موقف التقييم والتقويم الذي يعالج أمراضها، ويصحح انحرافها، ويرد إليها الجانب المفقود لإنقاذها إن استطاع..”

(حرث في حقول المعرفة، الموقف من الحضارة الغربية، ص28).

وقد انطلق مفكرنا القاسم بن علي الوزير في الاسترشاد بالتراث والانطلاق منه للاستفادة والإفادة من الفكر المعاصر، من فكرة محورية وردت في كتاب شروط النهضة لـمالك بن نبي، مفادها أن نهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده. وعلى هذا فإن إعادة بناء المجتمع المسلم الحديث لا بد أن تنطلق من الفكرة الدينية كأساس لأي تغيير اجتماعي. لهذا كانت الآية الكريمة:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: 11)، نقطة ارتكاز مهمة في منظومته الفكرية.

ومفكرنا القاسم قد ركز فكره على حاجة الأمة إلى الإصلاح لمنظومة البناء الفكري الشامل في كل الحقول المعرفية، مشيراً إلى تباين وجهات نظر علماء كل حقل، فيقول: “لو سألنا عالم الاجتماع عن أولية البدء، لقال: الإصلاح الاجتماعي.. إصلاح حال المجتمع، لأنه لو صلح لصلحت الجوانب الأخرى. ولكن عالم الاقتصاد سيقول: الإصلاح الاقتصادي أولاً هو الأساس، لأن على أساسه تقوم الحياة الاجتماعية. أما عالم السياسة فسيؤكد أن إصلاح الوضع السياسي هو المدخل العملي لأي إصلاح، لأنها هي التي تنظم العلاقات بالقانون، بين القوى المختلفة، وتحقق النظام للحرية التي يتمكن بها المجتمع من إصلاح جوانبه المختلفة… إلخ”. ويضيف قائلاً: “على أن صوتاً آخر عميق المصدر -والكلام لايزال للفقيد القاسم- سيردد: الثقافة هي البداية الطبيعية، لأن مجتمعاً لا ثقافة له لا وجهة له”

(المرجع نفسه، أفكار حول الإصلاح والتغيير، ص98).

إذن، فنحن -حسب القاسم- بحاجة إلى إصلاح شامل “أي بحاجة إلى نهضة تتجدد بها قوانا، وتكفل بها حقوق إنسانيتنا، وتنطلق بها قدراتنا، وتزدهر بها إبداعاتنا، وتتم بها إسهاماتنا الحضارية والمسيرة الإنسانية، نستأنف بها دورتنا الحضارية، ونبلغ رسالتنا في العالم”. ومن هذا المنطلق يؤكد أن لا إصلاح يتم بدون تغيير.فمفكرنا القاسم يرى الحضارة عبارة عن صيرورة متواصلة، ذات دورة طبيعية كغيرها من الظواهر الطبيعية. إذا غربت من أفق أشرقت من أفق آخر. فالإنسان يبدع الحضارة، ولكن الحضارة هي التي تكيف حياة الإنسان والمجتمع، وفلسفة كل حضارة هي التي تعطي وجهتها أو رسالتها في التاريخ، وثقافتها هي التي تمنحها وسطها الذي تنشأ فيه، وطابعها الذي تتميز به”

(المرجع السابق، ص28).

إذن، فهذا هو الموقف الإيجابي من الحضارة الغربية، كما أنه يوجز كل أسباب الانقسام في المجتمعات العربية، إلى سبب رئيسي تفرعت عنه الأسباب والعوامل كلها، أو بحسب شقيقه العلامة الأستاذ زيد مؤلف الفردية: الفردية. ويزيد القاسم ذلك وضوحاً، فينبه طغاة العصر إلى أنالاستبداد يصادر الحريات.. فيستثير المقاومة.ويلغي العدل، فيستثير المظلومين.ويقضي على المساواة، فيثأر المهضومون.ويثير الفرقة، فتشب الصراعات.ويضيق العقل، فتنشب الصراعات.ويحارب العلم، فتسود الجهالة. ومع الجهالة، تتمزق عرى المجتمع، وتتهاوى قيم الحضارة، وتستيقظ الفتن التي هي وقود الانقسام داخل أي مجتمع.

(عوامل الانقسام والتجزئة في الأمة والمجتمع، ص115).

شخصية وذهنية مفكرنا القاسم

وبعد أن تناول في دراسته القسم الموسوم بـ: “مراجعات تأملية فكرية”، أسباب تخلف الأمة العربية والإسلامية بسبب القابلية للاستعمار، أو بتعبير علي شريعتي القابلية للاستحمار، بدلاً من النهضة والتحرر، وسيادة روح القطرية وغياب الحرية أيضاً، وتغول الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية، والاعتماد على أجهزة الاستخبارات وقوى القمع التي تسعى إلى تصفية الفكر وإخماد العقل، وانحسار تيار التجديد والتحديث والاجتهاد، بل وتيار التغريب -على نحو ما- بحيث لم يبقَ منه إلا دعوى العلمانية المفترى عليها. ونضع المفترى عليها بين معكوفتين للدلالة على مدى عمق تفكير القاسم بن علي الوزير وفهمه لمعنى نظام الحكم المدني، حيث يقول في حوار مع صحيفة “الشورى” اليمنية العدد (338)، استل منه شقيقه العلامة الأستاذ زيد الموضوع المتعلق بموضوع: “الفقه في غفوة والعقل في إجازة”.

إن شخصية وذهنية المفكر الإسلامي القاسم بن علي الوزير: شخصية وذهنية إسلامية صافية، لا علاقة لها بما حدث بعد معركة صفين، كما أكد مالك في مشروعه الإسلامي لفلسفة التاريخ. وهو على هذا الأساس مفكر لكل المسلمين، احتفل به الجميع، واستلهم منهجه وتفكيره عدد ملحوظ من علماء ومفكري المسلمين في القرن العشرين، ومن أطياف إسلامية مختلفة. وهذا شاهد إجماع إسلامي على منهج وفكر مالك بن نبي طيب الله ثراه.

القاسم من وجهة نظر تلامذته

ومما سبق يعتقد كاتب هذه السطور بأنَّ القاسم بن علي الوزير لم يكن قارئاً يحمل توجيهاً قبلياً إلى أركان أو زوايا معينة، بل إنَّه، فضلاً عن انفتاحه المزدوج على الفكر العربي والفكر الغربي، قام في تلك الأبحاث والدراسات والمحاضرات التي احتوى عليها “حرث في حقول المعرفة”، بتنزيل الأفكار ضمن جهازه التَّحليلي وسياقه الإصلاحي. فليست الحروف هي التي تقوده إلى قضاياها، بل إنَّه هو من يأتي بالحروف أو النصوص إلى طبيعة مشكلاته التي يعانيها ويرغب في الخروج من مضائقها. وبهذا، كانت النصوص تعرف مكانتها وموقعها في مشروعه.

إذن، فإن القارئ يجد نفسه أمام عمل راقٍ ومثمر يستحق القراءة والتمعن، لعلو هامة القاسم الذي تناول تلك المواضيع بالدراسة والتحليل، وهو من لم يعطَ حقه في حياته. ونتطلع من الدارسين والنخب المثقفة أن تعيد قراءة فكر هذا المفكر الجبار، والسير على درب رواد النهضة الذين هو أحد نتاجاتهم، لكي يقوموا باستنبات الفكر الحي الذي يخرج أمتنا من غيابة الجب والفكر المتحجر الذي أعاق مسيرتنا نحو مشاركة العالم المتقدم في خدمة البشرية.

يقول الأستاذ عبد الرحمن مطهر في مقالته الموسومة بـ: “الأستاذ القاسم بن علي الوزير.. عرفته بأفكاره ومبادئه”، ما نصه: “استمر المفكر الكبير الأستاذ القاسم بن علي الوزير في الانشغال في قضايا الأمة ومستقبلها. وفي هذا الصدد ألقى الأستاذ الكبير محاضرة قيمة بعنوان “الطريق إلى المستقبل”، في العام 2017، أكد خلالها أهمية مغادرة الماضي الذي نعيشه، ونشتبك مع وقائعه وأحداثه في معارك حقٍّ أو باطل لن تغير منها -على كل حال- في قليل أو كثير.. ولكنها تحبسنا في مجالها، فنظل ندور فيه دوران جمل المعصرة، مع أهمية النظر إلى الماضي بعين فاحصة، نقرأه لا أن نعيشه، وندرسه بشكل علمي وعميق لا أن نستعيده، فذلك شرط لفهم الحاضر وبناء المستقبل”

وفي مقالته الرائعة، كتب الأستاذ “لطف بن لطف قشاشة” عن الراحل تحت عنوان: “القاسم بن علي الوزير.. الرحيل الموجع”، وصفاً الفقيد: “وهو المفكر المثقف صاحب الأطروحات والمشاركات الفكرية والثقافية المتفردة والمتميزة بسعة الأفق وحصافة الرؤى التي تعالج ما استفحل من معضلات وإخفاقات الأمة والبشرية. فهو الحاضر البارز في المنتديات والمؤتمرات العالمية، ناهيك عن العربية والإقليمية. وحين يُذكر اسمه هناك، يدرك المجتمعون أنهم أمام صاحب القول السديد”

(“صوت الشورى” الإلكترونية، 26 يونيو 2024م).

موقف القاسم من الأنظمة المستبدة

كما أن الفقيد مع إخوته قد قضوا جل حياتهم في محاربة الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة في اليمن والبلدان العربية. وما أدق من وصف الفقيد لهذا النوع من الجهاد ضد الطغاة والمستبدين، فهو لم يكتفِ بجلد الطغاة بسوط كلماته المحرقة، بل نجده يشخص حالة الديكتاتور المرضية، فيقول إن: “الديكتاتور يختزل الأمة في شخصه، ويلغي إنسانية الإنسان لتأكيد سيادته، ويصادر حرية الفرد والمجتمع كله إطلاقاً لحريته هو من كل كابح، ويجعل من المجتمع كله مرتعاً لأهوائه، ومجتنى لشهواته، ومجالاً لنزواته، يعيث فيه فساداً، ويظن ذلك حقاً من حقوقه إن لم يعده من فضله على الناس”.

ثم يتكلم عن الآثار السلبية التي تترتب على حكم الديكتاتور وانعكاساته عليه نفسه وعلى المحكومين، فيقول: “ونتيجة لذلك يصبح الأمن هو هاجس الحاكم المستبد، ويصبح الخوف هو سمة المحكوم المستضام، وتتولد من ذلك حالة نفسية تدفع الفرد إلى الانطواء على نفسه، فتتقطع الوشائج في المجتمع، وتتلاشى الثقة بين الناس… وتسود حالة تزييف شامل: للوعي والقيم، وللماضي وللحاضر، وتقوم مناهج التعليم بتزوير ذلك كله.. لخلق جيل مزور -بتشديد وفتح الواو- هو نفسه لا يعرف غير الصنم المستبد وأمجاد الصنم وآلاء الصنم…”

(حرث في حقول المعرفة، ص145-146).

 مضيفاً أن من جرائر الديكتاتورية الموبقة: “أن مآسيها لا تنتهي بنهايتها، وإنما تبدأ فصولاً جديدة من المآسي والكوارث على كل صعيد من الأصعدة”، والتي نشهد ضروباً منها على المسرح العربي اليوم، في اليمن وليبيا ومصر والعراق. وذلك لأن مخلفات الديكتاتور لا تقل فداحة عن وجودها، لأنها استمرار لهذا الوجود ونتيجة له”

(حرث في حقول المعرفة، ص159).

القاسم بن علي الوزير وفكره الموسوعي

فنحن، إذن، أمام شخصية استثنائية غير عادية موسوعية متعددة المواهب. فهو عالم اجتماع كبير، وفقيه، وشاعر، وناثر، وسياسي استطاع أن يقود اتحاد القوى الشعبية -الحزب الذي يعتبر أول حزب طالب بالنظام الجمهوري. كما أن الفقيد مع إخوته قد ظلوا محافظين وأوفياء لتراث آبائهم من مناضلي الثورة الدستورية العظام. ولن أكون مبالغاً إذا ما قلت بأن للفقيد القاسم، طيب الله ثراه، اليد الطولى في صياغة “الميثاق الوطني” الوثيقة الفكرية لـ”المؤتمر الشعبي العام”، حين عمل بمثابة مستشار للرئيس الراحل علي عبدالله صالح، في بداية حكمه. وأكاد أن أجزم بأن تسمية تلك الوثيقة كان تيمناً من القاسم بـ”ميثاق الثورة الدستورية”. وقد يقول قائل: فما دور اللجنة التي كلفت بصياغة الميثاق برئاسة القاضي عبدالكريم العرشي، طيب الله ثراه، وعضوية أعضاء من أحزاب كثيرة؟ أذكر منهم الأستاذ عبدالسلام العنسي وسعيد الحكيمي ويحيى الشامي وعبدالحميد الحدي. فأقول إن تلك اللجنة قد قامت بالاسترشاد بتلك الخطوط العريضة التي صاغها القاسم، وقاموا بالإضافة والحذف والتعديل. وبذلت اللجنة جهوداً، لكن تظل بصمات مفكرنا القاسم واضحة من خلال بصمات فكر مالك بن نبي الذي تأثر به القاسم حد التماهي. وهكذا استطاع الفقيد، طيب الله ثراه، إحياء فكرة الميثاق المقدس للثورة الدستورية من حيث الفكر والمفهوم، كما أنه استطاع أن يجعله بمثابة ميثاق شرف لجميع المكونات السياسية اليمنية، وليس لحزب واحد، بل منبر لكل الأحزاب السياسية البرامجية التنافسية. وفي هذا الصدد، وطالما قد صار الميثاق الوطني المرتكز الرئيس لـحزب المؤتمر الشعبي العام، فيتوجب على المؤتمر الشعبي العام الذي أصبح حزباً مستقلاً، أن يعيد صياغة الميثاق بما يجعله وثيقة تخص المؤتمر الشعبي العام فحسب.

