ثقافة وسياحةكتابات فكرية

عبدالعزيز المقالح .. والمسكوت عنه في حكايته

عبدالعزيز المقالح .. والمسكوت عنه في حكايته

 الأربعاء5فبراير2025_

  • قادري أحمد حيدر

 _ هذه المادة احتواها الكتاب الذي كرس للاحتفاء بمناسبة الذكرى الثانية،   لرحيل فقيد الأدب والفكر العربي، د. عبدالعزيز المقالح ، تحت عنوان ( الذكرى والذاكرة)، ولم تنشر في وسائط التواصل الاجتماعي.

عبدالعزيز المقالح .. والمسكوت عنه في حكايته.

  شاعر لكل الأزمان، ومثقف عضوي دون أن يكلف نفسه حمل خطاب “الجملة الثورية”، انشغل بالهم الوطني والقومي، كتب في الشأن السياسي اليومي الوطني والعربي والإنساني بلغة سياسية هادئة بعيداً عن صخب السياسة اليومي، ولذلك ستجد نفسك حين تعود لقراءة كتاباته الصحافية المنغمسة في الفكر اليومي، ستجدها صالحة للقراءة وكأنها كتبت حول ما يجري اليوم، وبهذا المعنى هو حاضر بيننا شاعراً وسياسياً.

  إن أساس بنيانه المعرفي الفكري الثقافي متين، راسخ على مداميك مكينة في الجمع الخلاق بين الوطني والقومي، وبين الثقافي والسياسي، وبين الأكاديمي والشاعر، وبين القائد الإداري في نظام فاسد، وبين منتهى العفة، ومنتهى النزاهة ونظافة اليد، بين التدريس الجامعي، والاستمرار في البحث الاختصاصي في الكتابة النقدية الأدبية والثقافية، بعيداً عن صخب شعارات الثورجية الزائفة .. وبقي في كل سرديته الحياتية عبد العزيز الشاعر والإنسان .. بقي وفياً لذلك التكوين المعرفي والثقافي الوطني والقومي حتى لحظة رحيله.

  مبكراً بداً المقالح (عبدالعزيز) حكايته مع الوطن، ومع الحلم بالحرية، فارتبط عقله ووجدانه بفكرة التغيير عبر الفعل السياسي الثوري، بعد أن فشلت جميع طرائق ووسائل النصح والوعظ والإرشاد للنظام الإمامي المتحجر والراكد في التاريخ، التي عاش بعض تفاصيلها المرة وهو طفل (مراهق)، حين كان رهينة مع والده في السجن في حجة، وشاهد بأم عينيه مشاهد تفاصيل اغتيال الحلم الوطني الدستوري الكبير بعد سقوط حركة 1948م، وإعدام أبطال الحركة في صورة وجبات قتل/ إعدام كانت تتم في كل أسبوع، وتابع وهو في ريعان الشباب الفكري والسياسي سقوط انقلاب 1955م، والانتفاضات القبلية التي تحركت صوب  فكرة الإصلاح والتغيير، 1959-1961م.

  ومن هذا المشوار الدراماتيكي، الحياتي المأساوي مع الفعل السياسي نمت ورسخت في عقله الضرورة الوطنية والتاريخية لفكرة الإصلاح والتغيير، ومن أنه في البدء كان (يكون) الفعل المتوحد بالقول (الكلمة)، فسبق قوله فعله باختياره “حزب البعث العربي الاشتراكي” إطاراً تنظيمياً لمعنى فعله السياسي ولمعنى حياته الكفاحية الوطنية.

  بدأ عبدالعزيز المقالح حياته كبيراً في كل شيء، في السياسة، وفي الممارسة الحزبية كمسؤول لمنظمة البعث في صنعاء، بعد التحاقه بالبعث وهو في رحلة إلى القاهرة في العام 1958م، نظمه للبعث الأستاذ/ يحيى محمد الشامي، ومنذ ذلك الحين أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، التي كان حاضراً وفاعلاً في كل جريانها الثوري من خلال التنظيم الحزبي، الذي مهد لاحقاً لقيام “تنظيم الضباط الأحرار” الذي فجر الثورة في العام 1962م، كان الشرط السياسي يسبق الكتابة الشعرية عنده، أو هما معاً ترافقا وتزاملا وتعايشاً في بنية عقله الثوري الوطني.

  كان خياره واختياره مستغرقاً في الفعل السياسي الثوري، للتأسيس لبداية الخلق الوطني الجديد، لبلاد منسبة في تاريخ ناء من “القروسطية”، فكان هو ونخبة من المثقفين الأدباء والشباب، هم طلائع ذلك العقل السياسي في يمن الإمامة.

  كان عبدالعزيز المقالح بهدوئه وسلوكه الاجتماعي المؤثر، وعقله الراجح مع صديقه الحميم علي عبدالمغني (القائد الأول لتنظيم الضباط الأحرار)، وجهان لعملة ثورية واحدة، فكلاهما يجمعان بين صورة المثقف والسياسي.

  فأنت لا تستطيع أن تتحدث عن تنظيم الضباط الأحرار بقياداته العسكرية وخلاياه المؤسسة الأولى، دون أن يكون اسم عبدالعزيز المقالح حاضراً فيها، كان قوة جذب ايجابية كبيرة “قوة ناعمة” دافعة ومؤثرة بين رفاقه الشباب من الضباط الأحرار الحالمين بالتغيير، هو من جيل القائد العسكري والسياسي، علي عبدالمغني، بل هو من أصدقائه المقربين، كما كان قريبا من الجميع، لديه حكايات شخصية مع علي عبدالمغني، ومع الجميع، علاقة استمرت متواصلة وحية مع علي عبدالمغني حتى لحظة استشهاده.

  في تقديري أن عبدالعزيز المقالح، هو الاسم الثقافي والشعري والأدبي للثورة – هو وصديقه الكبير/ عبدالله محمد البردوني – بقدر ما كان علي عبدالمغني هو العنوان الحركي الثوري لقيادة تنظيم الضباط الأحرار.. كان حلمه بالتغيير عظيماً قبل قيام الثورة وبعدها مباشرة تجلت روحه الشاعرة في مواكبة مجد الفعل الثوري اليمني في الشمال والجنوب، وهو ما تقوله قصائده التي تجسدت فيها روح الثورة.

  لقد جمع المقالح من بداياته المبكرة بين السياسي والثقافي بين الشاعر والثائر، بين رجل الفعل التنظيمي الثوري، وبين الأديب المعبر عن روح الثورة شعراً وفكراً.

  وفي سياق العملية الثورية بعد قيامها بسنتين، بدأ تدريجياً يتغلب الشاعر على صورة السياسي في داخله، بعد أن شهد ما لا يجب ولا يحب أن يراه في قلب الفعل الثوري، حتى كان قراره بترك العمل الحزبي التنظيمي نهائياً في العام 1965م، وهو ما أخبرني به، وما دونه في مقدمته لكتابي، “الأحزاب القومية في اليمن..” (ص11)، بقى خارج الفعل السياسي الحزبي “التنظيمي” مع بقائه متضمخا ومعجوناً بتفاصيل الهم السياسي والوطني اليمني في الشمال والجنوب، وهو ما تحكيه مجموع قصائده المبكرة وإلى اليوم، من: “لا بد من صنعاء” و”مأرب يتكلم” مع صديقه الشاعر/ عبده عثمان، حتى قصيدته “أعلنت اليأس” التي أرى فيها قمة الحضور في السياسة، وليس انسحاباً منها كما قد يقرأها ويؤولها البعض، هي تعبير عميق عن الجرح في النفس، وعن خيبة الأمل، تعبير عن الألم الذي طال الروح منه في صورة كل ما يجري في البلاد.

  عبدالعزيز المقالح وطني قومي (عربي) حتى العظم كان الهم العربي والقومي هاجسه، ساكنا في خلايا دمه، شرايينه تحكي سفر العروبة، كان ذلك هو عبدالعزيز السياسي، والشاعر، والإنسان حتى لحظة الرحيل.

  فرغم الانتكاسات، والهزائم التي لحقت بنا وطنياً وقومياً، كان يتنفس الهواء الوطني، والعربي التحرري الديمقراطي.

  في أواخر العام 1964 حتى بدايات العام 1966م، ومع تصاعد أزمة القيادة الجمهورية السبتمبرية، وبداية التجنحات في قلب الثورة يمينا ويساراً، وجد أن لا مكان له في قلب ذلك الصراع والتوترات وخاصة بعد اغتيال الشهيد الشاعر القريب إلى قلبه، محمد محمود الزبيري، فقد أحدث ذلك الاغتيال، بصرف النظر عمن يقف خلفه، شرخاً عميقاً في نفسه ووجدانه، أكدت له أن أزمة القيادة في الصف الجمهوري ستطول وستحسم لغير صالح المبادئ والقيم الكبرى للثورة، فكان قراره بالعمل في الجامعة العربية، ومن هناك بدأ يرتب أموره لاستكمال دراسته الجامعية العليا، ومواصلة رحلته الإبداعية الشعرية والفكرية والنقدية، حتى استكماله دراسة الماجستير والدكتوارة، بعد أن رأى تراجع الفعل السياسي الوطني لصالح ما عداه من الخيارات التي لا تتفق مع رؤيته حول الثورة ومعناها.

  بعد خروجه من صنعاء إلى مصر للعمل في الجامعة العربية، طغى الهم الثقافي والشعري والأدبي على حياته، وتراجع تدريجياً الشغل السياسي اليومي الذي بدأ به حياته، بعد أن لمس مباشرة حرف مسار الثورة عن خطها ونهجها الذي مثلته أهداف ومبادئ الثورة السبتمبرية التي كان في قلبها، وبعد أن وجد أن عودته للبلاد غير مرحباً بها، بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، التي لم يجد فيها نفسه وروحه، مفضلاً البقاء في مصر العروبة، حتى كان قرار السادات بترحيله وجميع المعارضين لزيارته للكنيست الصهيوني، وعودته إلى صنعاء، ورئاسته لمركز الدراسات والبحوث،  وبعدها مديرا لجامعة صنعاء، حتى لحظة رحيله ..

  رحل الصديق النبيل، والشاعر الكبير، عنا وهو يصارع من أجل الحياة الكريمة للإنسان اليمني، ولم تتوقف كتاباته السياسية والثقافية حول همومنا وقضايانا الوطنية والقومية، حتى السنة التي سبقت رحيله، بعد أن افقده وأقعده تعب الجسد عن القدرة على الكتابة.. كانت كتاباته السياسية حاضرة في الصحافة اليمنية: صحيفة “الثورة” وصحيفة “26 سبتمبر”, بصورة أسبوعية وبأشكال متقطعة في الصحف اليمنية المختلفة، حتى كتاباته الأسبوعية التي لم تنقطع في الصحافة العربية “صحيفة الخليج” وصحف قطرية مختلفة، فضلا عن كتاباته الشهرية في مجلة “الدوحة” ومجلة “دبي الثقافية”، وغيرها من المجلات والصحف العربية، كتابات يجتمع ويتوحد فيها الثقافي بالسياسي، مع تغليبه لأسمه كشاعر ومثقف عربي كبير.. في كتاباته كان يبحث عن الذات، وعن الوطن.. رحل عنا وهو لا يكف يكتب عن معنى تعميق الصلة بين الوطني والقومي العربي، كان يرى في فلسطين القضية المركزية لكل العرب، ومن أن القومي الجيد هو وطني ممتاز، تلكم هي خلاصة رؤيته للجدل الخلاق بين الوطني والقومي. كانت القيادات الفلسطينية المختلفة ترى فيه وفي سلوكه اليومي، وفي كل ما يكتب عنواناً ومحاولات لتصويب البوصلة القومية، ودفعها في الاتجاه الصحيح، كان مكتبه في “مركز الدراسات والبحوث اليمني”، وفي جامعة صنعاء، مزارا ومحجاً للجميع، وكان “المؤتمر القومي العربي” خياره واتصالاته برموز الفكر القومي العربي لم تتوقف، وهو المثقف اليساري الوطني والتقدمي العربي؛ وبهذا المعنى عاد للسياسة من بوابة حركة التحرر الوطني العربية، في صورة القضية الفلسطينية، والمقاومة الفلسطينية، التي خلدها في ندوة كبيرة حظرها مجموعة كبيرة من المثقفين والأدباء العرب، ومن رجال السياسة، ندوة عظيمة عقدت في العاصمة صنعاء في تمجيد المقاومة، والانتفاضة الفلسطينية.

  القضية الفلسطينية التي تتعرض اليوم لمحاولة التصفية السياسية والعسكرية،” حرب إبادة”, والتي تعلن وتسطر اليوم، رغم المجازر، أبهى أيامها المجيدة..  كم كان سيكون سعيداً وحزيناً في نفس الوقت، على ما يجري في فلسطين اليوم، سعيداً لاستعادة المقاومة لروحها الفدائية العظيمة، وحزيناً على الخذلان السياسي العربي لها.

  رحم الله الشاعر والصديق الجميل، عبدالعزيز المقالح وإلى جنة الخلد إن شاء الله.

اقرأ أيضا للكاتب:قادري حيدر يكتب عن المقاومة الفلسطينية .. بين البطولة والنقد الخائن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى