المولد النبوي .. من الطقس الفردي إلى الحدث الوجودي

المولد النبوي .. من الطقس الفردي إلى الحدث الوجودي

المولد النبوي .. من الطقس الفردي إلى الحدث الوجودي
- أمين الجبر
الجمعة 5 سبتمبر 2025-
تمكّن الشعب اليمني بمقدرة لافتة، من تفجير طاقة الروح الكامنة في مناسبة ظلّت لدهرٍ تُختزل في إطار الطقس الفردي والتكرار الشكلي، فحولها من مجرّد ذكرى تتردّد أصداؤها في صحون الجوامع وأروقة المجالس باستحياء، إلى حدثٍ وجوديٍ ضخم، يُعلن عن نفسه بقوة على مسرح التاريخ، ويُوقّع باسم اليمن على ميثاقٍ جديدٍ للوعي الجمعي، كما شاهده العالم اجمع يوم أمس الخميس.
لم يكن إنجازه محضَ استنفارٍ للطاقات أو توظيفٍ للإمكانات فحسب، بل كان عمليّة تحويل جوهريّة، انتُزعت فيها المناسبة من سجن المذهبية الضيقة والأداء التقليدي الباهت، لِتُطلق في فضاءات المطلق الروحي، وتُعانق عالمية الرسالة المحمدية التي تتّسع للوجود الإنساني كله. لقد صاغ من لحظة الذكرى مرآة عاكسة لعظمة الإسلام، وشهادةً على حيوية حضوره كقوة إيمانية متجددة في وجدان الأمة.
بلى، قد يثور الجدل في الهوامش: حول المشروعية، وحول الجواز، وحول منطق البذخ في زمن الجوع وانقطاع الراتب. لكنّ الشعب اليمني بتلك الإرادة الصوفيّة-السياسية الفذّة، منح الذكرى زخماً وجودياً يتجاوز سجالات الفقهاء، ليُعيد إحياء المقدّس في صورته الحيّة المتجذّرة، بعد أن كادت السياسة وتيارات التمذهب أن تطمس معالمه تحت ركام التبرير والتأجيل.
إنّ المناسبات الدينية، وعلى رأسها ذكرى المولد النبوي، ينبغي أن تُؤسّس في الوعي العام كمحطّاتٍ للمراجعة الوجودية، ومحطّاتٍ للتزود المعنوي، ولإعادة تشكيل نسيج الوئام الاجتماعي. إنها نقاط انطلاق نحو تفعيل الاستراتيجيات الكبرى للإسلام، واستعادة دوره الحضاري الجامع.
لا يُعقل حَصرُ هذا الجهد الجبّار في دائرة التحشيد الساذج، فالقائمون عليه تجاوزوا مرحلة حشد القطيع – إن جاز التعبير – إلى مرحلة صناعة الواقع الذي يفرض نفسه بصلابةٍ على الحسابات الإقليمية والدولية، ويُملِي، لا أجندته فحسب، بل ومنطقَه العسكري والسياسي في البرّ والبحر. واقعٌ يكاد يبلغ درجة السكون الداخلي والرضى التوافقي، لولا بعض التذمّر العابر، ابن رحلة الانقطاع المادي.
إنهم ينظرون من علياء المشروع الكبير، وبمنظورٍ يتّسع لأفق طموحاتهم التي لا تحدّها حدود. إنّ طرحهم الذي يكرّرونه في كل محفل، ليس شعاراً أجوف، بل هو تعبير عن رؤية كونية ترفض الاعتبارات الضيقة، وتتخطى النظرة المذهبية القاصرة. إنهم يرسمون خريطة العالم الإسلامي اليوم بثنائية حادّة: معسكرٌ للمقاومة والممانعة، يقابله معسكرٌ للتطبيع والتمويه (المماتعة). في هذا المشهد المتشظي بفعل تسارع الأحداث العالمية، لا مكان لـ”بين بين”، ولا للمراوغة أو المداهنة. المعيار هو الوضوح: إمّا مع، أو ضد. لقد أُلغيت المنطقة الرمادية من قاموس السياسة البراغماتية الجديدة.
في ظلّ هذه الحَدّية الإيمانية، وهذه المعيارية المطلقة، تتلاشى كل المبرّرات والتسويفات، وتذوب كل الفروقات والتناقضات الثانوية. ليُصبِح الكلُّ الإسلامي جبهةً واحدة في خندقٍ واحد، يواجه عدواً واحداً. لا عذرَ لمتخاذلٍ أو لمُتحاذقٍ متلبّس بلبوس المعاذير.
هم، في التحليل الأخير، يمثّلون طفرةً نوعية – أو لنقل نقلة وجودية – في مسار الحراك الإسلامي الساكن. نقلةٌ نقلت الأمّة من دوّامة التنظير التبريري المزمن، إلى فضاء الفعل البراغماتي الممكن. وذلك بغضّ النظر عن الخلافات البينية والتقاطعات الفكرية التي يمكن، بحسب منطقهم، تجاوزها والانصهار فوقها في بوتقة المشروع الإيماني الجامع، تبعاً لمتطلّبات المرحلة الجهادية، وانسجاماً مع منطق التوحّد الذي يفرضه المشروع القرآني العالمي الذي يرفعونه. فهم، في تقدير أنفسهم، الأجدرَ بالمبادرة، والأقوى إمكاناً، والأجرأ فعلاً، بل والأصدق قولاً وعملاً.
فهل يمتلك الاجتماع السياسي اليمني، بكل نخبه، الحساسيةَ الفلسفية والجرأةَ التاريخية لالتقاط هذه اللحظة المتعالية؟ واستغلال زمام المبادرة فيها؟ بل وهل يمتلك الاجتماع السياسي للأمة، بكل أطيافه، والإرادة الجماعية للشعوب التوّاقة إلى الحرية والعدالة، القدرة على تجاوز رواسب المذهبيات التي تستعبد الذهنيات، وتحزّباتٍ تشطر العقول، وجدلياتٍ أيديولوجيةٍ تقيّد الفكر وتُعطّل الإرادة؟
الأمر، في جوهره، ممكن وسهل، لو انكشفت النوايا، وامتدت أيادي التنازل.
اقرأ أيضا:محمديون في وجه الاستكبار: في ذكرى المولد النبوي الشريف دروس التاريخ وإسقاطات الحاضر