المفكر القاسم وواقع الأمتين العربية والإسلامية

كما أن القاسم تتبع واقع الأمة الإسلامية، ورصده لمختلف ظواهره، لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر، وليضع الحلول المناسبة لمشكلات الأمة، على شكل معادلات رياضية وقوانين دقيقة.

وعليه، فإن أهمية القاسم وسمو اجتهاداته تحتاج إلى دراسة متخصصة قادرة على النفاذ إلى مقاصدها، وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر.فشخصية هذه هي بعض صفاته، فإنه قد حدد مكانه في سجل الخالدين، وسوف يعود حياً بفكره الذي سبق فيه أهل زمنه، وستخلده الأجيال. وأقول له نم، أيها الغائب الحاضر، قرير العين. نم، أيها المفكر التنويري. نم، أيها المبدع التقي النقي والإنسان الأنقى. نم قرير العين، فهناك من سيذكر الأجيال بك وبآبائك الصيد الكرام في “رحلة الألف والمائة والستين عاماً” التي أنجز منها هذه السلسلة المضيئة سفرين، وسيواصل تلك السلسلة الذهبية وبيان مآثر من تلى من الآباء من العفيف محمد بن المفضل الذي حمى أعظم فرق الزيدية الهادوية، وهم المطرفية الذين ما إن مات حتى قضي عليهم عبدالله بن حمزة، مروراً بمن تلاه من أئمة الفكر وحتى أخويه إبراهيم وزيد.

لمحات من شعر القاسم بن علي الوزير الثوري

فمفكرنا القاسم، طيب الله ثراه، حسب شهادة النقاد الذين تناولوا شعره، وتضمنها ديوانه “مجموعات شعرية”، كان نسيج وحده، شاعراً وناثراً ومفكراً قل نظيره، مختلفاً وعميقاً في بساطته، ومبدعاً في سهولته، وجامحاً في نضاله، مدافعاً عن الحريات، متحدياً للطغاة:

قل للطغاة: لئن خسرنا جولةً

                                فلكم بقية يومكم ولنا الغدُ

مروا عليها فجرح غير منطمس                        على الجبين، وفي العينين أكدارُ

وقوله:

جاوز الظالم المدى فارتقبوا            لا يعيش الظلم في الأرض طويلاً

فـالقاسم قد وضع يده على الجرح الغائر لأمته، فحدد الداء وقرر الدواء، فعل ذلك شعراً ونثراً، فقال شعراً:

ينمحي العدل عندما يحكم الـ         ـفرد وتملي قانونها الأوثانُ

وعندما وقفت على قصيدته التي كتبها مواسياً أخاه إبراهيم الذي فقد زوجته، وجدته كأنه يخاطب أخاه زيد الذي غادره وتركه وحيداً بعد أن فقد كل إخوته السبعة:

أخي فديتك، هذا الحزن تعرفه

                                وليس يعرفك الإذعان والخورُ

على المآسي ربتنا مبادئنا

                                نما الشباب عليها، وارتوى الكبرُ

قوم إذا ما ابتلاهم ربهم صبروا

                                وإن أفاء عليهم نعمة شكروا

وما أروع ما جاء في إحدى مراثي الفقيد -التي تضمنتها أعماله الشعرية الكاملة “مجموعات شعرية”- عن الشباب الذين ساروا على خطى الرواد من قادة الأحرار في اليمن، وهو وإخوته بالطبع منهم، إذ وصفهم بقوله:

شباب أراقوا في الجهاد شبابهمُ

                                وأوفوا على الشيخوخة العهد والجهدُ

على أثر الرواد شقوا طريقهمُ

                                وشدوا على تلك العزائم واشتدوا

وقد جاء في مرثية أخرى رثى بها أحد أصدقائه، وصف ينطبق عليه وعلى شقيقيه إبراهيم وزيد تماماً من حيث المثابرة على الجهاد من سن الشباب وحتى الشيخوخة. وإذا كان من مأخذ على الفقيد، فهو أنه كان من أولئك الأشخاص الذين لا يحبون الظهور والبهرجة، ولا يحب الأضواء، أو الشهرة. وما حرصه -رحمه الله- على عدم نشر وطباعة أعماله الشعرية والفكرية إلا دليل على ذلك. فقد كان يتعمد أن ينكر ذاته، ويكتفي بما قاله في محاضراته أو في دراساته وأبحاثه. وبالفعل، لولا ما جمعه أخوه الراحل الأستاذ إبراهيم، أسبل الله عليهما شآبيب رحمته، من أعمال الفقيد الشعرية، ودفع بها للطباعة بعنوان: “مجموعات شعرية”، لما عرفناه شاعراً مجيداً يقف في الصفوف الأولى بين الشعراء العرب. وكذلك لولا قيام أخيه الأستاذ زيد الذي جمع ما تمكن من جمعه من دراسات ومحاضرات الفقيد الفكرية،وقدمها في كتابه الموسوم: “حرث في حقول المعرفة”، لما عرفنا أنه كان عالماً من علماء الاجتماع، ومن المنظرين في الفكر السياسي الحديث. ولو حاولت البحث عن أبيات شعرية تصف رسالة الفقيد لما وجدت أبلغ من قوله في قصيدة رثى بها أحد أصدقائه، وهي تنطبق على صفات الفقيد تماماً:

أدى رسالته وأنكر ذاته

                                بضمير محتسب وروح فدائي

ملأ الحياة ولا تكاد تحسه

                                في زحمة الأطماع والأهواءِ

إلى قوله:                               

ومجاهد أبلى الجهاد شبابه

                                وأتى على الشيخوخة السمحاءِ

حمال أعباء ويؤثر أن يُرى

                                وكأنه خالٍ من الأعباءِ

يمشي بأطراف الحياة ويتقي

                                وهج الضحى بالسير في الأفياءِ

متباعداً عن كل بهرج شهرة

                                مترفعاً عن وزر كل رياءِ

خاتمة وصف عام لفكر القاسم وتوصيات

وإذ نختتم تلك الإنجازات والسمات الفكرية التي كانت تميز فكر مفكرنا القاسم، فإننا نؤكد أن كل كتاباته السياسية تؤكد على القيم الإسلامية ذات التوجه المعتدل، ويسعى لخلق جيل قادر على تحقيق الحياة الكريمة والمواطنة المتساوية. كان هناك تركيز لدى الإصلاحيين على الجمع بين الهوية الإسلامية والمواطنة.

وغني عن البيان ذلك الدور الهام الذي لعبه الراحل مع أشقائه في سبيل انعتاق أمته من سلطة الطغاة، ونير الاستعمار في جنوب الوطن. كما أن للأستاذ القاسم بشكل خاص دوراً في تشكيل الخطاب السياسي لاتحاد القوى الشعبية؛ وأنه شارك بدور فعال في صياغة أدبيات الاتحاد، فهو أحد صانعيه، وأحد قياداته حتى تم انتخابه رئيساً للمجلس الأعلى للاتحاد. وقد انعكس ذلك على الخطاب السياسي للاتحاد، ويتجلى ذلك من خلال:

•              التأكيد على البعد القومي والوحدوي في المطالب السياسية للاتحاد، وربط ذلك بالنضال التحرري من الرجعية والتحرر من القابلية للاستعمار حسب تعبير مالك بن نبي.

•              التركيز على البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية والثقافية الهادفة إلى النهوض باليمن وتحقيق الرفاهية لأبنائه.

•              الدعوة لتطبيق الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، وربطها بضرورة إصلاح النظام السياسي في اليمن.

•              الدعوة إلى التصدي للقوى المحافظة والرجعية في المجتمع اليمني.

وبذلك شكل الفقيد بصماته الفكرية والسياسية على الخطاب السياسي لاتحاد القوى الشعبية قبل وبعد فترة رئاسته له. وهذا ما مكنه من لعب دور محوري في توجيه المشهد السياسي في اليمن، وذلك من عدة جوانب.

ومن يقرأ “حرث في حقول المعرفة” يجد أن للفقيد القاسم إضافات هامة على المستوى الفكري والمنهجي للخطاب السياسي اليمني. فقد استفاد من اطلاعه الواسع على الفلسفة والنظريات السياسية المعاصرة، لتطوير المقاربات التحليلية والتفسيرية للواقع السياسي.

إن الفقيد طرح قضايا جوهرية يشهد بها “حرث في حقول المعرفة”. وغني عن البيان أنه كان ناقداً موضوعياً للواقع السياسي، يركز على طرح القضايا الجوهرية المتعلقة بالنهضة الوطنية والتحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

لقد اتسم خطاب فقيدنا بالطابع الوطني الشامل، بعيداً عن الانتماءات الحزبية الضيقة. وهذا عزز من قبول وتأثير أفكاره على مختلف القوى السياسية. كما أن الفقيد قد امتاز بقدرة عالية على التعبير والإقناع، إذ كان يمتلك موهبة جذب أنظار الحضور بحضوره الهادئ، وكان يمتلك أسلوباً بلاغياً رصيناً وقادراً على التأثير في الجماهير. وهذا ساعد على انتشار أفكاره وخطابه.

أسهم أيضاً في ترجمة أفكاره إلى برامج وممارسات سياسية عملية. وهذا أعطى لخطابه بعداً تطبيقياً ملموساً. بشكل عام، أثرى الأستاذ القاسم الوزير الخطاب السياسي اليمني من خلال إضافاته المتنوعة على المستويات الفكرية والمنهجية والأسلوبية والتطبيقية.

كما اتسمت كتاباته وآراؤه بالوسطية والاعتدال، ونبذ الكراهية والعصبيات العرقية والمذهبية والجهوية. هذا يظهر توجهه الفكري المعتدل والمتوازن.

كان يحمل رسالة ذات بعد إسلامي تنويري إيقاظي، مما يشير إلى أنه كان يسعى لإحياء وإصلاح الفكر الإسلامي.

طور أفكار المفكر الإسلامي مالك بن نبي، وسخرها لخدمة وطنه اليمن، ووظفها في الواقع اليمني.

كما أن القاسم لعب دوراً مهماً في صياغة أدبيات حزبه “اتحاد القوى الشعبية”، الذي وصفه شقيقه بأنه حزب صناعة يمنية، على عكس الأحزاب الأخرى التي تأثرت بأفكار من خارج اليمن. سعى لخلق جيل مستنير قادر على تحقيق الحياة الكريمة والمواطنة المتساوية، وحرص على البحث العلمي والمعرفي لتحقيق هذا الهدف.

ومما سبق، فإنه على الرغم من اهتمام القاسم بقضايا الحضارة ومشكلاتها، فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلاته منحى التجريد والنظر البعيدين عن هموم الأمة الإسلامية وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية؛ بل ظل على الدوام ملتصقاً بواقع أمته، فيتحدث عن تطوير النظام القبلي منطلقاً من الانتقال من فكر الشعارات ذات المضمون السلبي، إلى فكر المحتوى ذي البعد الرسالي النهضوي، راصداً لمختلف التحولات التي تطرأ على الفكر المستنير، كما يتضح ذلك جلياً في كل محاضراته ودراساته سالفة الذكر.

وفي الختام، أسأل الله أن يمد بعمر علامتنا المجتهد المؤرخ والفقيه والمحقق الأستاذ زيد، وأن يمن عليه بدوام الصحة والعافية، وألا يريه بعد القاسم مكروهاً، وأن يعصم قلبه بالصبر والسلوان، وأن يعصم قلوب أهله وذويه وبنيه وأبناء إخوته وكافة آل الوزير، فالمصاب جلل، والفقد عظيم.

اقرأ أيضا:طاهر شمسان يقدم قراءة في شعر الراحل الكبير قاسم بن علي الوزير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى